ترى الناقدة السورية أن السرد التوالدي لرواية زافون واشج بين الواقع والخيال، وأن المتعة تحققت من خلال السرانيّة التي تحيط بمقبرة الكتب، رغما عن الخط المتصاعد للأحداث، كما أن تعدد الأجواء السردية وروحها المموسقة أكد أن الحب وجه الحياة الآخر وذاكرتها.

رواية ظل الريح - كارلوس زافون

دعـد ديـب

 

مقبرة الكتب المنسية، ما من عنوان يشبهه في الإثارة، ما من مثله يشعل فينا الرغبة والشوق، للتوغل في معناه والوصول الى مراميه.. مقبرة؟ هل ثمة مقبرة للكتب؟ والكتب المنسية كذلك؛ العنوان الفرعي الأبرز لرواية ظل الريح للكاتب كارلوس زافون؛ الصادرة عن دار مسكيلياني للنشر بترجمة التونسي معاوية عبد المجيد لعام 2016.

فالكتب التي لا تأخذ حظها من الانتشار ترمى في قبو معتم له حارس يشرف عليه، قبو لا يعرفه إلا قلة من المهتمين بالكتب والأعمال المندثرة، بإيهام أن الكتب أرواح تتجول عبر العصور إلى أن تجد قارئًا تصب في عقله وتنسكب في روحه، فالكتاب الجيد ليس بالضرورة ذاك الذي يحقق انتشارًا أكبر، قد يكون الكتاب جيدًا ولسبب ما منعت الناس من معرفته والوصول إليه.

رواية وصفها كثيرون بأنها تشبه لعبة الماتريوشكا الروسية، لعبة تخبأ بداخلها لعبة أو تتشابه مع حكايات ألف ليلة وليلة، حيث كل حكاية ينبثق منها حكاية وهكذا إلى عدد غير محدد من الحكايات، وقد تكون الحالة أشبه بتقنية الرواية ضمن رواية، حيث ينهض العمل بشخصيات محتشدة، دون أن يشعر القارئ بأن أحدهما زائد أو لا لزوم له، ويتحرك الأبطال من الرواية إلى الواقع ليتشابكا بين الحقيقة والخيال، لتندمج الرواية مع الحياة، حيث يصبح كاتب الرواية المغمورة بطلًا جديدًا يتشارك مع مريديه، في الحدث المتوتر في سرد تشويقي بديع يحبس الأنفاس.

دانيال سيمبيري الولد الذي يتعهد بكتمان سر وجود قبو الكتب ويلاحق رواية ظل الريح طفلًا، ويستمر عالقًا بها حتى شبابه، ليتقصى أحوال مؤلفها وأعماله التي تختفي لسبب غير معروف، وتحرق نسخها ويلاحق مقتنوها، ليتعرف أثناء بحثه على مجموعة من عاشقي الكتب، بدءًا من أبيه الرجل الرقيق العصامي؛ إلىغوستابو برسلوه خبير الكتب؛ والصبية كلارا العمياء الشغوفة بالقراءة؛ وفيرمين روميرو، المطارد من نظام فرانكو الفاشي؛ لتشكل الاوضاع السياسية القلقة إبان حكم الديكتاتور خلفية للأحداث، التي تتجسد شخوصها المتخيلة بعبقرية كاتب السيناريو الذي يمتلك حسًا بصريًا لافتًا، في تصويره لحياة الفتى المتوازية والمتداخلة، مع حكاية المؤلف الآخر خوليان كاركاس، مع جرعة إلى الأمام لحياة الفتى دانيال فكلاهما عاشق لحبيبة صعبة المنال، تفشل خططهما بالفرار وبناء حياة جديدة بعيدة عن الظروف الظالمة التي نشأ الحب في ظلالها، الهروب الذي لم يكتب له النجاح للثنائي الاول، تفعله العاشقة الثانية بيا بمغامرة عاطفية ذات صبغة ثورية، وبفارق الفشل والإحباط للأول وجهله بكون حبيبته هي أخته غير الشقيقة، والسلاسة والنجاح للفتى وحبيبته المعبران عن شرارة الأمل وروح المستقبل.

لايين كوبيرت الرجل المقنع المجهول الذي يخرج من نص الرواية المحفوظة في القبو، ويتجول ليقابل ويتحدث مع الشخصيات الواقعية، ويقوم بحرق نسخ رواية كاراكاس وملاحقتها أينما وجدت، لنفاجئ بالنهاية إنه الكاتب نفسه يقوم بحرق كتبه كرد فعل على مصرع حبيبته وجنينها، وهو الذي انتظر لقاءه بها أكثر من سبع سنوات ويكتب وينسج رواياته على إشعاع ذاك الأمل الذي انطفأ.

وبعيدًا عن التقنيات السردية وألوان التحديث والتغريب فهدف المتعة وهو الأساسي في كل نص، متحقق بامتياز في هذه الرواية، والحديث عن متعة القراءة والدخول في عوالمها يعطيها سحرًا مضاعفًا، فالسرانية والخصوصية التي تحيط بمقبرة الكتب السرية تعطي للقارئ الشغوف ميزة استثنائية وأهمية متصاعدة تغرقه في متابعة الحدث وتتبع مجرياته والغوص في تفاصيله.

الحبكة البوليسية والبعد الرومانسي والعذوبة التي يرد فيها تصوير الشخصيات العاشقة، لا يجعلنا نتجاوز سذاجة الاتجاه الواحد الذي تحكم الشخصية الروائية فالشرير شرير من يومه، والخير الأصيل في الذات لا يتغير بتغير الظروف، وهذا بحد ذاته غير واقعي، فالنفس البشرية مليئة بالتناقضات، فشخصية المحقق خافيير فوميروغيورة وحاقدة منذ الطفولة، وغدرت بكاركاس على الرغم من كونه هو الوحيد الذي تعاطف معه ومع ظروفه، وهو الذي أدخله في مجموعة الشبان الميسورين في المؤسسة التعليمية، ويتجول معه الرعب حيثما حل، كذراع للديكتاتورية حينًا وقاتلاً مأجوراً حينًا آخر، وإن كان الأمر مقبولًا بحكايات الأطفال الذي استغرقت من الكاتب جل أعماله، فهي تؤخذ عليه في عمل روائي طويل ضمن حمى التقنيات والأساليب الحديثة في القص والسرد.

الإعتداء الأمني الذي حصل على الدون فيدريكو، الساعاتي، جار أسرة دانيال في الحي، الشخصية ذات الميول المثلية، والتي لاقت التنكيل والتشهير على أيدي عناصر الشرطة، قابلها التعاطف الفطري والإنساني من أهل الحي، ولعل الكاتب هنا لا يبدو مهتمًا بالتوغل في إشكالية الجندر من حيث قبولها أورفضها وحتى تقييمها ضمن النمط المحافظ للعلاقات الاجتماعية، والدخول في نوازعها وبناها النفسية، ولكنها بالمقارنة مع الشخصيات العنفية والكارهة للحياة والحاقدة، يعطيك إيحاء بأنها على الأقل لاتؤذي أحدًا بميولها الخاصة ولاتشكل ضررًا عامًا.

على الرغم من الخط الأفقي الكلاسيكي المتصاعد في الأحداث فلقد كان تعدد الأجواء السردية في رواية ظل الريح وتناغم الاحاسيس الروحية كأغنية مموسقة ترد مع كلمات الأسطر الأخيرة من مذكّرة نوريا العاشقة الثانية للمؤلف في رسالتها قبيل مصرعها: "نحن نستمرّ في الحياة في ذاكرة من يحبّنا، أشعر بأنّني أعرفك وأنّني أثق فيك، اذكرني دوما يا دانيال حتى لو في سرّك.. في إحدى زوايا قلبك، حافظ عليّ في قلبك إلى الأبد"، ليكون الحب وجه الحياة الآخر، وذاكرتها العصية على الفناء.