يرى الناقد المصري أن تنوع السارد ساهم في إضفاء الحركة علي الحدث، كما ساهم في تنوع المشاهد، وخروجها عن النمط التصاعدي، الذي يُبعد السرد عن لغة الحكي التقليدي، كما ساهم في عدم استنامة القارئ إلي الحكاية، خاصة إذا ما كان أكثر الحديث يدور حول المرأة، وتجاربها الحياتية.

رحلة مصر بالحافلة 104 القاهرة

شوقي عبدالحميد يحيى

 

بعد تجربتين في كتابة القصة القصيرة، ( "فنجان قهوة"2007، "سعادة السوبر ماركت" 2009) لا تلبث ضحي عاصي أن تلجأ إلي كتابة الرواية، دون أن تتمرد علي القصة القصيرة، حيث كتبت روايتها بنفس إسلوب وطريقة القصة القصيرة، الأمر الذي يمكن أن نعتبر روايتها قصة قصيرة، وإن وصلت صفحاتها إلي المائتين وخمسين صفحة. فقد بدأت روايتها من النهاية،(الإسلوب الدائري) واعتمدت في أحداثها علي عملية الاسترجاع، دون أن تكشف كل النهاية لتحرق عملها من البداية، وإنما كما لو أنها تحدد زمن الرواية الخارجي (زمن الكتابة) بتلك الفترة التي ربما لم تستغرق سوي قراءة رُبعين من القرآن الكريم في صوان عزاء البطلة، التي استرجعت حياتها كلها، عبر مذكراتها، التي تركتها تتحدث بلغتها، وإسلوبها حينا، وحينا يخرج سارد خارجي ليعرض أمامنا شريط سينمائي يترك فيه المشهد لأبطاله كي يتحدثون عن أنفسهم، فساهم تنوع السارد في إضفاء الحركة علي الحدث، كما ساهم في تنوع المشاهد، وخروجها عن النمط التصاعدي، الذي يُبعد السرد عن لغة الحكي التقليدي، كما ساهم في عدم استنامة القارئ إلي الحكاية، خاصة إذا ما كان أكثر الحديث يدور حول المرأة، وتجاربها الحياتية مثلما فعلت ضحي عاصي في روايتها المُدهشة "104 القاهرة"[1]. وإن كان البعض ممن تناولوا الرواية قد اجتذبهم ذلك الجانب، فتغافلوا عن تلك الإشارات بطول الرواية، وطوال فترة الزمن الداخلي (زمن الأحداث)، والممتد من قبيل العام 1952 إلي العام 2011، التي تدعوه بين فترة وأخري للإستيقاظ والتنبه لما تشير إليه تلك الإشارات. وإن كانت الكاتبة قد نصبت شباكها بالعديد من التجارب النسائية المتداخلة والمتشابكة، والمعبرة بخبرة وحرفية عن أعماق المرأة لتُخرج مكنون نفسها. والتي تثبت قدرة الكاتبة علي التحكم في كل تلك الشخصيات المتنوعة، وتجاربهم المختلفة، لتصهرها جميعها في بؤرة مركزية، نستطيع القول بأنها لم تغب عن الكاتبة لحظة أثناء الكتابة، ووعيها وصبرها علي نسجها جميعا لتُخرج في النهاية لوحة إجتماعية سياسية ثقافية فنية، ولتتعدد الرؤي، ويتعدد التناول لها، ولتضع ضحي عاصي نفسها في مصاف الكتاب ذوي الخبرة الطويلة، وليست تجربة أولي.

يبدأ المشهد الافتتاحي بالزوج "حسن" في عزاء زوجته "إنشراح" ويتعجب، كيف لزوجته هو "الأسطي حسن" أن ياتيها كل هذه السيارات الفاخرة، وكل هذه الوجوه التي عرفها إما عن طريق التليفزيون أو الصحافة. وليعود بناالسرد إلي بدايات "إنشراح" تلك المرأة المركبة تركيبا عجيبا. الفلاحة ، المتعلمة دون أن تكمل تعليمها. التي تصنع الأحجبة وتقرأ الكف وتصنع الأعمال. المثقفة، فقط عن طريق السماع ومعرفة كبار الكتاب والمفكرين. تلك المرأة المركبة التي أحاط بها كل أطياف المجتمع، حتي يمكن القول بأن بيتها أصبح بيت العائلة المصرية. وأن "إنشراح" هي عمود الخيمة في العمل. وبدراسة شخصيتها والشخصيات المحيطة بها، يمكن ان نقرأ العمل، علي أنه يجب الإشارة إلي أن الكاتبة قد وزعت أشلاء كا الشخصيات علي مدار الصفحات، المر الذي يتطلب ضرورة تجميع معالم كل شخصية، كي تتضح الصورة، ونتعرف علي ذلك الرابط الخفي الذي يربط كل تلك الشخصيات ب"إنشراح".

تعود الكاتبة ب"إنشراح" إلي سني نشأتها الأولي، قبيل العام 1952 في حماية ورعاية جدتها "نرجس، التي عُرفت، وأحبها الجميع لما تقدمه من خدمات، مستخدمة القوي الخفية، حيث أورثت حفيدتها العهد. فتبدأ أفعالها بذلك الزائر الليلي الذي يأتيها، ليبلغها حقيقتها، ونعلم عن طريقه جوهر شخصة "إنشراح" وجوهر الرواية بأكملها، حيث يأتيها بعد موت جدتها "نرجس" ليبلغها: {أنت قوية، تأكدي لن يحدث لك شئ سئ ومهما حدثت لك أشياء قاسية ستتغلبين عليها وتحولينها لصالحك، انا أحبك يا إنشراح لأنك مثلي تمتلكين فيريل، ولذا ستكونين أهلا لسيادة جسدك والناس والعالم} ثم رسالة أخري {لا تؤلمك الأشياء الصغيرة التي تجرحك وأنت محبوسة داخل هذا الجسد. عندما نموت نتحرر من أزمة الإنسان الكبري، الخوف}ص14. لتصبح هذه الرسالة هي الدستور لقراءة الرواية، وهي البؤرة لتي تُجمع كل الخيوط من حولها... الجسد ... الحرية. حيث يخرج الجسد من حساباتها.

لم يكن أحد الواجبات الأساسية في أسرة "إنشراح" مبدأ التعليم، إلا ان جارة لهم اقنعت أمها "حياة" أن تذهب إنشراح إلي المدرسة لتكون ونيسة لإبنتهم، علي أن تتكفل هي بتكاليف تعليمها. غير أنها عندما انتفت الحاجة لذلك، تخلت عن وعدها، فأرادت أسرتها إخراجها، غير أنه أمام إلحاحها، وتأكيد المُدَرِسة علي تفوقها، يتعهد الأخ الأكبر "سيد" أن يتكفل هو بالإنفاق عليها. غير أنه تحت إلحاح وتهديد " ليلي" زوجته يتوقف هو أيضا عن الإنفاق، لتخرج إنشراح من التعليم في المرحلة الإعدادية. تلك المرحلة التي تعرفت فيها علي جارهم "إبراهيم الدريني" الذي يُذيقها أول رحيق للحياة، ويصطحبها معه حتي حين ذهب إلي الجامعة، ويتواعدا علي الزواج، إلا انه يسافر في بعثة إلي فرنسا، وتنتظر "إنشراح" عودة الغائب الذي انقطعت اتصالاته، وطال الانتظار، وضاع الأمل في أحلامها، وفي عودته، ليتقدم لها " الأسطي حسن" الذي يصغرها بنحو عشر سنوات، ياتيها الزائر الليلي ويقنعها بقبول الحاضر، وألا تعيش علي الماضي أو المستقبل، فالماضي لن يعود، والمستقبل ينبني علي الحاضر، فتقبل الزواج من "حسن" وهي لا تدري الأسباب التي دفعته لطلبها، رغم أنه يعلم ما كان بينها وبين "خاله إبراهيم" لتواجه بذلك التصرف الغريب له معها، حيث أصبحت أم في صورة زوجة، واصبحت لا تراه أكثر من ربع الساعة في اليوم، حيث انفصل عنها، جسديا وروحيا، وليعيش هو طوال الليل متقوقعا في حجرته مع الحشيش والفديوهات الجنسية. لتجد إنشراح نفسها إنسانة مجروحة، ومصدومة، من كراهية وضغط "ليلي" علي أخيها الذي تخلي عن تعليهما، وصدمة ضياع الأمل مع "إبراهيم"، وغياب الزوج الشكلي "حسن" لتواجه الحياة منفردة، فتعمل في البيوت، ليمنحها ذلك فرصة التعرف علي العديد من النماذج، النسائية والرجالية معا، لتجد في كل منهن جزءا من إحتياجها الداخلي، وكأنهن شذرات منها. ومنهن: ناهد، وغادة، ونوال، وزوبة. حيث تم الغدر بكل منهن.

فتتعرف علي "ناهد" ابنة الدكتور مصطفي الرزيقي، الفقيه القانوني، والذي تحول فيما سنعرف بعد ذلك أنه اصبح "ترزي القوانين" للدولة. تعرفت "ناهد" علي "عدنان" الفلسطيني" الذي ما علم بإنهيار وقتل أهله بعد هجوم إسرائيل علي مخيمي "صابرا وشاتيلا" حتي ذهبت إليه تواسيه، ودون أن تشعر تحمل منه، فتساعدها إنشراح في التخلص من الجنين، ولتصبح "ناهد" مغدورة أو مطعونة، لا من الشاب الفلسطيني، وإنما من الغدر الإسرائلي، الذي قضي علي أحلامها بالمستقبل، ولتتزوج بعد ذلك من قريب العائلة، الشاب الوصولي "مجدي الليموني" الذي هجرها، وانشغل بمشروعاته، حتي نهشها الجوع الجسدي، للحد الذي تخرج علي الخدم عارية إلا من ورقة التوت، ولما تعنفها "إنشراح" تخبرها بأن جسدها لم يعد يُهم أحدا، ولا يثير أحدا، فتستسلم لأعمال انشراح، التي تتعجب: {هل من الممكن أن تكون ناهد ابنة الدكتور مصطفي الرزيقي، تلك الفتاة التي ملآت المعادي ضجيجا وصخبا بحيويتها وجمالها وعلمها وثقافتها الواسعة، ضعيفة إلي هذا الحد فتصدق خرافاتي التي ابتدعتها حتي أنقذها من ألسنة الشغالين؟ هل لهذه الدرجة كسرها رجل؟ هل إهمال مجدي لجسدها يصل بها لهذه الدرجة؟}ص172. { أصبحت ناهد هشة، نعم فقدت ناهد ثقتها بأنوثتها وبنفسها، فقدت أصلا الإحساس بأنها أنثي وأنها مرغوبة وأنها تملك جسدا ربما يشتهيه رجل، لدرجة أنها خرجت علي الرجال عارية دون أن تشعر بالخجل، ناهد علي حافة الجنون... إن علاج ناهد الوحيد أن يقع في غرامها رجل ترتضيه وتحبه، يعيد لها ثقتها بنفسها، ولكن من أين تأتي انشراح بمثل هذا الرجل؟ وهل تستطيع أي قوة في العالم –حتي السحر- أن تجعل أحدا يحب أحدا؟}ص172. وتستسلم لوصفة "إنشراح" فتعيش سهرات الخميس الحمراء مع الجن الأسمر، تشبع الجسد معه، غير أنها في النهاية تشعر أنها تمارس العادة السرية ليس إلا، وأن إحتياجها للرجل، لأنفاس الرجل الحقيقي يعود لينهش في جسدها.

وحيث أن "إنشراح" تعيش أيضا مع زائرها الليلي الذي يلقنها ويرشدها، وفي عملية ربط بين الإثنتين، تبادر "إنشراح" وكانها تُقنع نفسها بأن ما بينها وبين زائرها الليلي، يختلف عما بين إنشراح وجنها الأسمر ، فتبادر بإقناع نفسها { {انهارت إنشراح قائلة: أنا مش عايزة أرواح معايا، أنا مش نرجس، وحتي لما كنت بعمل وصفاتها كنت مقتنعة إن دا نوع من العلاج النفسي، حاجة تصبر الناس وتديهم أمل يخففوا به وجعهم، لحد ما يقدروا يعدوا أزمتهم، ومش هأقبل تكون حياتي تحت رحمة جان يسخرني ويأمرني}ص181. كما تكشف كلمتها، عن طبيعة تلك الشخصية المركبة، والمعبرة عن طبيعة الشخصية المصرية، الخاضعة للنسق الثقافي، رغم القناعة بخرافيته. كما أنه يعد من قبيل الربط بين كل من "ناهد" وإنشراح"، أن "ناهد" هي من جمعت بين "إنشراح" و الفنان"أشرف" الذي سيلعب دورا مهما في حياة "إنشراح" علي نحو ما سنري.

كما تتعرف "إنشراح" علي "غادة" من خلال هلوسات " عادل" المسيحي الذي ذاب فيها حبا، وأنه علي استعداد لتغيير دينه، وخسارة أهله والتضحية بكل شئ من أجلها. غير أن "غادة" ابنة أهم من كان يكتب شعارات المظاهرات في 72، 77، والذي لقنها أشعار أمل دنقل "الكعكة الحجرية" و "لا تصالح" لم تكن لتقبل بالزواج بهذا الثراء الذي يمثله عادل، فترفضه لأنه "غني" ولتتعجب "إنشراح"، التي توسطت بينهما، من تلك التي ترفض الزواج لأن المتقدم يملك الكثير. ولتقيم الكاتبة أواصر التشابه، إن لم يكن التطابق بين كل من "غادة" و"إنشراح"، حيث تطلب "غادة" من إنشراح أن تقابلها في جروبي. وهناك تسأل "غادة" : هل أعجبك المكان؟ علي اعتبار أن إنشراح لم تكن تعلم بهذا المكان من قبل، فتجيب إنشراح:

{جروبي ده المكان اللي أمي كانت متعودة تفسحني فيه، نظرت إلي نفسها قائلة: ما تستغربيش العباية البلدي اللي انا لابساها، أنا عارفه إن جروبي ده بتاع البشوات.

قاطعتها "غادة" قائلة: لا أنا مستغربة حاجة تانية، أصل بابا الله يرحمه برضه كان متعود يفسحني هنا، المكان ده أقرب مكان لروحه، بصراحة مش جروبي أقرب مكان لروحه الميدان اللي في آخر الشارع . ميدان التحرير – الكعكة الحجرية}ص121. كما تُسرب الكاتبة عنصر ربط جديد بين الخاص والعام، بإشارتها الأخيرة إلي ميدان التحرير والكعكة الحجرية.

ولنتبين بعد ذلك أن "غادة" قد تزوجت من "حاتم" لسبع سنوات ، زواج عرفي، ودون أن تفصح بذلك لأحد حتي تحافظ علي استقرار أسرته، وعدم جرح زوجته. حتي حملت منه، وأنزلت الجنين، دون أن تخبره حتي بذلك، حتي لا تتسبب في إيذاء المحبوب، الذي قبلت به دون أي مقابل، إلي أن تُفاجأ في أحد الأيام بورقة الطلاق وقد تركها في البيت الذي كان يجتمع بها فيه، دون أن تعلم سبب ذلك. حتي تفاجأ به بعد سنوات، ياتي إلي "إنشراح" لتتوسط له عند "نوال" كي ترضي به زوجا علي يد مأذون. ولنستطيع هنا أن نكتشف بأن "غادة "عاشت الحب، أَحَبَت وأُحِبت، فقد أحبها "عادل" وهي أحبت "حاتم" وهو العنصر الغائب في حياة "إنشراح" بعد أن غاب عنها منذ أن رحل عنها "إبراهيم" وعاشت تتمني وتحلم بعودته، حتي بعد زواجها من "حسن". وليقودنا ذلك إلي التعرف علي من تكون "منال" . فمنال، هي الزوجة التي إختارتها "ليلي" زوجة أخيها "سيد"، زوجة لإبنها "طارق" وبالغت في إحتفالات الفرح، حتي مات "سيد" وكانت "منال" في بدايات حملها، فاسرعت "ليلي" وابنتها للتخلص من الجنين، بل واتهمتها أمام زوجها "طارق" بأن الحمل إبن غير شرعي، ولتنتشل"إنشراح" "نوال" من حزنها. وحتي تنتقم لها – وهي في الأعماق تنتقم لنفسها- ممن تجنوا عليها، تسحر لها، بأن يقع كل من يراها في حبها، ولتتحول "منال" إلي اللعب بالرجال، فما من رجل إلا ويقع في حبها، غير أنها لا تبيت مع أي رجل إلا المرة الأولي فقط، ولا تسمح بتكرارها تحت أي سبب، وتتلقي الهدايا أمولا وفيلات وسيارات ، وكأن "إنشراح" في صورة "منال" لا تنتقم من الرجال فقط، وإنما تحقق الغني الذي حرمها من استكمال تعليمها، وكأنها "منال" تقف في مواجهة ليلي وابنتها الذين طردوها لعدم توافق مستواها الاجتماعي مع ما أصبحوا عليه، من ثروة وجاه في المجتمع. وكان "حاتم" من بين من لم يستطيعوا مقاومة إغراء "منال" فيأتي ليطلب من "إنشراح" التدخل لتقبل "منال" الارتباط به، وعلي استعداد لأن يقدم لها كل ماتطلبه، والتنازل لها عن أي شئ. وتعلم "غادة" بذلك، تثور بداخلها الحسرة، وبالكرامة المهدرة. فتطلب من "إنشراح" التدخل لتعمل لها نفس ما فعلته مع "منال". فقررت "إنشراح" أن تعود بها إلي حيث كانت طفولتهما، إلي الحلم والذكريات البريئة، تذهب بها إلي جروبي، حيث كانت ذكريات "إنشراح" وذكريات والد "غادة". ولتخرج بها من الحالة الإنسانية الفردية إلي الحالة الجمعية علي نحو ما سنري.

كذلك تأتي "زوبة" الشهيرة ب "انت يا" ، تأتي ل"إنشراح" لتعمل لها عملا يأتي لها بالبلطجي "وليد" راكعا ويقبل بالزواج منها، متحججة بأنه له هيبة يخشاه الجميع، ويكفي أن تسير إلي جواره كي يكون لها عزوة، وكأنها تكشف عن جانب من الجوانب المظلمة في حياة "إنشراح" التي فقدت الحماية عندما تخلي عنها "سيد" في البداية، وعندما غاب الزوج في قوقعته لا يدري عن أمرها شئ. فتجيبها "إنشراح":{وصفة إيه يا بت اللي هتخرجه من هنا علي المأذون؟ ماكانش حد غلب، انتي مصدقة الكلام اللي أمك وليلي بيقولوه عني؟}ص175. ولتتحول كل تلك التجارب النسائية، إلي حالات إضاءة لتلك الجوانب المظلمة، أو المفقودة في حياة "إنشراح" الإنسانة، وما يؤكده لها زائرها الليلي، وكأنه يشخص حالة نساء الرواية:

{أعلم كيف تحبين زوبة، كيف ترين فيها الوجه الآخر لك الذي ما يزال يملك قوة أن يحارب علي الملأ، لا تلوميها علي اختيارها، إنه اختيارها ويكفي أنها امتلكت القدرة علي الاختيار، ولا تشاركي في هدمها، هل تريدين لها أن تعيش مثلما عاشت أمك تعاني من الشعور بالضآلة والجفاف، حتي تسلم جسدها في ليلة لعراف نصاب تحت وطأة الاحتياج؟ أم تريدنها مثل ناهد تتحمل الخزي والتجاهل بدعوي الفضيلة حتي تصاب بالهلاوس والاكتئاب؟ هل ترغبين أن تكون منال ثانية تتحول إلي وحش ضار يريد أن يلتهم أي شئ وكل شئ بعد أن جاعت روحها؟}ص176، 177.

وبعد كل الحياة التي عاشتها "إنشراح" في حياة الآخرين، وبعد رفض كل المحاولات التي سعي الغير لإدخالها فيها لسد الفراغ الناشئ عن الحرمان، وبعد كل الطعنات التي تلقتها منذ طفولتها، حين رفض أخوها "سيد" بتأثير من زوجته "ليلي" أستكمال تعليمها، بل واستخدامها "كشغالة" لديهم في تجهيز كل بيت تنقَّلوا إليه كلما علت درجتهم الاجتماعية، نتيجة إتساع أعمالهم، ووصولهم لأعلي السلم الاجتماعي. وطعنة حبيب طفولتها "إبراهيم" الذي وعدها، وأيقظ حلمها وطموحها، ليسافر إلي فرنسا في بعثة دراسية، ثم تناسي "إنشراح" وذكريات "إنشراح" {إبراهيم هو عالمي الذي أحبه، فمعه عرفت لوركا وجلال الدين الرومي وابن عربي وسارتر والحكيم، تركت عالم ليلي وأم زغلول الباشا، معه أدركت أن بإمكاننا أن نجعل دنيانا أرحب من ضيق حواري درب شغلان، وبالرغم من تخاريف ليلي عن عفاريت جدتي وكل جهد جدتي التي أحبها، بالرغم من علمي أنها معجونة بالخرافات، كما أعلم أيضا أنه ليس ذنبها، ولكني أشتاق لسعادة حقيقية، سعادة لا تخرج من خطوط الفناجين الملتوية، سعادة أعيشها وأستمتع بها، في الواقع قهرتني ليلي وخذلني سيد وخرجت من المدرسة لم أكمل تعليمي، كانت سنة النكسة بحق، حاولت كثيرا أن أتجاهل هذا الإحساس بالانكسار الذي ملآ روحي والوطن}ص37. لتقودنا تلك الرؤية أيضا للخروج من حيز الفردية إلي الحالة الرمزية. والمدهش أنه إذا كانت النساء المغدورات هن من ساهمن في تحديد معالم شخصية "إنشراح" الإنسانية الفردية، فإن النماذج الرجال، الذين أحاطوا بها، وبنسائها، هم من ساهموا في رسم الشخصية الرمزية ل"إنشراح"، بتحولاتهم، وتصرفاتهم، مثل د مصطفي الرزيقي ، و إبراهيم وحسن وعادل وحاتم وطارق ومجدي، ومن قبلهم أخوها "سيد".

سافر إبراهيم، أملها في الحياة، وفي الخروج من مستنقع حياتها، في بعثة إلي فرنسا:

{فرنسا ... الإسم السحري الذي سيحول حياتها.. عويضة مات، وحياة مشغولة بسيد ابنها الأكبر، أما هي فقلبها وعقلها وأحلامها هناك في مدينة العلم والبغاء}ص42.فكان الأمل الذي ضاع، والانكسار الثاني الذي قصم ظهرها منذ الطفولة، كتأكيد لإدراك الكاتبة لمؤثرات الطفولة في تكوين الشخصية الإنسانية، كذلك أصبح "إبراهيم" رمز لأؤلائك الذين كان عليهم الأمل في إخراجها من الجهالة إلي نور العلم. لكنهم غدروا بها. فكان إختيار الكاتبة لفرنسا تحديدا، كرمز للعلم والنور ، إختيار موفق لحد كبير.

إلا ان كل ذلك دفعها للبحث عن ذلك الجانب التعويضي المقابل لغياب الجانب المادي، وقدرتها علي قهر الجسد، في تلك الروح المعنوية التي نبتت أيضا في الطفولة، عندما طرد عبد الناصر الأجانب من مصر، أولائك الذين عاشت معهم "إنشراح" طفولتها البريئة وعرفت طعم الأيس كريم السويسري، وتلك الحالة التي بدأت مع قدوم الحكم الجديد الذي سبب لها غُصة أخري في طفولتها، لتترسب في القاع، وتساهم في كشف أبعاد الشخصية علي الجانب الإنساني الفردي، فضلا عن الجانب الجمعي الذي بدأ يتضح رويدا رويدا بطريقة إبداعية محنكة {لم تكن الصورة هي آخر الأشياء التي تعرفت عليها انشراح مع العم "بيبريان"، فهي لم تنس مذاق الآيس كريم السويسري في مقهي جروبي، قالت لها أمها وقتها أن الملك فاروق كان يجلس هنا في هذا المكان، وإنها لولا ناصر لما استطاعت أبدا الجلوس في جروبي حتي لو كانت بصحبة بيبريان الأرمني، وقتها كانت طفلة لا تعني لها هذه الجملة أي شئ بقدر حلاوة هذا الآيس كريم السويسري والذي يختلف طعمه كثيرا عن ذلك الذي تشتريه من أم قوئ في الحارة}ص22. فرغم التغير المادي الذي سمح لها بالجلوس في جروبي، إلا أنه أضاع في المقابل (النكهة) والرائحة التي كانت تجدها، ولم تعد، ف{ الغصة الوحيدة التي كانت في قلب انشراح تجاه عبد الناصر، أنه حرمها من أسرتها الثانية التي كانت تقضي معها وقتا طويلا عندما تذهب أمها إلي عملها كتمرجية في مستشفي غمرة، حيث تعرفت علي بيبريان عندما كان والده "هاجوب" مريضا هناك}ص22، 23.

وعاشت "إنشراح" احلي أيام طفولتها في بيت "هاجوب" الأرملي:

{قرروا الهجرة إلي أمريكا، سمعت منهم أن عبد الناصر لا يريد أجانب في مصر، هاجروا جميعا، آرام أنوش وأغافني وببريان، أما هاجوب فقد مات حزنا لم يتحمل فكرة الرحيل .. لم يعد هناك سبب للذهاب إلي شارع شاملبيون، ولم تعد هناك مهلبية بالفراخ، ولم يعد هناك الآيس كريم السويسري، ولم تعد تستمتع بشوارع القاهرة النظيفة الأكثر اتساعا ورقيا وتشجيرا}ص24، 25.

ثم، وكأن الكاتبة تعقد المقارنة، بين ما كان، وما هو كائن، بين ما قبل 52، وما بعدها{انتقلت انشراح من أيدي أغافني إلي أيدي نرجس، فأصبحت تصحبها معها في كل مكان، ليالي الحسين والسيدة، شي الله يا ست يا طاهرة، نقيد الشمع ونوفي الندر لأهل البيت، يحضران معا سرادق فاطمة سرحان السنوي في مولد الحسين التي كانت تنتظره نرجس من العام للعام، وتبادر بحجز مكانها قبل المولد بأيام، تنتقل فيها إقامتها هي وإنشراح لمحيط المسجد في مكان منتقي بالقرب من السرادق}ص25. وكأن الكاتبة تعقد المقابلة في ذلك التحول المجتمعي الذي حدث بعد 152، والذي إعتمد علي التغير المادي، بينما قتل الروح. ولتنسجم وتتلاقي تلك الرؤية مع اقتراب الرواية من النهاية، وعندما تكون "إنشراح" قد قاربت الستين من عمرها، عندما تذهب للعمل ببيت الموسيقار المصري العالمي "أشرف" –حيث من المهم النظر لاختيار الإسم ودلالته – حيث أرسلتها إليه "ناهد" ، للعمل في بيته، وكأن الكاتبة تعمدت الربط بين الإثنين، فقد مثل "أشرف ذلك الجانب الذي تبحث عنه، الروح، الحب الرومانسي المفقود، في الوقت الذي كانت فيه "ناهد" تمث الجنس المفقود، أو المادة. تذهب "إنشراح للعمل في بيت د أشرف الدمرداش، لتكتشف لديه سرداب مُظلم كالذي كانت تسمع عنه في الحكايات في طفولتها، في عملية ربط أيضا بين الطفولة، والكبر وكأنه الخيط الممتد عبر عمر وتاريخ الإنسان. وفي حضرة أشرف، أنكرت "إنشراح" أنها تعرف في قراءة الفنجان، فيقرأ هو لها الفنجان، لتخلق الكاتبة الرابطة النفسية التي تتسلل إلي داخلها، الاشتراك في الاهتمام، أو الإحساس بما يميز الغير .. يسحرها، تشعر تجاهه بأشياء غريبة، تنسي كل خيباتها وتعلن أنه الحب { تخلصت مشاعري من كل هذا الزيف، ومن كل المعادلات، ومن كل الحسابات، الآن فقط أدركتُ قيمة المشاعر التي تمس الروح فقط لتطهرها ولتُسعدها}ص206. يسعي "أشرف للزواج من "إنشراح" غير أنها ترفض، مكتفية من أشرف بالحب، يكفيها أنها احبته، وأنه يحبها، فلم تكن تسعي إلا للحب، من أجل الحب. في لمحة بارعة من الكاتبة- حيث لم تقع في غواية الاستسهال، والفرح بقرب الإشباع المحرومة منه طوال السنوات، وليظل ذلك الحلم قائما، دون تحقق فِعليٍ ليمنح الرواية أفقا أوسع- مستكفية بذلك الإشباع النفسي الذي منحه لها "أشرف"{ انا أخدت أجمل حاجة في الحب، الحب نفسه، إحساسي إني باحب وأنه بيحبني، تفتكري إيه بعد كده ممكن يكون في حلاوة اللحظة دي وصدقها؟}ص212. وليلة لقائها أشرف، تلك المقابلة الوحيدة، يأتيها زائرها الليلي، لأول مرة في شكل حسناء فاتنة، ويخبرها أنها – الحسناء- إنشراح عويضة، ولما تستنكر، بأنها ليست بهذا الجمال، وهذه الروعة، يخبرها برؤية الآخرين لها: { أنت أيضا دائما كنت تفعلين مثلها، كنت تغنين لقلوب متألمة ميتة أحيانا من الغدر، ومرات من الوحدة، وأخري من الاحتياج، حتي لقلوب قاسية جاحدة، لم تبخلي بغنائك الذي يلم العظام ويعيد لها الروح، أنت أيضا تملكين حكمة العجوز وعطائها، ولذا مهما كان شكلك لا يراك الناس إلا في هيئة تلك المليحة الحسناء}ص216. بعد أن يكون "أشرف" قد خاطبها ب "ياهانم" لتتعجب .. أيناديني أنا ب "هانم"، وكأن الكاتبة تترجم تلك المقولة الحداثية التي صارت مثلا في التعبير عن الشعب المصري " الشعب لم يجد من يحنو عليه"، فها هو ما تسعي إليه "إنشراح"، علي الجانبين، الإنساني، والجمعي أيضا. وهو ما يقودنا إلي ربط الجانب الإنساني في حياة "إنشراح" وتلك الإشارات التي إمتدت بطول الرواية. حيث دأبت ضحي علي إرسال الإشارات التي تخرج ب"إنشراح" وكل تلك الشخوص حولها. النساء المغدورات، والرجال المتخاذلين، بأفعالهم المتوقفة عن الفعل الإيجابي، تاركين النساء، والمتشظين من شخصية "إنشراح"، يأكلهن ويدمرهن الجوع العاطفي، لتطال تلك الإشارات رموز الحكم من العام 1952 إلي العام 2011. بخط مُدْغَم رفيع يسري بين تلك الأحداث الفردية، وكأنه العصب الساري بين الجسد، ليخرج القارئ بتلك الرؤية السياسية. وكأن دقات الوجع التي نسمعها هنا في القرب ، ليست إلا صدي لتلك الآتية من هناك. ففي العام الذي أخرجها أخوها من المدرسة، كانت سنة النكسة. فكانت نكسة الفرد ونكسة الوطن. وتقوم حرب 67{ كنت صغيرة ولكني تساءلت لماذا لا يتم عرض تلك الطائرات التي نُسقطها علي شاشة التلفزيون؟ لماذا يعلنون فقط في الراديو؟ لم يُجبني أحد، الصراخ والعويل يملآن شوارع القاهرة... عرفت الإجابة. "انهزمنا" .. لم يتوقف الصراخ، أعلن عبد الناصر التنحي}ص35.

كذلك، بعد أن كانت أختها "بيسة" يتباري الجميع في السعي نحوها، وكانت أستاذة في الجامعة وتعيش في القصور. تتنازل في عهد السادات عن أملاكها للجمعيات الخيرة ، ويتغير المسار تجاه تجارة الدين، حتي إذا ما إغتيل السادات، كان هروب بيسة بأبنائها الخمسة وزوجها إلي السعودية. كما تقدم الكاتبة العديد من النماذج الانفتاحية، التي استغلت مناخ التربح، ليأتي علي رأسها "سيد عويضة" اخوهاالذي راح يتصاعد مع تصاعد ثروته وانتقاله من "حارة شغلان" إلي المعادي، ثم إلي غيرها، ليمثل كل حي مرحلة جديدة في عمر "سيد" وزوجته "ليلي" وفي حياة الوطن.

وفي عهد مبارك ، ساد الفساد والإفساد من حول "إنشراح" ليطال أقرب الناس إليها. "طارق" ابن أخيها الذي يسعي لعضوية المجلس، بعد اتساع المال والأعمال. وكذلك تسأل ناهد إنشراح عن أختها بيسة فتجيبها إنشراح :{- بيسة؟ دي محاولتش تشوفني من يوم ما جت زارتني أيام السادات غير مرة واختفت كعادتها

  • لا أبدا أصلي لسه شايفة اسمها في المترشحين لمجلس الشعب عن الدايرة بتاعتكم..
  • بيسة رشحت نفسها لمجلس الشعب؟ وهي مالها بمجلس الشعب؟ دي ملهاش غير في قال الله وقال الرسول!
  • أنا مش عارفة هي ليه مترشحيتش في ألفين وخمسة أيام الإسلام هو الحل، كان الشارع معاهم والحكومة كانت سيباهم، دلوقتي مضيقين عليهم، ما اعتقدش هيعرفوا يعملوا حاجة في انتخابات ألفين وعشرة، بس هي عموما مترشحة علي مقاعد الكوتة}ص226.

{ وعلي فكرة طارق كمان مترشح للمجلس، وطبعا مجدي بقي شاري كرسي كاتب عليه اسمه في البرلمان.

  • طارق مين؟
  • طارق ابن أخوكي سيد.
  • طارق ابن ليلي؟ ده حشاش هو له في حاجة غير السهر والشرب والرقص؟}ص227.

فكانت هذه الإشارات الآتية من بعيد هي في الأساس نابعة من القريب. فكانت خلاصة ذلك ، والحكم في تلك الفترة المشار إليها، في المقارنة أو المقابلة بين تلك الجملة التي تأتي علي ذهن "إنشراح" بداية تلك الفترة، وبعد أن بدأ عبد الناصر في طرد الأجانب: { ولم تعد تستمتع بشوارع القاهرة النظيفة الأكثر اتساعا ورقيا وتشجيرا}ص25. وبين تلك الصورة التي تعرضها "غادة" عندما رأت سيارة "حاتم" تدخل الحارة الضيقة {ما الذي أتي به إلي هنا؟ كيف استطاعت سيارته أن تعبر فوق أكوام القمامة؟ وأن تمشي في تلك الحواري الضيقة الملتوية، التي لا تستطيع تحمل نتوءاتها والتواءاتها إلا عربات الكارو أو السيارات القديمة التي ترفض المرور تجديد رخصتها لعدم صلاحيتها، والتي إعتبرها أصحابها مربعا صفيحا ففضلوا الانتفاع بها وتأجيرها كوسيلة انتقال، ينقلون بها السكان من الشوارع الرئيسية إلي تلك المناطق التي لا يعلم أحد بوجودها علي الخريطة إلا الله؟! فهنا لا مرور ولا رُخص!}ص185. نحن إذن أمام حالة مصرية بحتة، تتكشف معالمها بصورة أوضح عندما نعاود النظر في البداية، النهاية، في سرادق العزاء، حيث تتجمع كل تلك الشخوص، التي استقلت الحافلة "104 " المتجهة إلي القاهرة، أو إلي "إنشراح"، والتي تجمعت فيها كل تيارات المجتمع ، والتي تكشف عن أن العنصر الرجالي في الرواية ، هو العنصر المتحول والغادر، وهو العنصر الممثل للجانب الجمعي في حياة إنشراح. فنهم الوصولي الانفتاحي في صورة "سيد" وابنه "طارق" من بعده، والرسمالي المسيحي في مواجهة اليسار المنهار المتمثل في حالة "عادل" و"غادة" ووالدها كاتب الشعارات، واليمين الطامع في كل شئ "حاتم"، واللابد في حضن السلطة ليحجز كرسيا باسمه في البرلمان "مجدي" المتسلق والصاعد من الفرع المعدم في أسرة غادة حتي وصل للزواج منها، عوضا عن تجربتها المُرة مع "عدنان"، والتيارات الدينية "بيسة وزوجها"، المسلم والمسيحي "عادل" و"غادة"، فضلا بالطبع عن "حسن" برمزيته، والذي إن لم يكن قد غدر بها، فإنه لم يقدم إليها شيئا ، والآن ، يقفون أمام القبر، في محاكمة القبر، أو حساب القبر، الذي يسفر عن كشف الغطاء، ليصبح البصر حديدا. بعد أن اكتشف الجميع أنها ليست حافلة عادية، وإنما هي "تحت الطلب 104 القاهرة" كما رأتها "إنشراح في منامها، حيث تجمعت كل تلك الشخصيات، والتي ساهمت بشكل أو آخر فيما وصلت إليه "إنشراح" رغم ما قدمته لكل منهم، غير أن المواجهة الأهم، هي تلك المواجهة التي حدثت بين الزوج "حسن" الصامت السلبي طوال الرواية، والأصغر منها بنحو عشر سنوات، لتصبح هذه الإشارة دالة أيضا إذا ما نظرنا إلي "حسن علي أنه المعادل لكل من الرؤساء الثلاثة، والذين كانت مصر بالفعل أكبر منهم ، أو الواقع الفعلي الذي كان، وكان كمن سرق عمرها، وبين الحبيب "إبراهيم" ناكر الوعد وقاتل الحلم، والواقع الذي كان مأمولا {أول ما المقرئ يخلص الربع ده تاخد بعضك وتمشي من هنا، بأي صفة تاخد عزا إنشراح؟.... إنشراح مراتي أنا يا خالي، وأنا الوحيد اللي من حقه ياخد عزاها، فاهم؟ إنت اتخليت عنها وسبتها مجروحة، ولولاي أنا كانت اتجننت، وجاي النهارده تاخد عزاها؟ بمناسبة إيه؟ ده شرف انت متستحقهوش.

لكنه –إبراهيم - سرعان ما استعاد توازنه وأجابه بنبرة تهكم:

وإنت بقي اللي تستحقه؟ قدمت إيه لإنشراح؟ جوعتها ومرمطها لحد ما بقت شغالة في البيوت.

  • علي الأقل سترتها وعيشتها عيشة طبيعية، بعد ما كانت اتجننت وبقيت تلف علي المشايخ علشان حبيبها وعدها وغدر بيها، إمشي يا خالي خليك في تلفزيوناتك وتصريحاتك، وسيبلي الحزن علي شريكة عمري}ص246.

ولتصرخ "إنشراح" في قبرها الوهمي، فإن كانت قد ماتت قبلها مرات كثيرة، حتي أصبح اسمها "إنشراح أم سبع أـرواح"، فإنها لابد قائمة هذه المرة أيضا، فموتها هنا ليس إلا موتا معنويا، ولا زالت تبث رسالتها في أبناء مصر، أن دعو الخوف، ولا تعتمدوا علي خرافة. فتقدم "إنشراح" مذكراتها ل"غادة" شارحة أن علي الإنسان أن يؤمن بقدرته، وأنه يستطيع أن يفعل، دون الحاجة للأولياء أو كرامات ، كي يصل إلي الكرامة، وإلي الحرية، فما عليه إلا ان يخلع الخوف الساكن في الجسد، أو المادة، وهي الرسالة التي همس بها الصوت الليلي في البداية:{ ممكن كل اللي مكتوب ده هلاوس، أو حالات نفسية، وما فيش لا فيريل ولا سوماتي، وإن دول كانوا شخصيات وهمية خلقهم خيالي، احتياج لونيس أو سند، ممكن الصوت كان صوت روحي اللي رفضت تصدق إنها ضعيفة، صوت إرادتي بيعلمني إزاي ألاقي جوايا نقطة قوة اللي أواجه بيها قسوة العالم}ص242.

لقد استطاعت "ضحي عاصي" أن تسير برُكابها بالحافلة "104" عبر التاريخ المصري الحديث، من خلال شخصية "إنشراح" المركبة والمعبرة عن الشخصية المصرية، الواقعة تحت سطوة النسق الثقافي الضارب في عمق التاريخ، متمثلة في قيامها بأعمال السحر وأفعاله، رغم عدم قناعتها، القائمة علي رفضها لعدم خضوع تلك الأعمال للفكر والعقل الحديث، الذي لا يري فيها إلا انها إراحة نفسية لإخراج الأشخاص من كبواتهم وعثراتهم، وطموحهم نحو الأفضل. وحيث سمحت لتلك الشخصية المركبة أن تصل لتلك الرؤية العلمية الحديثة، دون أن تُتهم بأنها لاتتفق وطبيعة الشخصية البسيطة التي لم تكمل تعليها. تلك الشخصية التي استطاعت أن تجوب الحواري، وحياة الناس في قاع المجتمع، بينما هي تتحدث عن تلك القراءة الحديثة، في عصر العلم والمعرفة { ما زلت أشك أن هناك قوة غريبة تحركني، أنطق بلسانها، أميل لتصديق أنها عقلي الباطن، ولكنها أحيانا تتحدث عن معارف بحكمة وخبرة ولغة وفصاحة لا أمتلكها، ولكني كنت قد قرأت مرة معلومة لست متأكدة من صحتها، تقول أن الإنسان يحتفظ في ذاكرته بخبرات الأجيال السابقة والتي تنتقل إليه كعوامل وراثية، وربما يكون هذا مصدر المعرفة}ص177. تلك الشخصية الغارقة في الخوف، المحبوسة داخل الجسد وسجنه، الطامحة إلي الحرية والانطلاق. الباحثة عن الخلاص في الخارج، بينما الخلاص لن يأتي إلا من داخلها، عبر إسلوب وصيغ متعددة، مثل ما أشرنا إليه من تداخل الضمائر، وتداخل الأزمنة، وأيضا من خلال السير مسافات طويلة عبر المجهول الذي يجذب القارئ للبحث عنه، قبل أن تُفصح عن الشخصية المُتحدث عنها، مثلما في الفصل الثامن ص95 بحديث مخالف وغريب عن السياق.. واستمر طويلا في المجهول.. لتثير إندهاش القارئ، وبحثه عن الموضوع، حتي يكتشف بعد حين أنها تتحدث عن "عادل باشا" كما كان يناديه الجميع {لم تكن تتخيل يوما أن تمشي في هذا الشارع الضيق وتجلس وسط كومة من النساء في مكتب مخدماتي، تقف في طابور العرض لتختارها سيدة أو رجل كما كان يحدث في زمن النخاسة، لكن العمل أشرف من التسول .. بدأت انشراح حياتها الجديدة خادمة في منزل والدة عادل هيدرا الاستاذة لإيفون جرجس}ص98. ودون تصريح بأن هذه الفقرة في حد ذاتها تكشف عن الوضع الاجتماعي الذي يعيشه البسطاء، بعد سنوات وسنوات من تلك الرؤية التي قالتها لها والدتها "حياة" بأنها لم تكن تستطيع دخول جروبي في عهد الملك، وكأن الكاتبة تقول .. هذا ما كان،، وهذا ما هو كائن، هذا هو الماضي، وهذا هو الحاضر. ولتشكل في النهاية شهادة ميلاد لروائية لم تحصر نفسها في الهم الأنثوي، بقدر ما كان همها، هم الوطن.

فإذا ما تصورنا أ، كل تلك الشخصيات النسائية، لسن إلا شخصيات مختلقة في أعماق "إنشراح" لتكمل بها شخصيتها، ولتصبح الشخصيات الرجالية بالتبعية شخصيات أيضا مختلقة، لا نستثني منها إلا الذين ذكرتهم في النهاية وكان لهم التأثير المباشر حين وجدت ضالتها المتمثل في شخصية "أشرف" *{أخيرا شُفيت بعد أربعين عاما، ذكري إبراهيم لا تؤلمني ولا تترك عندي مرارة الغدر، حسن لا يؤلمني، ولا أشعر مرارة التجاهل، ليلي لا تؤلمني، لا أشعر بالإهانة ولا بالقهر، الفقر لا يؤلمني، لا شئ يؤلمني، كل هذه المرارات هزمتها فرحة، فرحة واحدة حقيقية كانت كفيلة أن تهزم كل المرارات}ص205.

حينها نصبح أمام تجربة شديدة الثراءة نجحت فيها الكاتبة في استخدام أهم عناصر القصة القصيرة، "التركيز" ،في خلق عالم واسع وحياة ممتدة لأمة خلال تجربة واحدة، من خلال شخصية محدودة، وإن إختلفت فيها الرموز، متوحدة في شخصية "إنشراح"، الإنسانة والرمز.

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1] - ضحي عاصي -104 القاهرة- رواية – بيت الياسمين للنشر والتوزيع –ط 1 2016.