يرافقنا الكاتب في رحلة مع عالم الفارابي ورؤيته للمدينة الفاضلة، ويدل على مكانته العالية في الفكر الفلسفي الإسلامي. ويشير إلى أن الفارابي قسم كتابه إلى قسم فلسفي يتحدث فيه عن الله، وقسم سياسي اجتماعي يتحدث فيه عن المدينة الفاضلة، مؤكداً ضرورة التعاون وسير أفراد المدينة على نهج رئيسهم، بل إن الرئيس يجب عليه تأدية رسالته وإيصالهم إلى مستوى السعادة الأرفع.

«الفارابي».. الفيلسوف في رحلة البحث عن «المدينة الفاضلة»

عبد الرزاق عيسى

 

هناك عدد من الفلاسفة المسلمين الذين اهتموا بالنظم السياسية وأبدعوا فيها فكراً جاداً أصيلاً من هؤلاء أبي نصر الفاربي (870-950م) المعلم الثاني كما لقبه العرب، فإذا كان أرسطو هو المعلم الأول فالفارابي هو المعلم الثاني، وهو يدل بلا شك على مكانته العالية في الفكر الفلسفي الإسلام. وهو ثاني الفلاسفة العلماء في الحضارة الإسلامية بعد الكندي. كان الفارابي فيلسوفا وباحثا نظرياً موسوعياً في العلوم، كان عالماً نظرياً في علوم الحياة والموسيقى والفيزياء والكيمياء والرياضة والطب والفلك، وقد ألف الفارابي العديد من الكتب والرسائل خلال حياته وأسفاره، فقد ذكر مؤرخو العلوم أنه ألف أكثر من مائتي مؤلف ألف في المنطق خمسا وعشرين رسالة، وكتب أحد عشر شرحا على منطق أرسطو، وسبعة شروح أخرى على سائر مؤلفات أرسطو ووضع أربعة مداخل لفلسفة أرسطو، وخمسة مداخل للفلسفة عامة، وعشر رسائل دفاعا عن أرسطو وأفلاطون وبطليموس وإقليدس. و15 كتابا في ما وراء الطبيعة، و7 كتب في الموسيقى وفن الشعر، وستة كتب في الأخلاق والسياسة، وثلاثة كتب في علم النفس. كما وضع تصنيفا للعلوم في كتابه «إحصاء العلوم وترتيبها والتعريف بأغراضها». وبذلك فهو أول من وضع نواة أو منهج لدائرة معارف إنسانية وعلومها في عصره، ومعظم كتب الفارابي ورسائله وشروحه مفقودة، وبعضها لا يوجد إلا في ترجمات عبرية.

ويرى الفارابي أن أفراد المدينة الفاضلة لا تتحقق سعادتهم ولا تصبح مدينتهم فاضلة إلا إذا ساروا على نفس نهج رئيسهم، بل إن الرئيس لا يعد مؤديا رسالته كاملة إلا إذا وصل بهم إلى هذا المستوى الرفيع «وكذلك ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة فإن أجزاءها كلها ينبغي أن تحتذى بأفعالها مقصد رئيسها الأول» ومن أبدع ما كتب في هذا المجال كتابة آراء أهل المدينة الفاضلة، وهو واحد من أهم الكتب التي كان همها الأساسي البحث للإنسان عن محيط فاضل مثالي يعيش فيه حياته.

قسم الفارابي كتابه إلى قسمين قسم فلسفي يتحدث فيه عن الله وصفاته وهو تمهيد للقسم الثاني وهو سياسي اجتماعي يتحدث فيه عن المدينة الفاضلة، فهو يقر أن الإنسان لا يستطيع أن يبلغ أفضل كمالاته إلا في المجتمع، والمدينة الفاضلة شبيهة بالجسم الكامل التام الذي تتعاون أجزاؤه لتحقيق الحياة والمحافظة عليها، وكما أن القلب هو الرئيسي لأعضاء الجسم كذلك يجب أن يكون رئيس المدينة أتم أعضائها فهو إنسان كامل تحققت فيه الإنسانية على أكملها ويجب أن يتوفر فيه عدد من الشروط التي يجب أن تتوافر فيه وهي أن يكون تام الأعضاء، خير الفهم، جيد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ويسمعه، جيد الفطنة ذكياً، وأن يكون حسن العبارة فصيحاً محباً للتعليم والاستفادة، وأن يكون غير شره على الطعام والشراب والنساء، وعليه أن يكون محباً للصدق وأهله، كبير النفس محباً للكرامة وأن تكون أعراض الدنيا هينة في نظره، وعليه أن يكون محباً للعدل وأهله ومقرباً لهم وأن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعله، وإذا لم تتوافر هذه الصفات في رجل واحد فيرى الفارابي أنه إن وجد اثنان بهما هذه الصفات فعليهما تولى رئاسة المدينة مشتركين.

ويعرف الفارابي المدينة الفاضلة: بأنهاالمدينة القائمة على التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة وهي تشبه الجسم الصحيح الذي يتعاون كل أعضائه على تتميم الحياة وحفظها، وسكان المدينة الفاضلة لهم صفات مشتركة وكل فرد منهم له معارف وأعمال تختلف عن غيره.

ويذكر مضاداتها من المدن الأخرى التي قسمها في أربعة أقسام كبيرة هي: المدينة الجاهلة وهي التي لم يعرف أهلها السعادة الحقيقية واعتقدوا أن غاية السعادة في اتباع الشهوات والتمتع بالملذات، وهناك المدينة الفاسقة وهي التي يعلم أهلها كل ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة ولكن أفعالهم مثل أفعال أهل المدينة الجاهلة، وهناك المدينة المتبدلة وهي التي كانت آراءها في القديم آراء أهل المدينة الفاضلة ولكنها تبدلت وأصبحت آراء فاسدة، وهناك المدينة الضالة وهي التي يعتقد أهلها آراء فاسدة في الله والعقل الفعال، ويكون رئيسها ممن أوهم أنه يوحى له وهو ليس كذلك، ويرى الفارابي أن كل نفس من أهل المدينة الفاضلة علمت الحقيقة والعقل الفعال تكون قد اكتسبت الخلود وخلدت في السعادة، وأنفس أهل المدينة الجاهلة مصيرها الزوال والعدم وأنفس أهل المدن الفاسقة تخلد في الشقاء، أما أنفس أهل المدن الضالة فمصيرها الزوال. يتحدث الفارابي في نهاية كتابه عن رأى أهل المدينة الجاهلة في العدل فهو قائم عندهم على قهر القوي للضعيف والقضاء عليه واستعباده، وإذا طبق العدل عندهم في البيع والشراء ورد الودائع فإن مرد ذلك يكون الخوف لا حب العدالة، ولكن الفارابي يؤكد العدل بمعناه الحقيقي الذي تقوم على أساسه الحياة الصحيحة في المدن الفاضلة وهو نفس ما طالب به مفكرو الفقه السياسي الإسلامي. ومن الطريف في الكتاب أن الفارابي يحذر الناس ممن يحث القوم على تعظيم الله، وعلى الصلاة والعبادة وترك خيرات الدنيا بحجة الحصول على خيرات الآخرة، ويرى أن كل ذلك أبواب من الحيل والمكيدة للانفراد بالحصول على خيرات الآخرين. ورغم أهمية الكتاب ومكانته في الفكر الإسلامي وفي الفكر العالمي كله، فقد نال القسم الأول من الكتاب الخاص بالله وصفاته هجوماً شرساً من عدد كبير من الفقهاء مثل الإمام الغزالي الذي رد على الكتاب في كتابه «تهافت الفلاسفة» متهماً الفارابي بأنه صاحب بدعة بل كفره في معظم مسائل القسم الأول مما غطى على أهمية القسم الثاني من الكتاب الذي لم يأخذ حقه من النقاش بشكل كاف.