هنا استعادة لمنجز برغسون الفلسفي في سياق تاريخ الفلسفة. ويشير الكاتب إلى أنه فلسفته تقوم على أربعة مبادئ: وهي الإشادة بالديمقراطية، واعتبار الروح أصل الأشياء في مسار الزمن المُتَّصل، وأن الذاكرة ظاهرةً نَفسية، وليست ظاهرة فسيولوجية، والتمييز بين الأخلاق الساكنة والمتحرِّكة.

هنري برغسون وفلسفة الروح

إبراهيم أبو عواد

 

يُعتبَر الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859-1941) مِن أبرز الفلاسفة في القرن العشرين. ساهمَ في نشر منهج التفكير وأسلوب التعبير اللذين يَعتمدان على الإيمان بالرُّوح. وهذه الفلسفةُ تَركت أثَرَها على النتاج الفكري الأوروبي، لأنَّها جاءت كردة فِعل ضِد المذهب المادي الذي يُلغي القيمَ الروحية، ولا يَعترِف إلا بالأمور المحسوسة.

كانت فلسفة كانط هي المسيطرة على الساحة الفكرية الفرنسية بين عامَي 1870 و1918، وهي فلسفة مُستوردة من ألمانيا، قائمة على الوَضعية التي تعتبر المعرفة الحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحِسِّية. هاجمَ برغسون التطرف المادي لفلسفة كانط، وانتقدَ إهمالَها للجوانب الروحية والأمورِ الخارجة عن نطاق المادة.

دَرَسَ برغسون في مدرسة المعلمين العُليا، ثُمَّ أصبحَ أستاذاً في الكوليج دو فرانس. وهي مؤسسة فرنسية تختص بالبحث العلمي والتعليم العالي، وتقوم بالتدريس على مستوى الباحثين وطلبة الدراسات العُليا. وفي عام 1914 تَمَّ انتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية. ثُمَّ سافرَ في عام 1917 إلى الولايات المتحدة لإقناع الرئيس ويلسون بدخول الحرب العالمية الأولى ضد ألمانيا.

استقالَ من التعليم العالي عام 1921، كَي يَتفرَّغ بشكل كامل للقضايا السياسية والشؤون الدولية. وفي عام 1927حصل على جائزة نوبل للآداب اعترافاً بإنجازاته الفلسفية، وتأثيره الهائل على المذاهب الأدبية والدينية والفلسفية. وخلال العشرين سنة الأخيرة مِن حياته، لم يُؤلِّف إلا كتاباً واحداً. وقد ماتَ برغسون عام 1941 أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت فرنسا مُحتلة مِن قِبَل الألمان.

والغريبُ في الأمر أنَّ برغسون حَقَّقَ في حياته شُهرةً عالميةً، وانتشرت فلسفته في الآفاق. ولكنْ بَعد وفاته، انقلبت الشُّهرة إلى انطفاء، وابتعدَ الناسُ عن أفكاره، وصارت فلسفته جُزءاً من الماضي، وذَهبت كتاباته إلى النسيان والإهمال. وحدث انصراف تام عن فلسفته وكُتبه، مِن نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، كأن شَيئاً لم يَكُنْ. وقد مَسَحَت الوجوديةُ فَلسفته تماماً، وجَعَلَتْها أثَرَاً إِثْرَ عَيْن.‏

تقوم فلسفة برغسون على أربعة مبادئ أساسية: المبدأ الأول، وهو مبدأ سياسي، الإشادة بالديمقراطية واعتبارها نظاماً فكرياً وسياسياً يَعلو على ظروف المجتمع المغلَق، واعتبار السلام محاولة لتجاوز حالة الطبيعة الموجودة في المجتمع المغلَق، إذ إن الأصل في الحروب هو الأنانية وحب التَّملك سواءٌ كان فردياً أَم جماعياً. وقد أشادَ بِعُصبة الأمم باعتبارها منظمة دولية تهدف إلى إنهاء الحروب، وركَّز على ضرورة القضاء على الأسباب المؤدِّية إلى الحروب مثل: تضخم السكان، والتوزيع غير العادل للثروة.

المبدأ الثاني، اعتبار الروح هي أصل جميع الأشياء، وأنَّ الزمن مسار مُتَّصل لا فواصل فِيه، يَمتاز بالدَّيمومة والحركة المستمرة. ولا يمكن معرفة الدَّيمومة إلا بالحدس (الإدراك الصوفي)، حيث يتطابق فِعْل المعرفة مَعَ الفِعْل الذي يَصنع الواقعَ. والحدس -وَفْقَ تعريف برغسون- هو الجهد المبذول لمعرفة الموضوع من الداخل (اكتشاف باطن الشَّيء). والحدسُ لَيس ناتجاً عن الغريزة، بل هُوَ ناتج عن التفكير العقلي المتواصل، والتأمل الفكري المستمر.

المبدأ الثالث، اعتبار الذاكرة ظاهرةً نَفسية، وليست ظاهرة فسيولوجية (والفسيولوجيا هي علم دراسة وظائف الأعضاء والأجهزة الحيوية). ويُفرِّق برغسون بين نَوْعَيْن من الذاكرة: الذاكرة العادية وهي المكتَسَبَة بالتكرار، والمرتبطة بالجهاز العصبي، حيث تستعيد الماضي بطريقة آلية بحتة. والذاكرة المحضة التي تَختزن الماضي وتَحيا في دَيمومة مستمرة. إنها ذاكرة النَّفْس التي تُصَوِّر الحوادث الذهنية، وتحتفظ بخصائص الأشياء وتاريخها. والذاكرة -وفق برغسون- هي نقطة البداية، وتَمهيد لحل مشكلة العلاقة بين النَّفْس والجسد.

المبدأ الرابع، التمييز بين نَوْعَيْن مِنَ الأخلاق: الأخلاق الساكنة المغلَقة، والأخلاق المتحرِّكة المفتوح. الأخلاقُ الساكنة المغلَقة تشتمل على مجموعة العادات التي تَفرضها الجماعة على الفرد، وتنحصر وظيفتها في حماية كيان المجتمع من التَّفكك. أمَّا الأخلاق المتحرِّكة المفتوحة فتتجاوز حدود الجماعة، لأنها لَيْسَتْ ناتجة عن الضغط الاجتماعي، وإنما هي استجابة الفرد لنداء الحياة.

إنَّ قوة برغسون الفلسفية تتجلى في تأثيره الهائل على الفكر والأدب، كما تتجلى في أسلوبه البليغ الذي ساهمَ في رَواج كُتبه. أمَّا نِقاط ضَعفه فكثيرة، مِن أهَمِّها: كثرة العبارات الغامضة وعدم تَوضيحها، واللجوء إلى الإنشاء وغياب التحليل والمنطق في كثير من الأحيان، ونَسخ أفكار الفلاسفة السابقين، فمبدأ الصَّيرورة منقول عن هيجل، والتلقائية منقولة مِن (دي بيران)، والدافع الحيوي منقول عن أفلوطين، وآراؤه الدينية منقولة عن اليهودية.

 

مِن أبرز مؤلفاته: فكرة المكان عند أرسطو(1889). المعطيات المباشرة للشعور (1889). المادة والذاكرة (1896). الضحك (1900). الطاقة الروحية (1919).

(كاتب من الأردن)