يرى الناقد المصري أن القاص اهتم بفقدان الإنسان القدرة على معايشة المجتمع من حوله، مما يجعل أقرب الحلول – الممكنة- هو الهروب المكاني أو الزماني، إلا أن الهروب إلى حضن الخيال، كثيرا ما يكون هو الهروب الممكن، والذي يتسع به، ليحقق فيه ما لم يستطع تحقيقه في حياته الواقعية.

الهم العام في قصص منير عتيبة القصيرة

شوقي عبدالحميد يحيى

 

من يتأمل شخصية منير عتيبة، سوف يجده داخل كتابته، التى، تنضح بشاعرية المعنى، وشفافية الإحساس، ورهافة الشعور، الداخلى المبطن، الناطق بالأحاسيس. وسيظن أن الأمور هادئة، وليس فيها ما يعكر الصفو. غير أن من يقرأ الإهداء الذى صدر به مجموعته "بقعة دم على شجرة"[1]، والذى يقول فيه {إلى من أكتب عنهم.. ومن أكتب لهم .. لعلنا نعمل معا على إزالة البقع الكثيرة من فوق شجرة حياتنا}. فالأمر إذن ليس بالنعومة التى نتصورها، خاصة إذا عدنا إلى عنوان المجموعة، ونرى فيه بقع الدم، فلا بد أن نتوقع مع العتبتين، انه ليس وحيدا، هائما تحت ظلال الشجر، ولكنه يعمل ، مع آخرين، سواء من يكتب عنهم، ومن يكتب لهم، حيث وضع حرف الواو بين الحالتين، وكأنه يفصل بينهما، أى اننا بين مجموعتين لا مجموعة واحد، وما كنا سنتوقعه لو أنه حذف حرف الواو. فهو يستخرج من حياة من يكتب عنهم، ليوجه رسائله إلى من يكتب لهم. وما نستشعره بأن المواجهة، لن تكون ناعمة، كإسلوبه، وإنما ستكون ملوثة بالدم. فالقضية كبيرة، والمواجهة حادة.

فإذا ما تأملنا قصص مجموعته "كسر الحزن"[2] سنلمح تلك المشاعر الطفلية الرقيقة، التى تتوحد مع الحياة، والأحياء.

ففى قصة "عصفور" –منها - التى تنضح من عنوانها، بالرقة والشفافية، نعايش الروح الطفلية البريئة، التى لم تلوثها نوائب الأيام، ولم تدنسها فواعل البشر. فيذهب الطفل مع أبيه، ليشهد غدر (البلدوزر) بأحد ثوابت الطبيعة، الممثل فى تلك الشجرة، التى شهدت فطرته، بل فطرة الإنسانية عامة، لتعود بنا الواقعة ببداية خلق الإنسان، عندما سعى هابيل بعد قتل أخيه قابيل، وعلمه (الغراب) كيف يوارى سوءة أخيه. حيث كان الولد "عفان" قد اصطاد بنبلته العصفور الأب، ليقتله، وما تلبث العصفورة الأم، أن لحقت به، وكأنها تجسيد للحب والوفاء، اللذين لم يعودا بيننا. فيحفر الطفل، قبرا، تحت الشجرة، ليدفن العصفورين المتحابين، تحت الشجرة، ويظل العصفور الصغير وحيدا، فوق أحد فروعها، وما أصاب الطفل بالفزع، والخوف، والشفقة عليه، حين عرف أنه سيتم اقتلاع الشجرة، ليجسد الطفل (السارد) كل تلك المعانى (بالأمس، عندما علمت بما سيحدث، وعدت أبى ألا أصرخ إذا أخذنى معه.. أسرعت إلى شجرة الكافور العملاقة.. احتضنتها.. صعدت عليها.. جلست فوق أحد فروعها.. بللت بدموعى أخاديدها.. لمست العش بيدى كأننى أريد أن أحتفظ به فى ثنايا بصمات أصابعى إلى الأبد.. أمسكت عصفورى.. نظرت فى عينيه.. كان صامتا.. وعندما حاول أن يبوح، خرج غناؤه حزينا داميا.. وضعته فى عشه.. نزلت من فوق الشجرة.. حفرت بجوارها.. كان عصفورى يراقبنى وأنا أنبش قبر أبويه.. نزلت قطرات عرق فوق أثار الجرح الصغير الذى تسبب فيه الولد عفان..}. ثم نشهد بعد ذلك محاولات البلدوزر، لاقتلاع الشجرة العصية على الاقتلاع.. إلا ان يد الحضارة، أو إن شئنا قلنا، الحداثة، بجبروتها، وإنعدام العاطفة من تصرفاتها، تنتصر فى النهاية.. لتتهاوى الشجرة ساقطة على الأرض، بينما كان العصفور الصغير، قد اختفى فى المجهول {بين سحابات داكنة}. فى رؤية رمزية لاختفاء البراءة والطبيعة، بينما تبرز الرؤية (الاقتصادية) المادية، الزاحفة على الحياة، متمثلة فى رؤية الأب، حيث {ربت أبى على كتفى ليهدئ انتفاضات جسدى المحموم.. نظرت إليه فوجدته مطمئنا .. لا شئ تغير بالنسبة له.. كان حارسا للحديقة الكبيرة.. سيظل حارسا لنفس المكان بعد أن تصبح أرض الحديقة مصنعا للأدوات الصحية}.

وعلى الرغم من شفافية الروح الطفلية، وإنصباب الرؤية (السريعة) للقصة على التعبير عنها، إلا أن القارئ، عندما ينظر حول حاضره، سيجدها إدانة، للمجتمع، وللسلطة التى لم تجد غير (الحديقة) لتبنى عليها المصانع، وبالتالى تزحف على متنفس البشر، لتخنقه، بدلا من أن يكون هذا البناء، وهذا (العمران) على مساحة جديدة من الأرض، تفرض إتساعا، وتخلق متنفسا، وليكن فى الصحراء. وحتى لو لم يكن ذلك واردا عند الكاتب، إلا اننا لا نبحث عن نواياه، وفيما أراد التعبير عنه، إلا ان القراءة يجب أن تتسع، لتشمل كل مستوياتها. الفردية الإنسانية البحتة، وما لا يتعارض مع القراءة السياسية، الكامنة فى المسكوت عنه عند الكاتب.

وذات الرؤية، يمكن أن نستخلصها من قصة "الرحلة الأخيرة" من ذات المجموعة. حيث نرى إنسحاق الإنسان (الفرد)، الذى من مجموعه تتكون المجتمعات، تحت زحف، الحديث على الموروث، حيث نتأمل "عم حسن" صاحب المعدية، التى تعود عمال مصنع الغزل على تعدية الترعة، بمعديته. بينما كان قد اقترب إقامة كوبرى جديد، سيقضى بالتأكيد على رزق، أو إن شئنا (مستقبل) عم حسن ومعديته، فيجسد لنا الكاتب، تلك المعاناة المكبوتة فى الصدور، وكأنها البركان يغلى تحت السطح {أخرج سيجارة.. وضعها فى فمه.. كور العلبة .. هرسها.. ألقى بها فى مياه ترعة المحمودية التى تتموج بهدوء فضى.. أخرج ساعته القديمة ذات السلسلة الصدئة من جيب الصديرى.. الثانية عشرة إلا الربع.. أشعل السيجارة .. استند بظهره على سور المعدية المتهالك...}. وإذا كان الكاتب قد تعمد تقطيع الجمل هنا، للتعبير، وتوصيل الشعور بمدى إضطراب "عم حسن" وقلقه، فإنه أيضا لم يمرر الإشارة إلى التوقيت مجانا، وإنما ليمنحنا الشعور بضغط الزمن، ومروره، وتأثيره فيما يحدث من تغير(الزمن) المعبر عن تغير رؤية الأشياء، وتغير سبل الحياة، مع الزمن، وكأنه التغير الحتمى الفارض وجوده على البشر. ويسرح "عم حسن" ليخرج مكنون نفسه {لو تحدث معجزة: طائر أسطورى ينقض من منطقة مجهولة فى السماء ويلتقط الكوبرى بمنقاره الضخم ويختفى به بعيدا}. ليتفجر الصراع الداخلى، بين رؤية الفرد ورؤية المجتمع، نظرة الفرد ونظرة المجتمع، ليحضر إلى الأذهان تهجير أهل النوبة، مرة لإنشاء وتعلية خزان أسوان، ومرة لإنشاء السد العالى. حيث عانى الكثير من أبناء النوبة من عمليات التهجير الجبرى، وما تولد عنه من مآسى فردية، أو إنسانية، فى مواجهة سطوة المجتمع، وسلطته، وما يفجر الصراع بين الكثير من (الأفراد) والسلطة. حيث تحل السلطة هنا محل طبقة الأغنياء، فى مواجهة طبقة الفقراء، فى الرؤية الأفلاطونية للمجتمع. وهو ما يخلق الصراع الوجودى. الماحق لإنسانية الفرد، ليتكلم حال ذلك الفرد، نحن لا نقف أمام سنة التغيير والتطوير، ولكن، ألم يكن الأمر يتطلب أن نبحث عن وسيلة الحياة لذلك الفرد، إلى جانب إرادة المجموع الساحق المسيطر؟.

ويمعن العتيبة فى التخفى، وراء الحياة العادية، ليقدم رؤية كلية، نستطيع استخلاصها من سطح القراءة، فى قصة عنوان المجنوعة "كسر الحزن" حيث يقدم تجربة العلاقة بين الزوج والزوجة، ويمعن فى تكثيف البغض، الذى تشعر به الزوجة، التى لم يفلح الزوج فى إشباعها، أو إنبات الغرس المستقبلى فى بطنها، فيرسم تلك الصورة التى تراها للزوج ، وقد خلط بين الزوج والأب{استلقت على ظهرها.. يطل عليها من تهاويم سقف الحجرة.. يتساقط العسل من عينيه فى حفرة الدموع على خدها.. ابتسامة فمه تتسع .. يمتلى الفم برغاوى بيضاء.. تتجمع الرغاوى فوق الشفتين.. تسيل سحابات صغيرة تحيط جسده العملاق.. تخرج الأسنان من فم على أقدام سوداء.. تنغرس فى الرأس المتصحر .. يتسع المنخران .. يشفطان كل هواء الغرفة.. تتضاءل المسافة بين الجدران حتى لا تسع ورقة سيجارة.. تخرج زفيرا حارقا فتتلاشى الجدران.. خطواط هريدى فى الحجرة بطيئة لها رنين نحاسى يصم الآذان}.

يمزج الكاتب هنا، وكأنه يصنع المقابلة، أوالمقارنة، بين من يطل عليها من تهاويم سقف الحجرة، صاحب الجسم العملاق، وتتساقط من فمه (رغوى بيضاء). وبين "هريدى" الذى تصير أنفاسه حارقة، ويشفط الهواء من الحجرة، وتقترب جدران الحجرة ، لتكثيف الاختناق الذى تشعر به الزوجة، إزاءه. وفى الحديث عن الأب فى هذه الفقرة، وما نتعرف عليه فى ثنايا القصة، جعله الكاتب فى السقف. بينما هريدى (الزوج) جعلته بين الجدران، وسنعلم –فيما بعد أيضا- أنه نام على الأرض. وكأنه التجسيد المادى، للمعنوى. ولا نعدم وجود (العم) لهريدى أيضا الذى يرفض أن يناديه بالعم، ويطلب منه أن يناديه بالأب. بينما الأم، ام الزوجة، فى الحجرة المجاورة، تنادى ابنتها بين الحين والأخر، بان تكسر الحزن الليلة ، و (اكسرى الحزن الليلة وإلا عشش فى جنبات الضلوع}.

والقصة هنا بهذه الصورة، لا تحمل جديدا، حيث أستُهلكت التجربة كثيرا،. كما أن الأدب لم يعد تقليد للحياة، ، أو نقل لها، كما لم يعد الإبداع للتسلية، كما غابت النظرية العتقية، والتى لم تعش طويلا، وما كانت تسمى الفن للفن، كما أنها –أيضا- بهذه الصورة لا تحمل رسالة ما، فى الوقت الذى نرى فيه أن ما من إبداع إلا ويحمل رسالة ما، ومن هنا كان علينا البحث عن هذه الرسالة.

يقول العُرف المستقر، بين العامة، بأن رجولة الرجل، لا تظهر إلا فى تلك العملية، واستيلاد الولد،  وصاحبنا عاجز عن الفعل، أو عن إستيلاد الولد. فهو فاقد الرجولة. كما أن المواجهة بين الأب ومن هو فى حكم الأبن، يعنى الزمن، حيث تقول الأم، فى الحجرة الأخرى{اكسرى الحزن واستعيدى أباكى الليلة، وإلا فقدناه إلى الأبد}. فنحن أمام عملية استدعاء الأب، استدعاء الفحولة والرجولة، او استدعاء للزمن الماضى، لقدرته على ما لا يقدر عليه الحاضر. أى أننا أمام إدانة لكل الحاضر، العاجز عن الإنبات، فاقد القدرة.  لنخرج بالقصة من محيطها الشخصى، او الاجتماعى، المحدود، إلى حيز الرؤية الكلية، التى تتمثل فى كل المجتمع، فاقد الفحولة، وفاقد القدرة على إنبات الرجال، الذين إن لم يأتوا فسيعشش الحزن.. إلى الأبد.

عندما يفقد الإنسان القدرة على معايشة المجتمع من حوله، فقد يكون أقرب الحلول – الممكنة- هو الهروب، المكانى، أو الزمانى، إلا ان الهروب إلى حضن الخيال، كثيرا ما يكون هو الهروب الممكن، والذى يتسع به، ليحقق فيه ما لم يستطع تحقيقه فى حياته الواقعية. رغم أن –حتى- هذا الخيال، قد يقود إلى الجحيم، وقد يقود إلى النعيم. وهو ما عبر عنه منير عتيبة، فى بدايات مجموعته "بقعة دم على شجرة" والتى لم يغادر فيها إدانة الواقع، الذى لوث الخُضرة، أو الطبيعة، أو الفطرة، التى تعبر عنها (شجرة).

ففى أولى قصص المجموعة ، التى عنون جزءها الأول "عن الزمن والمتاهة"  حيث يعبر ذلك العنوان، عن دور الزمن، وتقلباته، وما يعنيه (الزمن) من تقلبات البشر وأفعالهم، ودورهم فى الدخول إلى (المتاهة) التى يعيشها الحاضر. فتأتى أولى قصص المجموعة "قصة أخرى" . ولتعبر كلمة (أخرى) عن أن هناك (أولى)، حيث أراد – الكاتب – أن ينعطف الحاضر إلى الماضى، أو يقوم بعملية ربط بين القصة الحالية، وسابقاتها، وكأنه مشروع ممتد، وهو ما يعبر عنه فى تقسيم ذات الرؤية بين القصتين الأوليين "قصة " ثم "القصة مرة أخرى" حيث نظر فى الحالتين، من جهتين مختلفتين، إلى ذات الحالة، إحدهما متشائمة، والأخرى متفائلة، وكأنه يجسد لنا الإنسان وتشعباته، التى يمكن أن تجعل منه تعيسا، أو سعيدا. ففى الحالة الأولى، تأتى ذكرى زواح السارد، الذى صنع من نفسه، أو صنعته الملابسات المختلفة، قطارا على شريط سكة حديد، فحياته مخططة، ولا حيدة عنها، غير أنه اراد أن يكسر هذا الروتين، ويعود إلى زوجته في غير ميعاده المعتاد، ويفتح باب البيت ليجد زوجته والسباك فى وضع  فهم منه أن السباك حاول الاعتداء على زوجته {فتح الباب بسرعة، بينما صينية الشاى والكوب الساخن الملآن يقعان على الأرض بضجة مزعجة، زوجته تقف محتدة فى مواجهة السباك الشاب الضخم، فَهِمَ الموقف بسرعة، وقف أمام السباك ينتفض غضبا، صرخ فيه شاتما.. جمع للسباك عدته بنفسه، بسرعة محمومة، وألقاها إليه، واشار ناحية الباب بغضب}.

وفى "القصة مرة أخرى" إعادة لصياغة نفس القصة، إلا أنه قابل الموقف بزاوية أخري، حيث قابل المعلم فرج صاحب المقهى، إلا انه هنا وقف يستمع لشكواه من {سوء الحال، وتفكيره الجدى فى إغلاق المقهى لأنها لم تعد تعطى تكاليفها، وصبيه الذى يسرقه، لكنه لا يستطيع الاستغناء عنه، والضرائب التى تأخذ الجلد والسقط، والزوجتين السمينتين وأولادهما ومطالبهم التى لا تنتهى. كان ذهنه فى عالم آخر، يحاول استبطان مشاعره الجديدة} وكأن الكاتب أراد أن يتماهى السارد فى شخصية المعلم فرج. فأراد أن يوضح لنا مشاكل الحياة التى أدت به لعملية الهروب. والتى معها تكشف شخصيته (السلبية)، حيث لا يقدر على المواجهة، وما يكشف عنه موقفه فى الحدث الرئيس، حيث {أتجه إلى بيته .. وقف أمام الباب، سمع صوت زوجته، كأنه قادم من بئر، يتذلل: واحد آخر من فضلك!. أخرج مفتاح الباب من جيبه، صوت عدنان السباك الضخم يرن فى أذنيه: إنها ثالث مرة، ألا تشبعين؟ وضع المفتاح فى الطبلة، قبل أن يحركه تذكر أنه نسي أن يدفع لبائع العرقسوس، أسرع نازلا السلالم}. ثم أخذ يضيع الوقت فى الحديث عن فوائد العرقسوس الجنسية، ويعد المعلم فرج، بأنه سيبحث له عمن يحل له مشاكل الضرائب، ويتحدث معه عن فوائد الزنجبيل، الجنسية –أيضا- وكأنه يبحث عن مقويات الرجولة، التى يستطيع بها أن يملك شجاعة المواجهة، والدفاع عن حقه. وما نستيطع معه أن نمد حبال الرؤية والتأويل ، إلى أبعد من الحدود الشخصية، لتتسع الدائرة، وتشمل الوطن بأكمله. وهو ما تكشف عنه قصة "قصة شخص آخر"، وكأننا ما زلنا نعيش ونعايش أجواء ما سبق. والتى يستحضر عنوانها، تلك الخاصية المصرية التى يتحدث فيها شخص مع آخر، ولا يريد أن يصرح باسم ثالث يتحدثون عنه فيفتتح الحديث ب(صاحبك، أو على فكرة صاحبنا) دون أن يصرح بالإسم، أو يستحضر المقولة (الكلام ليك يا جارة). فيعيش صاحبنا – هنا- قصة بجماليون (المخلوق المعشوق)، يتبادل معها الإيميلات، فهى مخلوق من صنعه، يتصور أنها تحمل له الكثير من المشاعر، وأراق هو مشاعره تحت قدميها نثرا وشعرا . يعيش معها حياة كاملة، فيها الرضي، وفيها الهجر، فيها التصالح، وفيها الغضب. ويتعمق التوحد بينهما، ليصبحا شخاصا واحدا، بوجهين، احدهما ذكر، والاخر أنثى، حيث بهما ، معا، تصبح الحياة سوية، فكأن الكاتب يقدم لنا صورة –رمزية – للحياة السوية المنشودة، فيوضح جانبي تلك الشخصية في {بدت له واضحة الآن القيود اللامرئية التى يرفضها بشدة، وترفضها هي أيضا، وتجاهر برفضها، لكنها لا تجرؤ على أكثر من ذلك، الخوف العميق غير المعترف به هو ما يحركها، والاندفاع الجنونى الواضح، والذى يشوبه الكثير من الخوف أيضا، هو الذى يحركه، لذلك يبدوان قريبان جدا من بعضهما}. وليتضح ما يحركه – ويحركها- من قيود غير مرئية.. والخوف، الذى قد يتحول إلى الاندفاع الجنونى، والذى يمكن أن نتصور كيف يكون، وما يترجمه الكاتب، حيث ينقطع التواصل بينهما { فجأة بلا سبب ظاهر، أو بلا حدث محدد، لكن السبب بداخل كل منهما، والحدث الكبير هو الخوف من اتخاذ خطوة عملية تقربهما أكثر، يخافان العواقب، يخافان على نفسيهما، لكن على المحيطين بهما أكثر}, ولكن هذه الكلمات، تحمل الكثير مما يمكن أن يقال، إلا ان الكاتب لا يقدم مقالا، ولكنه يقدم إبداعا، فيسرع فى تصوير المسألة على شكل إجتماعى، بأن لكل منهما زوج أو زوجة وأبناء، وكأن العملية ليس لها علاقة بالسياسة، يعززها ذكر سعد زغلول، وما يرتبط باسم سعد زغلول. فضرب عصفورين بحجر واحد: الابتعاد عن الرقيب، وصياغة أدبية ممتعة، حافلة بالإشباع والاستمتاع. .... ولكن تأتى النهاية، وكأنها الإفاقة، الكاشفة، والموحدة بين الطرفين، اللذين يتضح أنهما ليسا إلا شخصا منقسما، فتأتى النهاية، كاشفة عن السراب، والحلم المكتوم فى الصدور {حمل صينية عليها كوب كبير من النسكافيه، وقطعة جاتوه بالشيكولاته، كان قلبه يدق بعنف، وهو يقدم إلى السيدة ذات العينين العسليتين، طلبها، إنها أول مرة تأتى فيها إلى مطعم الفندق الفخم الذى يعمل فيه، ولم يفطن أنه جدير بها، منحها خياله0 ذلك الكاتب نصف المشهور}.

فنحن أمام رؤية واقعية اجتماعية، طبقية، محكومة بالقيود اللامرئية، والخوف. وفى مقابلها، أو بديلها، جاء الخيال الذى فيه يستطيع تكسير القيود، وبناء البيت ، فلما لم يستطع تحقيق العدالة الاجتماعية، هرب من الواقع، وأقام عشه فى الخيال، هاربا من واقع يرفضه، وخيال يتمناه. 

قصة للكاتب بمجلة العربى الكويتية[3]، تحت عنوان "تيتانك فى خورشيد" يتعايش مع مشاكل المجتمع من حوله، إذ لا يستطيع الكاتب أن يكون إلا نفسه، فهو ابن بيئته وعصره. حيث يبدأ القصة، وكأنه يستغيث، للتعبير عن أهمية السرعة فى التحرك، وإثبات الوجود، امام قضية تهدد الوجود الإنسانى المصرى، وهى قضية السد الإثيوبى، وتهديده للأمن المائى المصرى {أعرف أن هذا جنون مطلق، لكننى متأكد أن الجنون هو ما سيحدث ولابد أن أفعل شيئا سريعا، ولو على حساب حياتى}، وحيث ما يمثله النيل من تاريخ لمصر، مثله عتيبة فى قصته عن طريق الربط بين الماضى والمستقبل (الأب والحفيد)، ولم يات إغفال الأب، أو الجيل الحالى –هنا- عفوا، وإنما جاء ذلك عمدا، وكأن النيل حافظ عليه الأجداد رعاية للأحفاد، وهامو الجيل الحالى يهمله، أو كا أن يضيعه، الربط بين الواقع والخيال (التماهى المبدع بين الواقع على أرض خورشيد و"جاك" الذى يرجع للعام 1912 وبطل الفيلم الشهير، والحامل لاسم "تيتانك")، و حضور الهم العام، من بين حياة عادية للإنسان يعيشه، وكأنه يعيش همه الخاص.

يتحدث الفيلم – الذى رآه السارد عشرات المرات فى السينما- حيث ضحى البطل "جاك"، من أجل حبيبته "روز". فيتوحد (البطل) أو السارد مع "جاك" { لم ألاحظ أننى أشعر وأرى مع جاك... كنت أظن أنه مجرد توحد المُشاهد مع البطل، ثم اكتشفت أننى أصبحت جاك نفسه} ، ذاك الذى أنقذ حياة الأم، عندما أرادت الانتحار، وكأن ساردنا أراد أن يضحى –أيضا- من أجل إنقاذ حبيبته، التى ليست هنا من لحم ودم، وإنما هى (البلد) التى تتعرض للموت..، وزداد التماهى عندما تُعرض على "جاك" صور "روز" فى أوصاع مختلفة" لا يرضى عنها فكأن ساردنا أراد أن ينتقد البلد ، التى يراها فى غير تلك الصورة التى صنعها، أو تصورها، والتى رفضها "جاك" نفسه وأصر  أن يتولى السارد تغيير السيناريو، أو تغيير الصورة، فليست الأمور بتلك الصورة ، من الهدوء والانصراف عن الحقيقة، التى تُنذر بكارثة. للنظر حولنا ، ونرى الانشغال ب(الطرق) وغيرها من المشروعات، بينما الكارثة تكمن وراء "سد النهضة" وما سيُحدثه من دمار.

غلف الكاتب رؤيته، واستبطنها فى غلالة من السحر الإبداعى، الموحى، البعيد عن الصراخ أو الزعيق، بينما الأحشاء طافحة بثورة تكاد تخرج عن الصمت. وكأنه ينفخ نوبة صحيان، كى يفيق الغافلون. ولم يأت الكاتب بإشاراته عبثا، وإنما زرع المعانى وراء الظاهر، كى تُعمق الفادحة. فعلى سبيل المثال، الإشارة إلى الأب يحمل على ركبتيه الحفيد. وكأنها إشارة إلى تأثير النيل القادم من الماضى، ويمتد بحياة المستقبل إلى أجيال وأجيال. وهى الرؤية التى توضح الإشارة إلى تاريخ منطقة "خورشيد" التى تتسع لتشمل البلد بكاملها. حين كانت فى الماضى، ملك السيد الجزيرى، والذى أمام داخل القصر قاعة سينما، ولم يستأثر بها وحده، بل كان يُتيحها للمنطقة بأكملها، حتى أن القاعة التى لا تسع إلا ثلاثين شخصا، كانت تحتشد بالمئات. فلم يدخر السيد الإقطاعى، أو الراسمالى، بالخير لنفسه. وبعدها أصبحت مصنعا، ثم آلت للخراب، ومرتعا للكلاب، وهو ما يمكن أن يمثل تاريخ مصر، لا المنطقة فقط، على مر أجيال متتالية.

و { كثيرون ممن ماتوا، وممن لم يولدوا بعد، عقدت الدهشة ألسنة الجميع، فقد انطلق خالد بن الوليد بحصانه في الصحراء} وكأن الأجيال، نظرت، وتنظر، إلى القائد خالد بن الوليد، أو سيف الله المسلول، القائد العسكرى، يركب حصانه وينطلق للصحراء. وكأننا أمام عملية استدعاء للقوة، لإنقاذ الداخل مما ينتظره من دمار قادم من الخارج.

صياغة إبداعية محكمة، وناطقة، وصارخة بصوت شفيف، يدعو لمقاومة الطوفان.

وذات الرؤيا يمكن أن نستخرجها من آخر قصص مجموعته "حكايات البياتى"[4] قصة " يا فراخ العالم اتحدوا" ، والتى يبتيها على غرار "مزرعة الدوان للإنجليزى الساخر جون أوريل، "مزرعة الدواجن" . حيث تتلبث "فرخة" شخصية الإنسان ، فى زعامة الفراخ للمطالبة بالحقوق (المشروعة للفراخ، مثل {إنهم يطالبون بالعلف، وهو الطعام المفضل للدجاج بدلا من عيش الأفران التى إن استطاع البشر تحمله بحالته السيئة وسعره المرتفع، فلا يستطيع الدجاج عليه صبرا} حيث يسوق الكاتب رؤيته للأوضاع المرفوضة، يصوغها بطريقى ساخرة، يستطيع بها أن يستدرج يذر الرماد فى عين من ينظر له بسوء. كما يحمل الدعوة المغلفة، والتى تعبئ النفوس والضمائر، لرفض السكون والستكانة، حين أول الدعوة، والمناداة، بيد (الفراخ) دون الديوك، وما يعنيه من التصور الساذج، بان الرجل هو السبع وهو من يحمل العبئ، فتتسائل الفراخ {ولكن أين الديوك؟ وما دورها وسط هذه الحركة وهذا النشاط؟!. لم يكن للديوك دور يذكر.. اللهم دور المشاهد الذى يتفرج على مسرحية مسلية دون أن يدفع شيئا}. ونظرة إلى الصحف ووسائل الإعلام السائرة فى الركات، فيتغامضون عما يحدث من إضراب الفراخ{ كل هذا وصحف بلاد الفراخ المعتصمة ليست هنا.. أعلنت تلك الصحف – زكذلك الإذاعة والتليفزيون- أن الحالة هادئة مطمئنة والأمن مستتب...}.

وحتى فى محاولاته فى القصة القصيرة جدا، لا نعدم وجو ذات الرؤية ، على إعتبار أن قضية الكاتب، واحدة، ولا يملك الفرار منها. فنستطيع أن نجد الكثير من الرؤى التى عبر عنها فى مجموعاته، حاضرة هنا، بإختلاف وسيلة التعبير. فعلى سبيل المثال نقرأ  قصة  "القرابين"[5] {كنا نتدافع لتقديم القرابين للسيد المنتصر الجالس على الكرسى المرتفع فى ليل صحراء النخيل، من بعيد جداً أتى صدى زئير أسد حزين، بال السيد المنتصر على نفسه، نظرنا إليه وإلى بعضنا البعض، ثم تصارعنا نلتقط البول المتساقط من قعر الكرسى المرتفع؛ لنمسح به وجوهنا شاكرين، وواصلنا تقديم القرابين}.حيث التعبير عن نظرتنا المتخلفة، والموروثة للحاكم ، وكيف يصل بنا الأمر  للبحث عن بول الجالس فوق الكرسى، لنمسح به وجوهنا.

وفى قصة "لن نُباد"[6] التى، تعبر عن رؤية منير عتيبة، الوطنية، وأن قضيته لا تغيب، عبر وسائل تعبيره العديدة. فيعبر ههنا عن (مصر) التى عاشت العديد والعديد من الحروب والهزائم، القاصمة، والغزوات القاهرة، إلا انها تظل عبر الدهر ، باقية.

{لأول مرة يتفقون، المؤرخون والمحللون العسكريون والمعلقون الرياضيون والناس فى الشوارع، اتفقوا أنه لا مستقبل لقريتنا، وأننا سنبيد تماما خلال عشرات السنوات، فهزائمنا متلاحقة، وتخلفنا متسارع، وسباتنا لا ترتجى منه يقظة.

ومرت عشرات وعشرات السنوات، وما تزال قريتنا موجودة، بل إن الناس يأتوننا من كل مكان فى العالم، يستمتعون برؤيتنا، يلقون إلينا بطعام لذيذ، يقفون بجوارنا بحذر لتُلتقط لهم الصور التذكارية، ويذهبون بعد قضاء عطلة ممتعة.

ولا ينسون إغلاق باب القرية عند ذهابهم}.

ونفس الرؤية التى لا تغيب، حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتى هى جوهر السياسة، نقرأ فى قصة "قرار جرئ"[7] جبروت السلطة المتسلطة، والرافضة لأى رؤيا تخالف رؤيتها، حتى لو كان الاختلاف مجرد هاجس يدور فى الصدور.

{قرر ابن المقفع نزع قناع كليلة ودمنة، والتوجه إلى السلطان مباشرة ليخبره برأيه فى الأسلوب الصحيح لحكم الرعية، حتى ولو دفع رأسه ثمناً.

وعندما وقف أمام السلطان، حاول أن يتكلم، فاكتشف أن رأسه مقطوع بالفعل}.

ثم نختتم بتلك الرؤية العامة، وإن كنا نشم فيها رائحة الرؤية الخاصة، لا الخاصة بالكاتب، وإنما الخاصة بمسيرة حكامنا المتتابعين، المختلفين فى الأسماء، فقط. وهو ما تعبر عنه قصة "ليلة اعتزال البهلوان العجوز"

{امتلأ السيرك بالمتشوقين لمشاهدة البهلوان الذى اختفى منذ سنوات دون أن يعلن اعتزاله.

لستَ بحاجة إلى المال، ولا تهمكَ الشهرة، فلماذا وافقتَ على هذا العرض الخطر فوق سلك يرتفع ستة أمتار دون وضع شبكات حماية؟

نشهق مع كل حركة يقوم بها فتدنيه من الموت، يعتدل واقفا، نصفق، نشهق مرات ومرات.. ثم نخرج من العرض محبطين إذ لم نشاهد ما جئنا حقا من أجله.

أعود إلى البيت بعد العرض.. أفكر فى جمهورى الذى خذلته.. أجدل لعنقى حبلا}.

       ومن هنا يمكن القول أن منير عتيبة، يعيش الهم العام، ومشغول به، فحول الحياة المعيشة إلى إبداع يحمل المتعة القرائية، والوعى بما يدور، وكأنه يمسك بطبلة المسحراتى الذى يسعى لإيقاظ النيام، وما هم –فى الحقيقة- إلا أموات.

 

Shuehia48@gmail.com

 

 

[1]  - منير عتيبة –  بقعة دم على شجرة - اتحاد كتاب مصر  ومؤسسة حورس _ 2015.

[2]  - منير عتيبة – كسر الحزن – طباعة على حساب المؤلف 2007 .

[3] - [3] منير عتيبة – تيتانك فى خورشيد- العربى الكويتية- عدد يناير 2021.

[4]  - منير عتيبة – حكايات البياتى -  الهيئة العامة للكتاب – سلسلة إشراقات جديدة – 2002.

[5]  - منير عتيبة -  روح الحكاية – مؤسسة حورس الدولية- ط1 2015

[6] - المصدر السابق.

[7] - المصدر السابق.