محمود درويش: التعاقد الشاقّ

صبحي حديدي

يحتلّ محمود درويش موقعاً فريداً قلما حظي به شاعر في الثقافة العربية الحديثة، ولا يُقارَن نفوذه الأدبي إلا بالنفوذ الخاص الذي تمتّع به كبار الشعراء العرب في أطوار ازدهار الشعر، حين كان الشاعر أشبه بنبيّ الأمّة، والناطق المعبّر عن كيانها، وعرّافها الذي يستبصر أقدارها الماضية والحاضرة، وتلك الكامنة في مجهول لا يرى معلومه سواه، في السموّ والإنتصار كما في الإنكسار والهزيمة. وفي ثقافات الأمم تكررت على الدوام تلك البرهة الاستثنائية التي تُلقى فيها على عاتق شاعر مهمة كبرى مثل التقاط الوجدان الجَمْعي للأمّة، وتحويل الشعر إلى قوّة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية.

ولقد توفّرت للشاعر أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لبلوغ هذا الموقع، وحدث أحياناً أن كان التفاعل بين هذين النوعين من الأسباب في صالح مشروع درويش الشعري في حصيلته، كما حدث في أحيان أخرى أنّ ضغط الشروط الموضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه الجمالي إلى الصفّ الثاني والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصفّ الأول. ولكنه في الحالتين أثبت حساسية فائقة تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية حين استقرّت كثيراً معادلة العلاقة التبادلية الوثيقة بين تطوير جمالياته الشعرية وتطوّر نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي.

وفي طليعة الأسباب الموضوعية يأتي انتماء الشاعر إلى تلك الحركة الشعرية الغنية التي كانت تتطوّر في فلسطين المحتلة منذ مطلع الستينات على يد شعراء مثل توفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران ودرويش نفسه، ثم اكتشفها العالم العربي في أوج هزيمة 1967، فأطلق عليها اسم «شعر المقاومة» في غمرة الحاجة الماسة إلى بدائل خَلاصية تخفف وطأة الإندحار وتعيد الأمل إلى روح تعرّضت لجرح عميق. ورغم أن هذه الحركة الشعرية لم تكن منفصلة عن التيارات العامة في الشعر العربي آنذاك، فإنها مع ذلك حملت نكهة خاصة مختلفة، نابعة جوهرياً من موضوعات ذات حساسية وجدانية (الأمل، المقاومة، الأرض، الهوية الوطنية)، وكذلك من أشكال في التعبير لم تكن مألوفة في الشعر العربي آنذاك.

وبين مجموعة شعرية وأخرى أخذت سلطة درويش الأدبية تتعاظم وتترسخ، فأدرك أن موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمة يقتضي قبل أي شيء آخر تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، وأن لا ينقلب إلى تعاقد سكوني شبه إيديولوجي بين الشاعر الذي ارتقى إلى مصاف النبيّ، وبين الوجدان الجمعي الذي أسلم للشاعر قسطاً كبيراً من الحق في تكييف الميول وردود الأفعال. ومنذ هذا الطور واصل درويش وفاءه لتعاقد ثنائي ـ شاقّ وخلاّق ـ مع موقعه كشاعر: تعاقد مع مشروع شعري لا بدّ له من أن يتطور ويتكامل وفق دينامية متصاعدة، وتعاقد مع قارىء عنيد عريض يتشبث بالطور الراهن من خطاب شاعره النبي لأنه يجد فيه الملاذ. ولقد أسفر ذلك كله عن مزيج ناجح من شخصية الفلسطيني المناضل والمقاوم، وشخصية الشاعر الذي تتصف قصائده بمستوى فنّي رفيع، فاجتذب درويش القارىء العادي والقارىء المثقف على حدّ سواء، وكانت أمسياته الشعرية بمثابة أعراس احتفالية، جمالية وسياسية وطقسية، يزحف إليها الآلاف.

ومن جانب آخر، كانت سيرورة نضج التجربة الشعرية عند درويش قد تاثرت بمصادر عربية كلاسيكية وتراثية (امرؤ القيس، المتنبي)، وكلاسيكية رومانتيكية (على محمود طه، إبراهيم ناجي)، وحداثية بمختلف تياراتها (نزار قباني، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي). كذلك تبلورت تجربته في إطار إطلاعه المعمق على الشعر العبري، والآسيوي (طاغور، ناظم حكمت)، والإسباني (فدريكو غارثيا لوركا وبابلو نيرودا) والروسي (فلاديمير ماياكوفسكي، سيرغي يسينين)، والفرنسي (لوي أراغون وبول إيلوار، وصولاً إلى سان جون بيرس ورينيه شار)، والأنغلو ـ ساكسوني (والأسماء كثيرة هنا، أبرزها والت ويتمان، و. ب. ييتس، إزرا باوند...)، وتجارب الشعر في أوروبا الشرقية.

والمراقب للمشهد الشعري العربي المعاصر لا يجد صعوبة كبيرة في ملاحظة السلطة الأدبية الكبيرة التي يحظى بها شعر درويش، في مسألة الشكل والتجريب بصفة خاصة. فالشعراء الذين يقلدونه لا يجدون حرجاً في وضوح هذا التقليد وصراحته، والذين يزعمون الاستقلال عن منجزاته لا ينجحون غالباً في إخفاء الضغوطات الداخلية التي يمارسها شعره على خياراتهم الأسلوبية واللغوية والمجازية، مثلما على تجاربهم الشكلية. والواقع أنّ مشروع درويش الشعري يمارس، في الحالتين، تأثيرات إيجابية تصبّ في صالح تطوير تيارات الشعر العربي المعاصر.

*     *     *

في 13 آذار (مارس) 1941 ولد محمود درويش في قرية «البروة» التي تقع على مسافة 9 كيلومترات شرق عكا، وكان الابن الثاني في أسرة فلاّحية تتكون من ثمانية أفراد، خمسة أولاد وثلاث بنات. ولقد عاش طفولة بريئة في أحضان هذه القرية الوادعة الواقعة على هضبة خضراء ينبسط أمامها سهل عكا. في سنّ السابعة «توقفت ألعاب الطفولة» كما يعبّر في وصف ليلة النزوح من «البروة»، تحت ضغط العمليات العسكرية التي شنتها العصابات الصهيونية بهدف تفريغ قرى الجليل من الفلسطينيين. وفي هذا يقول درويش:

إني أذكر كيف حدث ذلك... أذكر ذلك تماماً: في إحدى ليالي الصيف، التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل، أيقظتني أمّي من نومي فجأة، فوجدت نفسي مع مئات من سكان القرية أعدو في الغابة. كان الرصاص يتطاير من على رؤوسنا، ولم أفهم شيئاً مما يجري. بعد ليلة من التشرّد والهروب وصلت مع أقاربي الضائعين في كلّ الجهات، إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين. تساءلت بسذاجة: أين أنا؟ وسمعت للمرّة الأولى كلمة «لبنان».

يخيلّ إليّ أنّ تلك الليلة وضعت حدّاً لطفولتي بمنتهى العنف.

«فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت. وأحسست فجأة أنني أنتمي إلى الكبار. توقفت مطالبي وفُرضت عليّ المتاعب. منذ تلك الأيّام التي عشت فيها في لبنان لم أنس، ولن أنسى إلى الأبد، تعرّفي على كلمة الوطن. فلأوّل مرّة، وبدون استعداد سابق، كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه وكالة الغوث. كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء. وهنا استمعت، لأوّل مرّة، إلى كلمات جديدة فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد: الوطن، الحرب، الأخبار، اللاجئون، الجيش، الحدود... وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرّف على عالم جديد، على وضع جديد حرمني طفولتي».

بعد سنة تسلّل درويش، برفقة عمّه والدليل الذي يعرف مجاهل الدروب في الجبال والوديان، عائداً إلى فلسطين ليستقرّ في قرية «دير الأسد»، لأنّ قريته الأصلية «البروة» كانت قد هُدمت تماماً وأقيمت بدلاً عنها مستوطنة إسرائيلية. ولم يطل الوقت حتى فهم الفتى أنه فقد أرض الأحلام الأولى نهائياً: «كلّ ما في الأمر هو أنّ اللاجىء قد استبدل عنوانه بعنوان جديد. كنتُ لاجئاً في لبنان، وأنا الآن لاجىء في بلادي (...) وإذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى، وأن تكون لاجئاً في الوطن، وقد خبرت النوعين من اللجوء، فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية. العذاب في المنفى، والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود، شيء له ما يبرره.. شيء طبيعي. ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك، فلا مبرر لذلك، ولا منطق فيه».

وفي مدرسة القرية كان المدير والأساتذة يحبّون هذا الفتى المتفوّق في الدراسة والرسم، والذي كان يحاول كتابة الشعر الموزون على غرار قصائد الشعر العربي القديم، وكانوا يخبئونه كلما كانت الشرطة الإسرائيلية تأتي إلى القرية لأنه يُعتبر في حكم «المتسلل»، وكانوا يحذّرونه من الإعتراف بأنه كان في لبنان، ويعلّمونه أن يقول إنه كان مع إحدى القبائل البدوية في الشمال.

وكان اللجوء إلى الشعر هو أحد أشكال بحث محمود درويش عن «وطن لغوي» يخفّف من حدّة النفي داخل الوطن الحاضر والغائب معاً. وفي وصف ذلك يقول درويش:

بدأت علاقتي بالشعر عن طريق علاقتي مع المغنّين الفلاحين، المنفيين من قبل الشرطة. كانوا يقولون أشياء غريبة على درجة من الجمال بحيث أنني لم أكن أفهمها، ولكني كنت أشعر بها (...) وهكذا وجدت نفسي قريباً من أصوات الشعراء الجوّالين المغنّين، وفيما بعد أخذت أستمع إلى الشعر العربي الكلاسيكي الذي يروي مغامرات عنترة وسواه من الفرسان، فاجتذبني هذا العالم وصرت أقلّد تلك الأصوات، وأخترع لنفسي خيولاً وفتيات، وأحلم في سنّ مبكرة أن أتحوّل إلى شاعر (...) وقد مررت بتجربة مبكرة علمّتني أنّ ما أفعله، وما ألعبه، هو أخطر بكثير مما أتصوّر. ذات يوم دُعيت لإلقاء قصيدة في المدرسة، ومن الغرابة أنّ المناسبة كانت ذكرى استقلال إسرائيل. وكنت وقتها في الثانية عشرة من عمري، وكتبت شيئاً سمّوه قصيدة، تحدثت فيها عن عذاب الطفل الذي كان فيّ، والذي شُرّد وعاد ليجد «الآخر» يقيم في بيته، ويحرث حقل أبيه. قلت ذلك كلّه ببراءة شديدة. وفي اليوم التالي استدعاني الحاكم العسكري، وهدّدني بشيء خطير جداً. ليس بسجني، بل بمنع أبي من العمل. وإذا مُنع أبي من العمل، فإنني لن أتمكن من شراء الأقلام والأوراق لكي أكتب. ساعتها فهمت أنّ الشعر حكاية أكثر جدّية مما كنت أعتقد، وكان عليّ أن أختار بين أن أواصل هذه اللعبة الأكثر جدّية مما أتصوّر، أو أن أتوقف عنها.« وهكذا علّمني الإضطهاد بأنّ الشعر قد يكون سلاحاً».

ولقد واصل محمود درويش اللعبة! وبين عام 1961 و 1967 سُجن خمس مرّات. كانت الأسرة قد انتقلت من «دير العدس» إلى قرية ثانية هي «الجديدة»، وأمّا محمود فقد استقرّ في مدينة حيفا، وانتسب إلى الحزب الشيوعي، وعمل في صحيفتي «الإتحاد» و«الجديد» اللتين كانتا المنفذ الإعلامي الشرعي الوحيد للعرب الفلسطينيين. وفي عام 1971 قطع درويش دورة دراسية في موسكو وظهر فجأة في القاهرة، فأثار خروجه ضجة كبرى واستُقبل في العالم العربي بترحاب كبير. بعد إقامة في القاهرة استغرقت سنتين، انتقل درويش إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وعمل رئيساً لتحرير فصلية "شؤون فلسطينية"، ثمّ أسّس الفصلية الثقافية "الكرمل" التي ستصبح أهمّ دورية ثقافية عربية. وفي عام 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، غادر درويش إلى تونس ثمّ إلى باريس التي بقي فيها حتى عام 1995 حين عاد إلى رام الله، فلسطين، واستأنف إصدار "الكرمل" من هناك.

*     *     *

ويمكن تقسيم تطوّر تجربة محمود درويش الشعرية إلى المراحل التالية:

1 ـ مرحلة «الطفولة الشعرية» وتمثّلها مجموعة «عصافير بلا أجنحة» (1960) التي سيتخلّى عنها درويش سريعاً لأنها، بالفعل، كانت تمثّل محاولات مبكّرة لا تعكس صوته الخاصّ بقدر ما تردّد أصداء تأثّره بالشعر العربي الكلاسيكي والحديث الرومانتيكي.

2 ـ «المرحلة الثورية» وتمثّلها مجموعته «أوراق الزيتون» (1964)، حين انتقل درويش من الهمّ الذاتي إلى الهواجس الجماعية، والحلم الثوري، والتغنّي بالوطن، وتثبيت الهويّة (كما في قصيدته الشهيرة "بطاقة هوية، التي ستشتهر باسم آخر هو السطر الاستهلالي فيها: «سجّل أنا عربي» والتي تحوّلت إلى أيقونة لأفكار المقاومة والصمود والإعلان عن الهويّة، في الشارع العربي العريض أكثر بكثير من الشارع الفلسطيني نفسه)، وحسّ الإلتزام الثوري، والتضامن الإنساني والأممي (كما في قصائده «عن إنسان»، و«عن الأمنيات» و«لوركا»).

3 ـ «المرحلة الثورية ـ الوطنية»، وتمثلها مجموعاته «عاشق من فلسطين» (1966)، و«آخر الليل» (1967) و«العصافير تموت في الجليل» (1969) و«حبيبتي تنهض من نومها» (1970). وفي هذه المرحلة كان شعر درويش قد أصبح جزءاً أساسياً من الحركة التي عُرفت في العالم العربي باسم «شعر المقاومة»، وضمّت شعراء من أمثال توفيق زياد وسميح القاسم. وكان شعره يتطوّر ضمن المنطق ذاته والموضوعات ذاتها، ولكنه امتاز عن أقرانه في خصائص عديدة بينها غزارة إنتاجه، والأفق الإنساني الأعرض لموضوعات قصائده، وحسن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية الشرق أوسطية والهيللينية، وبراعته في أسطَرة الحدث اليومي والإرتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانتيكية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.

4 ـ «مرحلة البحث الجمالي»، وهي التي تبدأ مع خروج درويش إلى العالم العربي وانتقاله من القاهرة إلى بيروت. لقد أراد البرهنة على أنّه شاعر صاحب مشروع جمالي منذ البداية وقبل أيّ «تصنيف» آخر، وأنّ اقتران تجربته بـ «شعر المقاومة» لا يعني أنه لم يكن يسعى إلى تطوير موضوعاته وأدواته ولغته الشعرية على نحو يتفاعل مباشرة مع حركة الحداثة الشعرية العربية ويغني تيّاراتها. في عبارة أخرى هذه هي مرحلة «صراع» محمود درويش مع قارئه العربي الذي أحبّه وأراد أن يسجنه في صورة «شاعر المقاومة» فقط، في حين أنّ درويش كان يعاند في البرهنة على أنّ شاعر المقاومة ينبغي أن يكون شاعراً حقيقياً أوّلاً، وشاعراً جيّداً ثانياً وأساساً.

ومنذ سنة 1972، حين صدرت مجموعته «أحبّك أو لا أحبّك»، وهي الأولى له خارج فلسطين، واصل محمود درويش تطوير مشروعه الشعري على نحو منتظم وعنيد، بحيث كانت كلّ مجموعةجديدة تشكّل نقلة أسلوبية عن المجموعة التي سبقتها: «محاولة رقم 7» (1973) تضمنت مزجاً بين الموضوع الغنائي والإستعادة التاريخية ـ الأسطورية للمكان الفلسطيني ـ الكنعاني (كما في قصائد «النزول من الكرمل» و«الخروج من ساحل المتوسط» و«طريق دمشق»)؛ ومجموعة «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» (1975) مثّلت نقلة أكثر وضوحاً نحو القصيدة الطويلة التي تمزج بين التأمّل الغنائي والسرد الملحمي؛ ومجموعة «أعراس» التي تعود إلى الموضوع الوطني ولكن ضمن صياغات إنسانية ـ ملحمية أوسع، وأخرى تسجيلية ذات ارتباط بوقائع محدّدة في الزمان الفلسطيني (كما في قصائد «كان ما سوف يكون» و«أحمد الزعتر» و«قصيدة الأرض»).

5 ـ «المرحلة الملحمية»، وهي التي تعقب الإجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 وخروج الفلسطينيين من لبنان إلى بحر جديد وتيه جديد. وفي هذه المرحلة كتب درويش قصيدته الطويلة الشهيرة «مديح الظلّ العالي» (1983) التي صنّفها في ما بعد تحت تسمية «قصيدة تسجيلية» لأنها تصف أجواء مقاومة الإجتياح، ومعنى مدينة بيروت، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وأسئلة الوجود الفلسطيني بعد الخروج إلى أوديسة جديدة. وإلى هذه المرحلة تنتمي أيضاً مجموعة «حصار لمدائح البحر» (1984) التي احتوت على «قصيدة بيروت» بوصفها العمل الشعري الطويل الثاني الذي يكمل ملحمة الخروج الفلسطيني من لبنان.

6 ـ «المرحلة الغنائية»، وهي تشمل القصائد التي كتبها درويش في باريس، وظهرت بعدئذ في مجموعتَيه «هي أغنية، هي أغنية» (1986)، و«وردٌ أقلّ» (1986). وفي هذه القصائد استمرّ البحث الجمالي الذي بدأ في بيروت وانقطع فجأة مع الإجتياح الإسرائيلي وخروج الفلسطينيين من لبنان، وبدا أنّ درويش يتفرّغ أكثر من ذي قبل لهواجس الذات والتأمّل الميتافيزيقي، والمحاورة الغنائية بين الشاعر والعالم. وهي أيضاً مرحلة استكشاف مسائل الشكل والبنية الموسيقية للقصيدة، إذْ كتب درويش الرباعيات، وحاول محاكاة إيقاع العزف المنفرد في الموسيقى، وكتب القصيدة القصيرة المعتمدة على «الفقرة» الشعرية المتصلة بدل السطور، أو القصيدة الطويلة المعتمدة على قصائد قصيرة من عشرة سطور (كما في مجموعته «ورد أقلّ»). ولعلّ هذه الفترة هي أكثر مراحل تجربة درويش قلقاً وتجريباً وتطويراً وخصوبة.

7 ـ «المرحلة الملحمية ـ الغنائية»، وتمثلها قصائد مجموعتَيه «أرى ما أريد» (1990) و«أحد عشر كوكباً» (1992). وهذه هي المرحلة التي شهدت عودة درويش إلى القصائد الطويلة والمشهد الملحمي العريض الذي لا يقهر النبرة الغنائية حتى وهو يستعيد الموضوع التاريخي، والذي ينفتح على تجارب إنسانية تراجيدية كبرى (المغول، الهنود الحمر، الأندلس، طروادة) ويبحث للفلسطيني عن موقع فيها، للفلسطيني ذاته أوّلاً ثمّ للإنسانية بعدئذ. وفي هذه المرحلة كان درويش يستكمل الفصل الأنضج من تجربته في مصالحة الموضوع الملحمي مع الموضوع الغنائي، وكان يقدّم صياغة فذّة لمراوحة الفلسطيني بين صورة البطل الملحمي الملتَقط على هيئة ضحية، وصورة الفلسطيني العادي الواقف أمام منعطف السلام واستحقاقات اتفاقية أوسلو. وكان درويش يرسم صورة شعرية رفيعة لآلام وآمال هذه المراوحة.

8 ـ «مرحلة الموضوعات المستقلّة»، وتشمل مجموعتَي «لماذا تركتَ الحصان وحيداً» (1995) التي تدور حول موضوعة السيرة الذاتية للشاعر منذ الطفولة وحتى الآن، كما تدوّن سيرة المكان حين تحتويه الجغرافيا وينبسط فيه التاريخ، وسيرة دلالات المكان حين تنقلب إلى محطات للجسد وعلامات للروح؛ ومجموعة «سرير الغريبة» (1999) التي تدور حول موضوعة قصيدة الحبّ إجمالاً، و«اغتراب الرجل في المرأة والمرأة في الرجل ودمجهما معاً» كما يقول درويش. هذه هي مرحلة التفات درويش إلى شؤون نفسه كشاعر وإنسان، وإلى شؤون الفلسطيني بعد أن غادر مرحلة «البطولة» وانتقل إلى مرحلة اليوميّ والعاديّ.

وضمن مرحلة الموضوعات المستقلة هذه يمكن احتساب مجموعتين صدرتا ضمن سياقات خاصة، شخصية ذاتية تخصّ الشاعر، وأخرى وطنية عامة تخصّ الأوضاع في فلسطين. وهكذا صدرت "جدارية" (2000)، وهي قصيدة طويلة تقارب الـ 1000 سطر، لكي تسجّل سلسلة تأملات ملحمية كثيفة في موضوعة الموت على خلفية رمزية وأسطورية وتاريخية محتاشة بتوتر الوجود ومقاومة العدم وموقع الشعر والفنون في هذا الخضمّ كلّه، وذلك من وحي تجربة شخصية عاشها الشاعر حين خضع لعملية جراحية دقيقة في القلب سنة 1998. كما صدرت "حالة حصار" (2000) لتدوّن يوميات الفلسطيني في سنوات استشراس آلة الاحتلال العسكرية والأمنية الإسرائيلية قبل وبعد مجزرة جنين وأعمال النسف والتصفيات الجسدية وبناء الجدار العنصري العازل. ولكنّ اليوميات لم تكن تسجيلاً حزيناً أو محزناً لعذابات الفلسطيني، بل أرادت أساساً القول إنه باق على قيد الحياة، يقاوم في صيغة آدمي من لحم ودمّ وليس في صيغة أسطورة ملحمية ورمز بطولي.

9 ـ المرحلة الراهنة في شعر درويش تستأنف برنامج البحث الجمالي والفنّي الذي بدأه الشاعر في بيروت مطلع السبعينيات وفي باريس مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن في نطاق محدد أكثر هذه المرّة، هو تطوير شكل القصيدة العربية المعاصرة وجَسْر الهوّة بين الشكلين الرئيسيين السائدين في الكتابة الشعرية الراهنة، أي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ولأنّ درويش يؤمن بثراء البنية الإيقاعية للشعر العربي، وأنها ما تزال غنية وخصبة وقابلة للكثير من التطوير والتجريب، فإنّ هاجسه في المجموعات اللاحقة انصبّ على التطوير المرن والحيوي للتفعيلة عبر تطويعها ضمن تشكيلات موسيقية سلسة الوقع وخافتة الصوت تكفل تقريب المسافة بين الوزن والنثر. هذه هي السمة الكبرى في مجموعتَيْ "لا تعتذر عمّا فعلت" (2004)، و"كزهر اللوز أو أبعد" (2005)، وكانت النماذج المبكرة لهذا البحث الجمالي والفنّي قد تبدّت كذلك في "سرير الغريبة" (1999)، لكنها لا ريب تبلغ ذروة دراماتيكية في كتاب درويش ما قبل الأخير "في حضرة الغياب" (2006) الذي شاء أن يطلق عليه صفة "نصّ" لأنه في الواقع يستكشف أرحب آفاق شعريات النثر، وينجز صيغة فريدة وفذّة من امتزاج الشعر والنثر في قول ينفكّ عنهما معاً ويشكّل جنساً مستقلاً جبّار الإيحاء وعبقريّ التأثير. وأمّا عمله الشعري الأخير "أثر الفراشة"، 2008، الذي يجمع بين التفعيلة والنصوص النثرية، فقد كان أكثر أعماله اقتراباً من قصيدة النثر، خصوصاً وأنّ الشاعر تعمّد إنصاف الوزن حين أعاد إنتاج تشكيلات إيقاعية عالية تذكّر بتقنيات قصيدته في أواسط السبعينيات، كما أنصف النثر حين تلمّس شعريته على نحو جمالي ولغوي غير مسبوق في نتاجه.

وإلى جانب الأعمال الشعرية (وهي 24 حتى ساعة رحيل الشاعر) كان درويش قد اعتاد كتابة المقال السياسي والثقافي منذ أيّام عمله في صحيفتَي «الإتحاد و«الجديد» في الداخل، وخلال رئاسته لتحرير الشهرية الثقافية «شؤون فلسطينية» في بيروت خلال السبعينيات، وتأسيسيه لمجلة «الكرمل»، الفصلية الثقافية الأشهر في العالم العربي، التي صدرت في بيروت، ثم انتقلت بعدئذ إلى نيقوسيا، وعادت مؤخراً إلى رام الله. ومقالات درويش جُمعت في الكتب التالية:» «شيء عن الوطن»، «وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام»، «يوميات الحزن العادي»، «في وصف حالتنا»، «عابرون في كلام عابر»، مجموعة «الرسائل» المتبادلة مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، و "حيرة العائد" الذي ضمّ منتخبات من مقالاته على امتداد عقدين.

غير أنّ كتابه النثري الأشهر يظلّ «ذاكرة للنسيان»، وهو عمل شبه روائي يصوّر فيه درويش تفاصيل العيش اليومي تحت الحصار الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 على نحو مذهل في بساطته وعمقه وشاعريته العالية. وقد اشتهر كثيراً ذلك المقطع الذي يصف فيه درويش نضاله من أجل الإنتقال تحت القصف من صالون البيت إلى المطبخ لصنع فنجان قهوة، وكيف تحوّل غلي القهوة إلى طقس إنساني فريد واستثنائي.

*     *     *

وإذا كان مشروع محمود درويش الشعري هو مشروع تراجيدي في الجوهر، لأنّ «وعي الفلسطيني بالتراجيديا عالٍ بدرجة تكفي لكي يتماهى مع أي تراجيديا منذ الإغريق وحتى الآن» حسب تعبيره، فإن الملحمية الغنائية هي السمة المركزية في هذا المشروع. لقد حاول «إطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، ولبحث عن عناصر الهوية الذاتية ضمن اختلاط وتصادم وتعايش الهويات»، كما يقول الشاعر عن نفسه(1).

عائد الى الجليل
كأنّ إرادة تراجيدية غاشمة، أشبه بعاصفة عاتية عمياء، أخذت في الآونة الأخيرة تقوده عنوة إلى قَدَرَيْن لا ثالث لهما: إمّا أن يسير إلى الموت بقدميه، ساعياً إلى ملكوته، طامعاً في هزيمته للمرّة الثالثة (بعد موتَيْن سريريين، سنة 1984 وسنة 1998)؛ أو أن ينتظر ـ مكتوف اليدين، متعب القلب، واهن الشرايين ـ مجيء الموت إليه، ساعة تشاء الإرادة الغاشمة. كانت هذه حال محمود درويش وهو يقلّب الأمرين، والأمرّين، مع نفسه أوّلاً، ثمّ مع أطبائه ثانياً، ولكن مع أصدقائه أيضاً، حتى مَن كان بينهم لا يميّز بين البطين الأيسر والشريان الأبهر. أمّا قلب الشاعر، العاكف على أكثر من مخطوط شعري قيد الإنجاز، فقد كان يتقلّب على نار غير هادئة أبداً.

فريق أوّل من الأطباء اعتبر أنّ درويش، بعد أن توسّع قطر الأبهر عنده إلى أكثر من 6،5، صار مثل رجل يحمل في قلبه لغماً قابلاً للإنفجار في أية لحظة، في أيّ يوم أو أسبوع أو شهر، ولا مناص بالتالي من جراحة دقيقة لتبديل تلك الأجزاء من الشريان. فريق آخر، على رأسه ذلك الجرّاح الفرنسي العجوز المعلّم الذي كان وراء المآل السعيد لمحنة 1998، كان شديد التحذير من مخاطر العمل الجراحي، وكان يتوجس خيفة من المضاعفات الخطيرة التي قد تطرأ دون حسبان، ودونما قدرة كافية على ضبطها، حتى بعد نجاح العملية. والحال أنّ درويش استقرّ على الخيار الأوّل، وبعد ظهيرة 6 آب (أغسطس) الجاري كان قلبه قد أنجز نصف انتصار بعد نجاح الجراحة، وتوجّب أن يكتمل الإنتصار ـ الثالث، على امتداد ربع قرن ـ عندما يغادر الشاعر غرفة العناية الفائقة، بشريان أبهر متجدد. تبادلنا زفّ البشرى، نحن حفنة أصدقائه ممّن تحتّم علينا أن نقبض على جمرة السرّ في ما جرى ويجري في مشفى 'ميموريال هيرمان' في هيوستون، تكساس، فكانت الدقائق تحرقنا قبل أن نحرقها.

ثمّ تعاقبت الأنباء الصاعقة، جلطة خلف أخرى، وانهياراً بعد آخر، واضمحلالاً لفسحة الأمل الضئيلة مقابل تضخّم السؤال القاتل: هل غادرنا، حقاً، مرّة وإلى الأبد؟ وهل انقطعت، نهائياً، مشروعاته الشعرية التي تضاعفت في السنوات القليلة الماضية، وتزاحمت: غزيرة في الكمّ، دائبة التجديد في الكيف، تأسيسية بقدر ما هي تراكمية، تنشقّ عمّا قبلها دون أن تقطع معه أو تنقطع عنه، مدهشة في استفزازنا بقدر مصالحتنا؟ وهل كانت تلك الأخيرة، قبل أن يطير صباحاً إلى هيوستون، ختام لياليه الباريسية حقاً؟ آخر عشاء، وآخر نبيذ، وآخر فنجان قهوة، وآخر نكتة، وآخر مخطوطة، وآخر مصافحة؟ بعد أن تأكد نبأ رحيله، خرجت أسير على غير هدى كحاطب ليل، أصارع إغواء استرجاع تفاصيل تلك البرهة من خريف 1976، حين تعرّفت عليه للمرّة الأولى، في بيت متواضع لصديق مشترك كان يسكن مخيّم اليرموك بدمشق. هل تلاشت التفاصيل لأني أستثقل اليوم ما كنت قد وجدت كلّ السراح في قوله آنذاك: أنّ مشروع محمود درويش الشعري ينبغي أن يكون أعلى، لأنه أرفع وأغنى وأكثر وعداً، من أن يؤسر في تسمية واحدة، ملتبسة، هي 'شعر المقاومة'؟ كان ذلك الطرح أقرب إلى الهرطقة آنذاك، وكان في الحدّ الأدنى استفزازياً لشاعر المقاومة الأجمل، النجم اللامع المدلل النزق السابح في الأضواء.

وكنت أحسب الرأي ذاك فاتحة خصومة أبدية، حتى العام 1988 حين التقيت بالراحل في باريس، فأدركت أنّ العكس كان هو الصحيح: لم يجد الإستفزاز وقعاً حسناً في نفسه فحسب، بل لقد استطابه لأنه أصلاً كان محور تفكيره في تلك السنوات التي كانت حبلى بأكثر من محمود درويش واحد: قلق في موضوعاته وأشكاله وأدواته، عارم التوق إلى التحديث، عازف أكثر فأكثر عن ذلك «الحبّ القاسي» الذي ناشدنا أن نقلع عنه في تثمين شعره خاصة، و'شعر المقاومة عامة. كذلك أدركت، وبرهنت السنوات المتعاقبة، أنّ ذلك اللقاء الأوّل كان عتبة صداقة كبرى، في ما يخصّني على الأقلّ، سوف تتجاوز بكثير صلة الناقد بالمبدع، بل لعلّ هذه الأخيرة كانت في نهاية المطاف آخر مشاغلنا. وهكذا فإنني، في فقده اليوم، لا أخسر فقط شاعراً كبيراً كنت وأظلّ أعتبره أعلى ذروة بلغها الشعر العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، وأحد أكبر شعراء الإنسانية المعاصرة، بل أخسر كذلك صديقاً كبيراً، وأخاً قريباً لم تلده أمّي.

وإذا كانت واقعة مخيّم اليرموك قد راوغت ذاكرتي، فإني في المقابل لم أفشل في استرجاع تفاصيل تلك البرهة الباريسية الأخيرة، حين كنت أودّعه على باب فندق الـ «ماديسون» في حيّ الـ «سان جيرمان»، صحبة أكرم هنية، رئيس تحرير صحيفة (الأيام) الفلسطينية ورفيقه في الرحلة إلى هيوستون. ذكّرته بأمر يجب أن يستكمله عند مروره في باريس عائداً إلى عمّان، فأجابني بابتسامة غامضة: «هذا إذا رجعنا'! وأعترف، هنا، أنني تعاملت مع إجابته بخفّة المطمئن، لأني كنت على ثقة مطلقة بأنه عائد، أكثر عافية وحيوية؛ وكان حرياً بي أن أتلمّس ما انطوت عليه نبرته من نيّة في اعتماد الخيار القدري الأوّل: أن يسير إلى الموت بقدميه، مردّداً تلك الفاتحة الشهيرة من إحدى أجمل قصائده: «نحبّ الحياة/ إذا ما استطعنا إليها سبيلا». وبين استفاقة من تخدير ودخول في غيبوبة، خلال تلك الساعات المتثاقلة التي أعقبت نجاح العملية وانهيار جسده وظيفة بعد أخرى، هل أسعفه اللسان لكي يوصي، مجدداً وبحزم، أن يكون الجليل مثواه الأخير والوحيد؟ وهل امتلك من اليقظة ما يكفي لكي يتلو ذلك المقطع الختامي من قصيدة (جدارية) مطوّلته العبقرية التي كانت ثمرة محاورة الموت سنة 1998:

أمّا أنا
وقد امتلأتُ بكلّ أسباب الرحيل
فلستُ لي
أنا لست لي
أنا لست لي.


ناقد من سورية يقيم في باريس
القدس العربي اللندنية 11 أغسطس 2008

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نُشر هذا النصّ، بالفرنسية أولاً، في مختارات درويش الشعرية La terre nous est étroite، التي صدرت سنة 2000 عن دار النشر الفرنسية غاليمار، في سلسلتها الشعرية الشهيرة، باختيار الشاعر وترجمة الياس صنبر. وقد تمّ تحديث النصّ بما يتيح الإشارة إلى أعمال درويش الجديدة.