حوار "نزوى" مع الشاعر محمود درويش:

حاوره سامر أبوهواش

ممتع الجلوس مع محمود درويش والتحادث معه، ليس لأنه شاعر فلسطين واسمها الآخر، ولا لحضوره الرمزي الكبير عربيا، ولكن ـ ويجدر قول ذلك أحيانا ـ لأنه شخص ممتع، التقيته في غرفته في الفندق خلال زيارته الأخيرة الى بيروت حيث أقام أمسية وكرم في جامعة البلمند، وكانت المرة الثانية التي ألتقيه فيها هناك. استقبلني بالطريقة نفسها، بالكرم الشخصي نفسه، الذي يسقط هيبة اللقاء ويدخل محلها نوعا من الخفة اللطيفة، من "أهلا وسهلا" التي يقولها غامرة عالية الى طريقة المصافحة يقول لك محمود درويش إنك بت صديقا، وبالأحرى يحثك على إنشاء علاقتك معه على هذا النحو، بعد ذلك يشرع في حديث يريده عاديا، يسألك عن نفسك وعن بيروت وعن بعض الأصدقاء، ويحدثك عن نفسه، وعن بيروت وعن بعض الأصدقاء، يجلس على الكنبة نفسها التي جلس عليها المرة السابقة، وكأنه اعتاد طويلا الجلوس عليها، وكأنه يجعلها كنبته، مفتاحه الى غرفة غريبة في فندق غريب، وهذه أظنها من عادات درويش التي تعلمها خلال أسفاره وترحالاته الكثيرة، أي كيف يألف الأمكنة الغريبة ويروضها، إذ وعلى الرغم من عمومية درويش، أي كونه شخصا عاما بامتياز، وربما بسبب ذلك، فانه يحرص على إظهار هذه الناحية الشخصية، فالرجل هو أيضا رجل عزلة، وهذا ربما احد أسراره، أي أن يكون قادرا على حمل نفسه ونفسه وحدها، ليشكل منها أينما وجد، ومهما كانت فترة إقامته قصيرة وعابرة، ما يشبه شرنقته الخاصة، عالمه الخاص، فرديته.

في مقابلتي الأولى معه تحدثت ودرويش في السياسة، في الراهن الفلسطيني الفارض حضوره عليه وعلينا، والأرجح أن درويش خلال زياراته الكثيرة تحدث كثيرا في السياسة حتى تعب. يسألني إذا ما شاهدت حوارا تلفزيونيا كان أجراه قبل يومين  "كان فيه الكثير من السياسة أليس كذلك"؟ يسألني "كن كان فيه الشعر أيضا" أجيبه وكأنني أطمئنه الى أن السياسة لم تحتكر كل شيء مثلما تهدد دائما أن تفعل.

يأتي المصور، تبدو على وجه درويش علائم الارتياح، يحب درويش صوره ويسألك باهتمام عنها، لكنه لا يجد نفسه ملائما للتصوير "أتعرف أنني ولا مرة شعرت إن وجهي تحبه الكاميرا.. أشعر أنني تحت وطأة سلوك رسمي له متطلبات التخاطب بالفصحى مثلا"، اخرج آلة التسجيل فـ "تكمل" معه "هل ضرورية هذه.. ألا نستطيع التحدث من دونها؟" "بلى، نستطيع أن ننسى وجودها "أجيبه" حسنا، سنتحدث إذا بالعامية". طوال ساعات ثلاث تحدثت ودرويش حتى نسينا ـ أنا وهو ـ إننا نجري حديثا صحفيا، غابت الشمس وحلت العتمة في الخارج، ومع هذا التبدل في الطقس تبدلت نبرة درويش، خفتت، ودخل على وجهه شيء من العتمة الآتية من الخارج، قبل أن ينتبه الى إضاءة المصباح الكهربائي الآخر في الغرفة. محمود درويش قامة شعرية وإنسانية كبيرة، تخرج من الحديث معه بصداقة تدرك إنها باتت أعمق وأجمل واقل رسمية، يعززها بنفسه لحظة وداعك "هات قبلة" قبلة على الخد، تشبه مصافحة، تترك بصمات لا تمحى على الكف والقلب معا.

* لاحظت من خلال قصائدك الكثيرة أن والدتك حاضرة أكثر من أبيك، أو بالأحرى هذا هو الانطباع العام، نشعر أننا لا نعرف أباك بقدر ما نعرف أمك، ماذا عن العلاقة بالأب؟

* أحب أن أصحح هذا الانطباع، فأبي حاضر حضورا واضحا ومبكرا في شعري، حضور مرافق لحضور والدتي، مثلا في "عاشق من فلسطين" هناك قصيدة مهداة إليه، "نهاني عن السفر"، في "أرى ما أريد" وهناك مرثية طويلة له "رب الأيائل يا أبي" وفي "لماذا تركت الحصان وحيدا" هناك ثلاثية حوار بين الأب والابن خلال الهجرة الأولى الى لبنان، فمن ناحية الكمية هو حاضر، أكثر، أو على الأقل حاضر بشكل مواز لحضور أمي. علاقتي بأبي كانت، وكما يقول شعري، علاقة يلتبس فيها من هو الأب ومن هو الابن، وهذا أقوله في "رب الأيائل يا أبي"، كان أبي رجلا خجولا جدا يعاملنا بمسافة، وكان أيضا رجلا حزينا، لان هموم الحياة انقضت عليه باكرا جدا حيث انتقل من مالك أرض الى عامل في أرض، وحمل أعباء عائلة كبيرة، وهو من طبعه انه لم يوبخ أحدا منا، بينما الشخصية الأقوى في البيت، والتي كنت أعتبرها عنيفة الى حد ما، هي والدتي، وكنت أعتقد طفلا، ونتيجة ما كنت اعتبره معاملة قاسية منها، أنها لا تحبني، وبقيت هذه الفكرة معي إلى أن سجنت للمرة الأولى، وعندها أدركت أنها تحبني، بل أدركت كم تحبني. في أية حال لم يكن سلوك أمي أو أبي بالمستغرب، إذ من عادات القرويين في ذلك الزمن إلا يعبروا عن حبهم وعاطفتهم تجاه بعضهم البعض، لم يكن اعتياديا، كما نرى اليوم، أن يعبر الأب والأم عن حبهما لأبنائهما، وكأن الحب عيب، أمر ينبغي إخفاؤه في المناطق القصية من المشاعر.

* ليس هناك كلمة "أحبك" مثلا.

* إطلاقا، هذه الكلمة لم اسمعها حتى الآن لا من أمي ولا من آبي، حتى في طفولتي لا أتذكرها، بالتأكيد قالاها لي وأنا أصغر من أن أعيها، وهذا الخجل بين أبي وأبنائه توارثناه نحن الأبناء، فنحن الإخوة لا نحكي مع بعضنا في أي قضية شخصية أو حميمية، نحكي في القضايا العامة، عائلة خجولة جدا، وعلى سبيل المثال لاحظت أن بنات أخي الأكبر يشتكين لي انه لا يحكي معهن ولا يتدخل في شؤونهن، هو مدير المدرسة التي يتعلمن فيها، ولكنه لا يساعدهن ولا يسألهن عن دروسهن، ولا يحدثهن في أمورهن الخاصة، نوع من الانفصال العاطفي، لكنه لا يعني أن أخي غير عاطفي، لكن ليس هناك تعبير عن العاطفة، إضافة الى انه وبسبب موقعه كمدير مدرسة يضطر الى أن يكون محايدا، هذا النوع من العاطفة المكبوتة أظن انه من ميراث ثقافة قروية عربية، وبالنسبة الى الوضع الفلسطيني تجده يتفاقم، إذ يكون الأهم بالنسبة إلى الأب مثلا أن يحمي أولاده وهذا يتضمن أحيانا أن يفر بهم الى أماكن آمنة كما حصل في هجرتنا الأولى، وان يؤمن لهم حياتهم، أي أن يضطلع بمسؤولياته كأب، ويأتي ذلك غالبا على حساب العاطفة المباشرة، لكن كما قلت لك علاقتي بأبي نمت لاحقا، مع تقدم وعيي، وحيث بت قادرا على فهم حكاية أبي، والنفاذ منها الى عالمه الداخلي، هذا الفهم الذي ترجمته شعرا.

* في غياب هذا النوع من العلاقة مع الأم والأب، ألم يكن هناك من هو قريب منك عاطفيا، الخالة أو الخال مثلا؟

* جدي كان الأقرب الي، واعتبره أبي الروحي والعاطفي، كان يدللني صغيرا، ويصطحبني معه أينما يذهب، هو أخذني الى عكا والى القرى المجاورة، وكان يصطحبني معه أيضا الى منزل صديقه الأعز وهو خوري القرية، وكان يجلسني في مجلسه، وهو مجلس جليل ضخم في غرفة مغلقة وكانت ممتنعة على الآخرين، وكان في هذه الغرفة كتب تراثية، وكان يفتخر جدي بكوني استطيع القراءة وأنا في تلك السن المبكرة، قرابة ست سنوات، ويجعلني أقرأ أمام أصدقائه، وجلساته، وكان يهديني الكتب أحيانا، وهو مثلا من جعلني اقرأ حكايات جاليفر اوليفرتويست، وأهداني مجموعة شكسبيريات مبسطة للأولاد، وكان كلما ذهب الى المدينة يحضر لي هدية كتابا.

* كان يتوسم فيك شيئا؟

* لا أعرف، لكنه كان يفرح بقدرتي على القراءة، وحين هاجرنا الى لبنان وكان معنا كان يعطيني الصحيفة كي اقرأها بصوت عال.

* هل كتبت شيئا لجدك؟

* بطريقة غير مباشرة في السيرة، وجميع العلاقات على هذا المستوى عبرت عنها في هذه السيرة الشعرية ولاسيما "لماذا تركت الحصان وحيدا؟".

* كيف تصف نفسك في تلك المرحلة المبكرة، هل كنت هشا آو ضعيفا بين الأولاد، هل كنت تخجل من نفسك مثلا؟

* لم أكن مشاغبا، كنت سليط اللسان وسريع البديهة وهاتان صفتان أخذتهما عن أمي، لكنني جسديا كنت ضعيفا، وكان هذا يرشحني دائما للتعرض الى اعتداءات من أولاد آخرين، حين ولدت كنت ضعيفا جدا وكان يفترض ألا أعيش وقال الطبيب أن حياتي لن تستمر إلا أياما. فكنت أتصدى للأولاد بسلاطة لساني، وبما افترضته تفوقا عليهم في منطقة بعيدة عنهم، أي من خلال القراءات، كنت أحاول التميز عنهم بأنني غير مشغول مثلهم بالألعاب، وأذكر مثلا أنني قرأت باكرا لطه حسين، وكان هاجسي الأول إثبات وجودي بتفوق ذهني لأنني لا أملك إمكانية المبارزة على المستوى الجسدي.

ذكريات جارحة
* هل لديك ذكريات جارحة أو قاسية من تلك المرحلة، أعني هناك ذكريات من الطفولة ترافقنا طويلا، وهذه عادة لا ينتبه إليها الكبار باعتبار أنها هامشية أو اعتيادية؟

* بين ذكرياتي الجارحة أذكر ذات مرة حين كنت عائدا من المدرسة حين أوقفني ولد في صف أعلى مني وضربني بلا أي سبب أو مقدمات.. شعرت بالانسحاق، لا للألم، بل الاهانة، ومما زاد شعوري بالاهانة أنني غير قادر على الرد عليه لأنه أكبر وأقوى مني.. وعيي هذا الأمر كان يؤلمني. وما أنقذني من هذا الموقف هو أحد المعلمين الذي كان مارا من هناك فأخذني من يدي وحاول أن يواسيني.

* ما يؤلم في حالة كهذه هو الانكشاف، أي انكشاف الضعف أمام الآخرين وافتقاد الأدوات للمقاومة أو التعويض عن النفس.

* تماما، الاهانة هي أكثر ما آلمني، أن يعتدي علي شخص من دون أي سبب ولا استطيع الرد عليه، وهذا الجرح المبكر الذي لم يندمل، ساهم في إدخالي في عزلة مبكرة، حيث كنت آخذ كتابا واذهب الى حرش الزيتون واقرأ وحيدا. مرة أخرى شعرت باهانة مبكرة هنا في لبنان إبان الهجرة الأولى.. شتمت مرة أو مرتين بكلمة لا أعرف معناها، بنات لبنانيات في الصف قلن لي "لاجئ" ولم أكن أعرف معنى هذه الكلمة. وحين عدنا الى فلسطين أهنت بهذه الكلمة مرة أخرى من فتاة كنا لاجئين في قريتهم، وكان هناك تنافس مدرسي بيني وبينها، وكنت متفوقا عليها، فقالت لي "أنت لاجئ" وإذا لعنة اللاجئ أو شتيمة اللاجئ ليست فقط خارج فلسطين، فداخل فلسطين هناك اللعنة نفسها.

* لا يزال حتى الآن هناك لاجئون في فلسطين نفسها.

* للأسف، فأنت تجد لاجئا عن بلدته أو مدينته أحيانا في جوار البلدة او المدينة نفسها، فان تكون لاجئا بداية هو إلا يكون لك بيت تستظله، أن تقيم في خيمة حتى لو كانت هذه الخيمة تبعد أمتارا عن بيتك، أو أن تقيم في منزل مستعار ومؤقت، هاتان الحادثتان، أي الضرب والشتيمة، كانتا من بين أكثر الأشياء المؤلمة في حياتي، وأظن أنهما ساهمتا الى حد بعيد في تحديد مسار حياتي ووعيي.

الحاسة السادسة

* هذا النوع من الهشاشة والضعف هل أمدك بنوع من الحاسة السادسة المبكرة تجاه معاناة الآخرين، تجاه ضعفهم وهشاشتهم؟

* لا استطيع وصف الأمر كذلك، لم أعط هذا المعنى، كنت أشعر أنني إنا الهش، وكنت أعالج هشاشتي كما قلت بمحاولة التميز والتفوق في مجالات أخرى،لاحقا صرت أعي أن هذه الاهانات هي في واقع الأمر غيرة، وصرت أشعر أنهم هم الأضعف، وابتدأ عندي بالتدريج أن من يظلمك إنما هو يغطي هشاشته الداخلية.

* أظن أن الشعر جاء في تلك المرحلة؟

* لم أكن في تلك السن أعي قوة الشعر والكلمات بصورة عامة، كنت أقرأ وأكتب أحيانا من دون الانتباه حتى الى أنني أكتب شعرا، كان الشعر، كما القراءة جزءا من عالمي الخاص والحميم، وفي إحدى المرات، فيما يسميه الإسرائيليون عيد استقلالهم، أي نكبتنا، طلب الي مدير مدرسة قريتنا دير الأسد إلقاء قصيدة للمناسبة، فكتبت وقتذاك قصيدة، من دون أن أعي إنها قصيدة، هي في واقع الأمر رسالة الى ولد يهودي، أقول له فيها بما معناه انك اليوم تفرح وانأ أحزن، تعي د فيما الدموع تنساب من عيني، وانه لا يمكن أن يكون عيدا بالنسبة إلي إلا حين أشعر بما تشعر به، أي حين يتحقق لي ما هو متحقق لك، قرأت القصيدة في الحفل، فإذا بي أفاجأ بعد انتهائي بمختار القرية مستاء جدا، وقال بما معناه "هذا اللاجئ يريد أن يوقعنا في المشاكل".

* اللاجئ مرة أخرى؟

* الشتيمة نفسها، المهم أنني لم أكن أدرك أن ما قلته يمكن أن يعني أحدا أو أنه شعر.

* كان موزونا مقفى؟

* أجل.. لكن من دون تقصد كتابة الشعر، كنت أقوم بما يشبه الواجب المدرسي أو فرض الإنشاء.. لكنني فوجئت باستحسان أهالي القرية، أي الأناس العاديين، للقصيدة، وكأنها جاءت لتعبر عن مشاعر مكتومة عندهم، لكن ما فاجأني أكثر هو استدعاء الحاكم العسكري لي وتهديده المباشر لي بالتوقف عن كتابة مثل هذه الأشياء، وإلا فان العاقبة ستكون كبيرة، كأن يمنعون أبي من العمل، عدت الى البيت ولدي شعور مختلط بالخوف على أهلي، وفي الوقت نفسه بأن ما قلته، الشعر، ليس بالأمر البسيط، وانه يمكن أن يزعج حاكما عسكريا الى درجة تجعله يهدد ولدا مثلي.

محاكاة أولى

* في هذه القصيدة المبكرة من كنت تحاكي، من كان مثالك أو نموذجك بين الشعراء أو الأدباء؟

* كنت على الأرجح متعرفا على الشعر المهجري، والأرجح الشعر الأندلسي، إضافة الى الشعر الجاهلي، وأذكر أنني سحرت بالمعلقات وأول ما طمحت الى كتابته فتيا هو معلقة شعرية، لم يكن وصلنا بعد الشعر العربي الحديث، السياب أو ألبياتي أو شعراء التفعيلة.

* لم تكن تعرفت على الشعر العبري؟

* ليس بعد، الشعر العبري تعرفت عليه لاحقا.

* من هم الشعراء الحديثون الذين تعرفت عليهم بداية؟

* كانوا ثلاثة بشكل أساسي محمود حسن اسماعيل وعبدالوهاب البياتي ونزار قباني وكنا نتصارع في المدرسة حول هؤلاء الشعراء، وكانت الانتماءات السياسية، من يمين ويسار، تنعكس في الانجذاب لهذا الشاعر أو ذاك، فينتقل أحدنا مثلا من محمود حسن اسماعيل الى البياتي ثم تتعمق علاقته بناظم حكمت.

* ماذا عن نزار قباني؟

* نزار قباني كان خارج هذا المعنى، كان فوق التجارب السياسية والحزبية، كان يخاطب مراهقتنا، والمراهقة واحدة سواء كنت يساريا أم يمينيا، فتنني نزار قباني في إن هناك أشياء لا تقال كان يقولها، أي أن الشعر يستطيع قول كل شيء علمني نزار قباني أن الشعر ليس له هيبة، يمكن أن تشتغل قصيدة من بنطال، وان مفرداته ليست مستعصية، وان ما نعيشه يمكن أن نحكيه ببساطة تامة، فكنت انتقل بين هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين ذكرتهم.

* تحدثنا عن عالمك الداخلي كطفل، مع المراهقة هل كنت تنظر الى شكلك، هل كنت تجد نفسك وسيما مثلا؟

* أعي أن البنات كن يحببنني، كان شعري أشقر، ولكن لم أكن أظن أن شكلي جميل، ولكني كنت أحب أن يكون لي حظوة لدى الفتيات، بمعنى إنني كنت مثل لعبة البنات، يغنجنني وربما كنت اسليهن لأنني كنت سليط اللسان وجريئا.

* كيف هو شكل الحب في مجتمع قروي محافظ كالذي نشأت فيه؟

* الحب كان يتم عبر تبادل الرسائل، لم تكن هناك قصص حب بل قصص وصال، فالرسالة كانت أقرب الى الزواج الرومانسي، وكنا نفكر بالرسالة كثيرا وننشغل بها... الخ، أما التفكير في الجنس فلم يكن ممكنا.

* متى بدأت تفكر بالجنس؟

* لدي مجموعة حب أول وليس حبا واحدا، والمطلب الجنسي لم يكن واردا لدي أو لدى أصحابي، كنا صغارا ولم يكن لدينا هذا النداء الجنسي الملح.

فريد الأطرش

* كنت تشاهد سينما؟

* كنا نشاهد الأفلام الهندية بشكل أساسي وأفلام الكاراتيه وأفلام فريد الأطرش، الأستاذ وحيد..

* هل كان يجذبك عبدالحليم حافظ؟

* كثيرا، كما كانت هناك أحزاب شعرية كان هناك حزبان في الغناء، حزب عبدالحليم حافظ وحزب فريد الأطرش، وكنت متعصبا الى عبدالحليم الى درجة أنني كنت أرفض الاستماع الى فريد الأطرش، الآن أجد أن صوت فريد الأطرش وكذلك ألحانه جميلة، لكن وقتذاك كنت متعصبا والتعصب يعمي، ومثلما يصيب الدماغ والعين والقلب يصيب الإذن أيضا..

* ماذا عن وجهتك السياسية وقتذاك؟

* كنت متأرجحا بين الناصرية والحزب الشيوعي.

* لماذا عبدالناصر؟

* ببساطة لأنه كان زعيم العرب ومنقذ الأمة، لكن على مستوى الداخل كان انجذابي الى الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان يطرح قضايانا ويدافع عنا كأقلية ضمن المجتمع الإسرائيلي، كنا نعتبره حزبنا والمدافع عنا، وكنا منسجمين جدا في إطار هذا الحزب، من دون أن نكون بعد إيديولوجيين، بمعنى انه لم يكن لدينا فهم بعد للماركسية وأطروحاتها.. ولم يكن هناك تعارض بين حبنا للحزب الشيوعي وحبنا لعبدالناصر، وحين حصل الخلاف لاحقا بين الناصرية والحزب الشيوعي كنا مشتتين، كنا ننحاز الى هذا الطرف أو ذاك، لكن لم تكن لدينا الحجج التي ندافع فيها عن هذا أو ذاك.

* لم تأخذ خيارا؟

* لا، لم أتمكن من ذلك

* لكنك بقيت في الحزب الشيوعي؟

* لبضع سنوات، لكن لم يكن الخلاف حادا، وحين يخطب عبدالناصر كان الجميع يبحثون عن راديو للاستماع إليه، كان الراديو نادرا أيضا.

* متى سمعت كلمة فلسطين للمرة الأولى أنت الذي نشأت ضمن المجتمع الاسرائيلي؟

* كأقلية كان الاسرائيليون يعاملوننا كعرب، رفضهم واضطهادهم لنا كان على أساس إننا عرب، كان إدراكنا إذن لعروبتنا ومن هنا كتبت؛ "سجل أنا عربي" ليس؛ "سجل أنا فلسطيني". كنا نعرف أن هناك بلادا اسمها فلسطين لكن لم يكن هناك مشروع اسمه فلسطين، أو كيانية اسمها فلسطين، يكفي أن تقول أنا عربي من دون الحاجة الى التعريف الفلسطيني، بدأت الفكرة الفلسطينية تنمو بعد نشوء منظمة التحرير الفلسطينية.

* بعد هزيمة 1967؟

* وعلى أنقاض هذه الهزيمة العربية، كان على الفلسطيني أن ينتبه الى فلسطينيته وان يأخذ أمره بيديه. لكن الآن انتبه الى أن مجموعتي الشعرية الثانية كانت بعنوان؛ "عاشق من فلسطين" ولا أعرف من أين جاءني هذا التأكيد على الشيء الفلسطيني، خاصة كما قلت لك أننا كنا ننظر إلى أنفسنا كما كان الاسرائيليون ينظرون إلينا كعرب.

سجل أنا عربي

* "سجل أنا عربي" إحدى أبرز قصائدك المبكرة والأكثر شهرة، هناك من يقول انك لا تحب هذه القصيدة وتتمنى لو أنك لم تكتبها؟

* هذا غير دقيق، مشكلتي ليست مع القصيدة إنما مع قارئها، أي أن محمولها؛ السياسي والرمزي لا يشكل عبئا علي، لكن المشكلة هي مع القارئ الذي يتعامل معها على أنها بطاقة هويتي الشعرية، أي أن محمود درويش يعني بالنسبة الى قارئا معينا؛ "سجل أنا عربي" حصرا، ولا يعرفني حتى الآن إلا بها.. وسأحكي لك بصراحة حكاية هذه القصيدة التي تضعها في سياقها الفعلي، فقد ذهبت الى وزارة الداخلية لاستصدار بطاقة هوية أو لتجديدها، لا أذكر على وجه التحديد، وكان هناك استمارة على الموظف ملؤها وتتعلق بمعلومات عني، عن مكان وعن سكني وولادتي... الخ، الى أن سألني الموظف؛ القومية؟ "أجبته؛ عربي"، فعاود السؤال وكأنما في نبرة السؤال وفي إعادته على هذا النحو استنكار، فقلت له مجددا وكان الحوار يجري بالعبرية "سجل أنا عربي"، خرجت من عند الموظف وأعجبني الإيقاع فبدأت في رأسي بتدوين القصيدة قبل أن أكتبها على قصاصة ورق في الباص في طريقي الى البيت، وكان بناء القصيدة يشبه الاستمارة، أي صفاتي والمعلومات المتعلقة بي، لكن الشعر لم يعد أشقر بل بات أسود وباتت كفي؛ "صلبة كالصخر" وبات عدد أولادي ثمانية، كرد على الموظف، أي الذهنية الاسرائيلية، التي يغيظها كثرة أولادنا، حشدت في القصيدة كل ما يغيظ هذه الذهنية صرت أطور بطاقة هويتي الشخصية وأوسعها لتصبح بطاقة هويتي الجماعية، وجاء ذلك كله بشكل عفوي وعلى شكل ملاحظات سريعة، وكتبتها كخاطرة لا كمشروع قصيدة.

* كتبتها على القافية؟

* على عدة أوزان وقواف، لكن لم يهمني أن تكون قصيدة، أردتها صرخة تحد.. تركت هذه القصاصة جانبا ولم أعرها الكثير من الاهتمام، الى أن كان هناك مهرجان شعري في الناصرة يفترض أن أشارك به بقصيدة، ذهبت وألقيت قصيدة، ولأني كنت صغيرا، وكما يقولون اليوم هناك مطرب جديد صاعد، كانوا يقولون هناك شاعر جديد صاعد.. يقول كلاما، وكنت أحيانا أصعد المنبر بالشورت، لم يكن هناك علاقة بين شكلي ونصي، بسبب ذلك طلب الجمهور الي إلقاء قصيدة ثانية ولم يكن لدي، لكن في جيبي نص؛ "سجل أنا عربي" فألقيتها، وحدث ما لم أكن أتوقعه، شيء يشبه الكهرباء شاع في الجو، الى حد أن الجمهور طلب مني إعادة القصيدة ثلاث مرات، يبدو إذن أنني كنت اعبر عن مكبوت بسيط جدا، لكن غير معبر عنه.

* كان شعورك العفوي حين كتبت؟

* تماما، لكن أقولها لك بصراحة من قرر أن هذه قصيدة هم الناس وليس أنا.. هم الذين قالوا لي هذا شعر، أنا كنت أسميه نصا قبل أن يشيع مفهوم النص، من يومها وأينما أذهب يثار هذا الموضوع ويطلب مني إلقاء هذه القصيدة، وهذا المطلب يتجاهل. أنني مررت بتجربة جديدة، دخلت مع؛ العصافير تموت في الجليل "في الغنائية الخافتة؛ مطر ناعم في خريف بعيد..".

* أي ليس الجملة الضاربة، بل النص المشغول؟

* أي البحث عن الشعر، ولكن هذه القصيدة كانت دائما بمثابة العقبة..

* طاردتك؟

* تماما، هنا في بيروت أو في العالم العربي.. فكنت أخاف من أن تشكل عائقا يمنع القارئ من متابعتي.

* لكن رغم ذلك للقصيدة فضل كبير عليك؟

* لا أنكر ذلك فهي التي عرفت الناس علي، لكن هذا لا يعني إن أبقى، أو أن يبقى شعري، أسيرها.

أحن إلى خبز أمي

* هناك قصيدة أخرى لا تقل شهرة عن "سجل أنا عربي" هي"أحن إلى خبز أمي" وهي أيضا من بين القصائد التي تطلب باستمرار منك حتى انك في أمسية البلمند أخيرا نصبت فخا للجمهور بان قلت مطلع القصيدة، لكن يبدو أن هذه القصيدة لا تشكل عبئا عليك؟

* لا تزعجني، وسر انتشار هذه القصيدة أنها غنيت ولو بقيت قصيدة في كتاب لكان التعامل معها اختلف.

* لكن هناك قصائد أخرى غنيت، ومع ذلك لا تحوز الشهرة نفسها أو الموقع نفسه عند الناس.

* هذا صحيح فـ "سجل أنا عربي" غنيت مرات عدة وصنعت غناء سيمفونيا، فكانت القصيدة أهم من الأغنية، قوتها كانت في ذاتها وصارت خطرا علي وعلى تطوري إذ أرادني الناس أسير هذا المناخ التعبيري. لكن غناء قصيدة "أمي" من ناحية أخرى خدم القصيدة، وعرف الناس على وجه آخر لي ولعبارتي الشعرية.

* لديك مشكلة في تكرار المناخ أو العبارة نفسها، هناك شعراء يبقون أسرى التطلب الجماهيري؟

* هذه مشكلة، وأنا أقول دائما لا أحد ينجو من التكرار وإلا تكون القصيدة فعلا عمل وحي، أي أن الشعراء الأنبياء فاتحون خطا مباشرا مع الغيب.. لا أحد ينجو من التقليد خاصة في البدايات، حيث لا تكون شخصيته الشعرية تكونت بعد، وأنا لا أرى خطرا في التقليد، الخطر الحقيقي هو أن يقلد الشاعر نفسه، إذ أن تقليد الذات خاصة مع بلوغ النضج هو تعبير عن عجز لا عن طموح وعودة الى الخلف وتجمد، تقليد الآخر هو عبارة عن تقدم وطموح، أضف الى ذلك أن تقليد الذات واع، أما تقليد الآخر غير واع دائما، أحيانا تدخل قراءاتك الى نصك من دون ان تدري حتى..

* ليس الشاعر وحده هو المسؤول، فهناك الجمهور الذي يحبس الشاعر في تعريف واحد وإطار واحد، وبالتالي يشعر الشاعر انه إذا خرج من هذا الإطار سينتهي، أي أن هناك تواطؤا بين الشاعر والذائقة العامة؟

* لكن الذائقة العامة ليست نهائية، أنت تصنع الذائقة العامة، الشعراء يصنعون هذه الذائقة ويطورونها ويبدلون في مساراتها، فإذا لم تضف شيئا استفزازيا حتى على نصك لن تتغير هذه الذائقة، فالذائقة العامة تجاه نص كل شاعر، وأتحدث عن نفسي هنا، إذ هناك علاقة خاصة بيني وبين جمهوري.

* هناك توقع دائم؟

* إذن أنا السيد في التحكم بهذه الذائقة وواجبي أن أغير هذه الذائقة، أما حين نتحدث عن تغيير الذائقة العامة بشكل عام فهناك صعوبة وتحتاج بالتالي الى حركة شعرية كاملة تساعد على التغيير، لذلك أتحدث عن علاقة محددة بين شاعر معين وجمهور أختاره بشكل حر وتلقائي، على هذا الشاعر أن يقدم باستمرار اقتراحات مقنعة لهذا الجمهور بأنه ما يزال مرتبطا به، وان العقد بينهما لم يفرط.. إنا أخاطب باستمرار جمهوري هذا وأقول له؛ حسنا احترم ما تعرفه، لكن اقترح عليك تغييره، لأن التوقف جمود والجمود موت وأنا أكبر في وعيي وثقافتي ومشروعي وفهمي للشعر.. هذا تخصصي أيها القراء وليس تخصصكم انتم تمارسون مهنا أخرى، لذا اسمحوا لي أن اقترح عليكم شيئا آخر. بالتالي الصدمة مطلوبة دائما، وقد تستغرب في تجربتي أن كل نص يثير صدمة لدى القارئ بسبب انزياحه بهذه الدرجة أو تلك عما يعرفه، ثم يأتي نص بعده فتجد القارئ يطالبني بالنص السابق الذي أثار من قبل عنده صدمة، وإذن أنا أقوم بتراكمات أساسها الحقيقي أن هناك ثقة بيني وبين قارئي، وقارئي ليس واحدا بل يتحول، هناك باستمرار قارئ جديد، وأنا ألاحظ أن قاعدة قرائي تتوسع لان النخبة في العالم العربي تتسع بدورها.

* في أية حال هذا ما جعل أعمالك الأخيرة تجد قبولا واسعا على الرغم من أنها تقوم على أرضية مختلفة؟

* قد تستغرب إنني اليوم أكثر توزيعا وانتشارا، لان النخبة كبرت والقارئ النوعي كثر، ثم أنني أقنعت قرائي بأنني في الجوهر لم أتغير، لكن أنا لدي طموح شعري مستمر، لذلك أقول أن انجازي الأكبر ليس في ايقاعاتي ولا تراكيبي بل في قدرتي على التواصل مع قارئ جديد ومختلف، وعلى ان اصطحب هذا القارئ في رحلتي وطموحي الشعريين، بحيث بات هو نفسه يطالبني بالتطور والتغير المستمرين، لا أتوقع بالتالي أن يكون قارئ؛ "سجل أنا عربي" هو قارئ "الجدارية" أصبح هناك قارئ آخر "سجل أنا عربي" راح وحل محله قارئ آخر.

* لكن القارئ الأول ما زال موجودا؟

* بطبيعة الحال إذ انك حين تقول قارئي لا تتكلم عن شخص، فهناك أشخاص تغيروا، هناك أشخاص ترجلوا من القطار وصعد آخرون هناك أناس صعدوا في المحطة الأولى، وغيرهم في الثانية وغيرهم في الثالثة... الخ.

تقدير

* منذ منتصف الستينات بت شاعرا معروفا في العالم العربي والاعتراف بك وتقديرك الى تزايد مستمر من ذلك الوقت، أحب أن أعرف متى بدأ أمك وأبوك، وأهلك وعائلتك، بالنظر اليك بتقدير، إذ يحدث أحيانا أن نكون مقدرين على نطاق واسع لكن عائلتنا لا تقدرنا على النحو نفسه، متى بدأت تشعر انك مهم أو لك معنى في عيون أهلك بالذات؟

* منذ بدأت بدخول السجن، أهلي كانوا يعرفون أنني أكتب الشعر وأعمل في الصحافة، لكن شعورهم بأن ما أقوم به مؤثر هو حين بدأت بدخول السجن، وحين وضعت في الإقامة الجبرية صاروا يعاملوني كشخص له وزن، ولاحقا صاروا يسمعون شعري في الإذاعات فأدركوا أنني شخص مهم نوعا ما، واعتقد أنهم بدؤوا يقدرونني منذ ذلك الوقت، لكنهم لا يعبرون بالضرورة عن ذلك.

* هل كان لديهم مشكلة بسبب خلفيتهم الثقافية والاجتماعية مع كونك شيوعيا؟

* إطلاقا، لم يكن لكلمة الشيوعي معنى إيديولوجي، بل معنى نضالي ووطني.

* يتبادر الي الآن إننا لا نعرف الكثير عن دراستك؟

* أنا لم أتلق دراسة جامعية، إذ توقفت عن الدراسة في الثانوية، وذلك للأسباب التي ذكرتها وأيضا لأنه لم يكن في مقدور أبي تعليمنا جميعا بسبب الكلفة العالية للتعليم في إسرائيل.. بالتالي كان علي أن أعلم نفسي بنفسي من خلال القراءات.. والمفارقة إنني دخلت الجامعة لاحقا لإعطاء المحاضرات، لكنني لم أدخلها تلميذا.

* ولا قرأت بالتأكيد أو سمعت "أحن الى خبز أمي" لكننا لا نعرف رد فعل أمك عليها؟

* ولا أنا، حتى الآن لا أعرف..

* لم تسألها؟

* ولا مرة، لا تجيب.. لكن أخواتي قلن لي أنها تفرح حين أكتب لها خاصة حين اسميها بالاسم كما في "تعاليم حورية".. علاقة أخواتي البنات بها مختلفة عن علاقتنا نحن الذكور بها، وهن ينادينها باسمها الأول، رافعين الكلفة معها، وهن يخبرنني أنها تفرح كثيرا، لكنها لا تعبر عن ذلك أمامي..

* هل تدرك أنها بعد قصيدتك لها باتت أما استثنائية؟

* لا أعرف شعورها، مع أنها سليطة اللسان ولاذعة ودمها خفيف، لكنها لا تفصح بسهولة عن عالمها الداخلي.

* هل يحزنك أنها كبرت؟

* لا، كبرت أمي في غيابي مثلما كبرت في غيابها، ولا تنس إننا لم نر بعضنا قرابة ثلاثين عاما.

* إطلاقا؟

* كانت علاقتنا مقتصرة على المخابرات الهاتفية، ومرة رأيتها في القاهرة.

* كيف تصف مشهد عودتك بعد هذا الغياب الطويل واستقبال أمك لك؟

* حرصت لدى زيارتي الأولى لمناسبة المشاركة في تأبين اميل حبيبي على أن يكون دخولي صامتا أو متواريا، لذلك ذهبت الى البيت ليلا وقلت لأخي بألا يخبر أحدا إنني ذاهب الى البيت، لكن حال وصولي الى البيت ورؤية أمي لي حتى راحت تزغرد وكان هذا إشعار للبلدة كلها بأني رجعت.

* هل بكيت؟

* خبأت دموعي.

* هل بكيت كثيرا في حياتك؟

* كثيرا وما أزال ابكي.

* تبكي أي تذرف الدموع أم تخبؤها؟

* اذرف الدموع.

* ما الذي يبكيك؟

* أشياء كثيرة، أحيانا حين أشاهد التلفزيون وأرى مشاهد الانتفاضة، مشهد محمد الدرة أبكاني مثلا، وقد يفاجئك أن الأفلام العاطفية القديمة تبكيني.

* متى بكيت آخر مرة؟

* قد يفاجئك هذا، لكنني بكيت هنا في لبنان خلال أمسية البلمند، فخلال إلقائي المقطع الذي أقول فيه "وأنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل/ فانا لست لي/ أنا لست لي" وحين وصلت الى العبارة الأخيرة غالبتني الدموع وفاجأتني ووجدتني أدير وجهي الى الجهة الأخرى لكيلا يرى الحضور ذلك. وهذه ربما هي المرة الثانية التي ابكي فيها على المنبر، ففي تونس في الثمانينات فاجأني البكاء أيضا، وبعض الذين كانوا حاضرين تلك الليلة قالوا لاحقا أن هيئة البكاء كانت بادية علي منذ اللحظة الأولى لاعتلائي المنبر، لكن أول بكاء جارف وغزير كان في 1967.

* وقت الهزيمة؟

* مع طقس دخول دايان الى القدس، بدا المشهد أكبر من احتمالي ووجدتني منخرطا في بكاء عنيف شعرت معه أن جسدي كله يهتز معه، ولم أحس بالزمن وهو يهر علي على هذه الحالة.

الشعر العبري

* هناك شاعر أمريكي اختارك والشاعر اليهودي ايهودي مينوحين كشاعرين للسلام كيف تصف علاقتك بالشعر اليهودي؟

* ماذا تعني بالسلام؟

* اعني أن هذا الشاعر الامريكي اختار قصيدة لك ووضعها في مقابل قصيدة أخرى لمينوحين يعبر فيها كل منكما ومن زاوية نظرته الخاصة عن توقه الخاص الى السلام والحرية وعن علاقته بالأرض.

* حسنا.. علاقتي بالشعر العبري بدأت بطبيعة الحال من خلال الكتب المدرسية حيث كان هناك عدد من الشعراء المقررين في المنهاج، لكنني لم أكن أحب هذا الشعر، إذ كانت علاقتي به كعلاقة فضول، أحببت التوراة مثلا لأنني وجدت فيها شعرية أكثر مما وجدت في شعر بياليك، الشاعر القومي في اسرائيل.. لم أحب شعره بسبب قوميته الشديدة التي تفوق احتمال شخص مثلي، فهو يغني للمكان، لفلسطين، ويحن إليها، بحيث لا يبقى لي شيء في المكان.

* هناك علاقة مبتورة أصلا بهذا النوع من الشعر؟

* تماما، فلغة بياليك تستولي على مكاني وأنا أولي هذا الحب والحنين للأرض، منذ البداية إذا هناك نوع من الجدار وأنا نفسيا كنت دائما ضد اختراق هذا الجدار، وبياليك هو شاعر مكشوف لا يضللك جماليا، وبالتالي ما لفت نظري الى الشعر العبري بعد المدرسة هو بالذات الشاعر الذي ذكرت، أي مينوحين، فهو شاعر كبير حقا.

* حزنت حين مات مؤخرا؟

* أسفت، لأنه ليس هناك علاقة بيني وبينه، وأنا التقيته مرتين عابرتين فقط، وكان أنيقا ومهذبا، المرة الثانية كانت في نيويورك، واقتصر اللقاء على المصافحة، لكنني رفضت جميع الدعوات الى مهرجانات شعرية تجمعني به أو بسواه من الشعراء العبريين، وقد حاول أن يوسط بعض الأشخاص لكي أشارك، وكان هذا سبب إضافي لدي للرفض.

* ماذا عن العلاقة الشعرية به، فهو يكاد يكون الوجه المقابل لك في الجهة الأخرى؟

* مينوحين شاعر بارع في إخفاء حسه الإيديولوجي، فهو يحاول أن يوظف اليومي والهامشي والإنساني مكان الأسطورة اليهودية، وبالتالي فان شعره يقترح تعديلات شعرية على التوراة. فهو يفضل أن ينظر السياح الى رجل عادي يحمل سلة خضار بدلا من الآثار الرومانية، أي تسليط الضوء على إنسانية الإنسان، ولكن مع ذلك هو شاعر إيديولوجي، المشترك بيني وبينه هو إننا نتنافس، أو أن لغتي ولغته تتنافسان على المكان نفسه، هو يمتلك المكان بلغته وأنا امتلك المكان بلغتي، وحفريات لغتنا تلتقي أحيانا ونحن نحفر، لاننا نتصارع في نهاية الأمر على المكان نفسه، دائما كنت أقول أتمنى أن تكون حروبنا حروبا لغوية وشعرية ومن يملك جماليات أكثر، كنت أحب هذه المبارزة غير المقصودة بيننا، كنا دائما نلتقي عند ذلك الفراق، أو نفترق عند ذلك اللقاء، لكنه شاعر كبير يلاشك، وهو الشاعر الأهم في الأدب العبري الحديث.

* تقول لريتا في "شتاء ريتا الطويل" من "أحد عشر كوكبا": "ضاع يا ريتا الدليل/ الحب مثل الموت وعد لا يرد ولا يزول" وتحدثها عن "لعنة الحب المحاصر بالمرايا" هل يحاصرك تأويل قصائدك الغرامية لريتا؟

* أخشى أن يؤول الحب بصورة عامة الى موضوع من خارجه، وقصيدة الحب عندي تمثل البعد الإنساني الذاتي شبه الوحيد القادر على التعبير عنه وسط الصفة التمثيلية التي تحمله، ولكنني لا أستطيع أن أتحرر من ضغط التاريخ على المشاعر وعلى الهوية، وأحذر ألا أحول المرأة الى موضوعة، أتعامل مع المرأة ككائن إنساني، وأجري معها حوارا شعريا إنسانيا متكافئا بين كائنين إنسانيين. للأسف في ريتا تتداخل نساء عدة، صارت ما يشبه الشفرة، لذلك أقلعت تماما عن الكتابة عنها لكيلا تتحول الى؛ "سجل أنا عربي" عاطفية.

* في "أنا يوسف يا أبي" من "ورد أقل" تقول "إخوتي لا يحبونني" هناك التباس قائم حول هؤلاء الإخوة، هل نستطيع أن نعرف من هم؟

* هذا هو السؤال الوحيد الذي لا أريد الإجابة عنه لأنه يحرج إخوتي ويحرجني، ولكنهم بالتأكيد ليسوا أشقائي، أي ليسوا إخوتي في العائلة.

* ربمان هذه إجابة؟

* ربما.

* ارتبطت بصداقة بياسر عرفات، ألم يخفك ارتباط اسمك به؟

* لا اعرف، لا يستطيع الشاعر أن يقول إنه صديق لقائد أو حاكم، لان الشروط غير متكافئة، ولكن تعاملي مع ياسر عرفات فيه الكثير من البعد الإنساني، وعنده من لياقة السلوك ما ينسيني إنني أمام زعيم، بل أمام إنسان.

* بعض الخبثاء يقول إن "مديح الظل العالي" كتبت له؟

* لا.

* ظل من إذن؟

* هو ظل المقاتل والفدائي وهذا واضح في القصيدة.

تأثرات

* هل تأثرت بالعمق بشعراء غربيين بمعنى هل ثمة من الشعراء الغربيين من تعتبره من روافد عبارتك الشعرية؟

* بالطبع، لا يمكن فهم شعري إذا لم تفهم مرجعياته، أكثر شاعر تأثرت به في شبابي الشعري هو لوركا، تعلمت منه تغيير وظائف الحواس في اللغة، تعلمت الشفافية التعبيرية، أي كيف تستطيع جعل شيء ثقيل ومادي في غاية الخفة كالفراشات، لوركا ادخلني عالم الفراشات، كيف يصير البحر فراشة، والغابة فراشة، والمقعد فراشة، شاعر مائي بامتياز، شاعر آخر هو بابلو نيرودا علمني سلوك الطرق الوعرة، تلك الغنائية المتصاعدة في رحلات كبيرة، على طرق الملاحم، صعود المنحدرات والجبال والعناصر.

* بالنسبة الى لوركا يبدو أحد أكثر الشعراء التي التصقت صورتهم الشخصية بشعرهم، بمعنى ان سيرته وصورته هما رافدان إضافيان في قراءة شعره، هل تعلمت ذلك منه أيضا، بمعنى هل طمحت الى أن تكون صورتك على صورة شعرك؟

* لم أتأثر بشخص لوركا، وحتى وقت لاحق بدأت في قراءة السير والانحسار بها ومنها سيرة لوركا، لكن هذه المعادلة، أي الصورة والنص، لم تكن بين ما تعلمته من لوركا، علمني شعره، هناك ذات النبض الداخلي الذي يحيل الأشياء الى خفة مطلقة كما قلت لك، ثم تعلمت مع نيرودا قوة الشكل، وانه لا حدود للاندفاعات الكبرى للشاعر، وهذه غير موجودة عند لوركا.

* تحدثت في بداية حوارنا عن ناظم حكمت؟

* جذبتني إنسانيات ناظم حكمت، لكنه خرج بسرعة مني ربما لشدة ما أصبح موضة، لكن الآن استعدته واكتشفت أن شعره في الواقع أهم من صورته في الشعر العربي، أهم بكثير.

* ماذا عن ت.س. إليوت؟

* من بين الشعراء الانجليز سحرني إليوت بصورة خاصة، حاولت أن أكون أقرب عاطفيا الى نص أودن، أن اعلم نفسي حبه، بسبب يسارية هذا الأخير ويمينية أو محافظة إليوت، لكنني ملت في النهاية الى اليوت.

* ما الذي أعجبك في نصه؟

* إليوت منظومة شعرية كاملة، ومنه تعلمت تلك العلاقة الفريدة بين النثر والشعر، أي كيف يتحول الشعر الى نثر الحياة، أي أن الشعر يتسع بنثر الحياة، أضف الى أن إليوت صاحب مشروع يمكن اختصاره في نظريته الغامضة حول المعادل الموضوعي، أي حين يكون هناك شيء موضوعي، حدث ما، يخفف حدة اندفاع العواطف، النقد بشكل عام لم يجد حتى الآن تحليلا كاملا.

* هناك شعور بأن إليوت بالنسبة الى المتلقي العربي والحداثة العربية بقدر ما فتح أبواب الحداثة أقفل أخرى، بمعنى أن جزءا كبيرا من الحداثة العربية علق عند حدود "الأرض الخراب".

* هناك الكثير من التقويمات والإحصاءات التي تضع إليوت كأحد أكبر القامات الشعرية في عصرنا الحديث، المشكلة كما قلت في التلقي،إذ لا نستطيع أن نطالب إليوت بألا يكون عظيما الى هذا الحد مثلا.

* هل تشعر انك أقفلت أو فتحت أبوابا؟

* لم أفعل في الشعر العربي ما فعله إليوت، لا أدعي شيئا من هذا النوع.

* قرأت ازراباوند؟

* قرأته وتعبت في قراءته، باوند كمشروع شعري ونظرية أهم منه، كانجاز شعري، وهذه النظرية تتجلى في أناشيده، اقتراحات باوند الثقافية والشعرية أكبر بكثير من انجازه الشعري.

قصيدة النثر

* لم تدخل في سجالات مع قصيدة النثر؟

* لا ينبغي لي فعل ذلك، هناك من اتهمني سابقا بالعداء لقصيدة النثر، لكن الدليل الوحيد على "عدائي" لقصيدة النثر هو أنني لم اكتبها، بالنسبة لي أهم ظاهرة شعرية وأهم اختراق شعري في العالم العربي تمثل في قصيدة النثر، لكن بقدر ما تطورت قصيدة النثر بسرعة بقدر ما دخلت بسرعة في أزمة، قصيدة النثر كإبداع ليست هي المشكلة، لكن المشكلة ربما أن قصيدة النثر لم تخلق نظامها.

* لكنها في طبيعتها ضد النظام؟

* ضد النظام له نظام، إذ ليس هناك كتابة لا موسيقى من دون نظام، والنظام لا يحدده الفهم العام بل كل شاعر في حد ذاته، المشكلة الثانية في قصيدة النثر ليست في سؤال إبداعيتها أم لا، واعتقد أن هذا السؤال حسم منذ زمن طويل، لكن في عصبويتها أحيانا. فقصيدة النثر تبالغ أحيانا في نفي كل ما عداها، وهي لا تعرف الشعر إلا إذا كان نثرا، ولا تعرف الحداثة إلا إذا كانت نثرا، أي أنها أقفلت الخيارات الأخرى، وفهمت الإيقاع على انه لا يأتي إلا من الداخل. هذه مسألة للنقاش، فحتى الإيقاع الداخلي يمكن إن يأتي من الوزن، لم لا. فالإيقاع ليس المسطرة والقاعدة، بل طريقة تنفس الشاعر، خذ مثلا معلقة امرئ القيس المكتوبة على وزن واحد، البحر الطويل، هذا الوزن فيه ايقاعات كثيرة، تتبدل بحسب تبدل نفس الشاعر وعبارته، إذن لماذا نعادي الوزن الى هذا الحد؟ الوزن هو أداة قياس لا أكثر والإيقاع يمكن أن يتشكل من الوزن نفسه. لذلك الرفض المطلق في قصيدة النثر للتعامل مع إيقاع قادم أو مقاس بالوزن. أظن هذا ترفا، لكن هذا لا ينفي إنني أحب قصيدة النثر، وإذا قمنا بإحصائيات نجد أنها الأكثر حضورا.

* هل فرضت عليك قصيدة النثر للسبب الذي ذكرت نوعا من التحدي؟ أي بسبب الاقبال الواسع عليها هل خشيت أن يصبح شعرك خارج البوصلة؟

* لم أخف، لكنني اضطررت أن أقف إبداعيا في حالة دفاع، قصيدة النثر هي التي عادتني، وبالأحرى ليست قصيدة النثر، بل بعض شعرائها الذين اتخذوا موقفا هجوميا، المعالجة هنا لم تكن سجالية أو نقدية، بل إبداعية، فما أحاول القيام به هو كتابة قصيدة نثر بالوزن، لكي أقول أن الوزن يستطيع قول كل شيء ثم إنني أحاول إجراء نوع من المصالحة، ولا يشكل علي نظامي الشعري أي ثقل، فلا استطيع العمل من دون نظام.

* الم يغرك كتابة قصيدة نثر؟

* بم يفيدني هذا الأمر؟ استطيع في قصيدة أن أغير بعض المفردات هل تصبح قصيدة نثر، هل تصبح قصيدة نثر، هذا سؤال مطروح عليكم.

* تبقى الغنائية الخارجية رغم ذلك؟

* لا، فهذه تزول مع زوال الوزن، فعندما يكف الإيقاع عن أن يكون معروفا لا يعود مسموعا، حين ترى أن هذا غير موزون تقول انه شعر نثر، هناك أيضا ما يمكن أن نسميه بالنثر الموزون، شعر أبي العتاهية هو نثر موزون مثلا، في أية حال اقتراحي أن نتوقف عن هذه السجالات، ما ينقصنا هو أن نجد حلولا لهذه المشكلات لا حلولا نظرية.

* هل تابعت السجال الدائر حاليا في مصر حول قصيدة النثر؟

لم أتابعه، وكما قلت ينبغي أن تتوقف هذه السجالات، أنا استمتع بالكثير من تجارب شعراء النثر أكثر ما استمتع بتجارب الشعر الموزون، وأظن انه حتى قصيدة النثر ينبغي إن تتحرر من تحديدات الاسم أي نفي صفة الشعر عنها والقول بالقصيدة، لماذا القول قصيدة النثر؟ فالقصيدة هي تحقق الشعرية في الشكل؟ لنسم قصيدة النثر شعرا فحسب ولدي ملاحظة هنا. أيضا إن قصيدة النثر تغري بالسهولة، إذ ينتج الكثير من التجارب التي هي اقرب الى الخواطر، من دون البحث الشعري أو تصور ما عن الشعر، وهذه التجارب بحاجة للدفاع عن نفسها إبداعيا.

* كتبت المقالة بكثرة، لكنك شعرا لم تجنح الى التنظير، هل كان هذا خيارك؟

* كان خيارا واعيا منذ البداية، أخاف أن اسجن نصي الشعري في نظريته، أخاف إن تصبح النظرية سابقة على النص، إذ إذا كنت منظرا مهما كنت منفتحا على سائر الخيارات فأنت منحاز الى خيارات النظري، واذا ملت الى تجارب أخرى تكون كمن يدمر نظريته. وهذا لا ينفي أن هناك شعراء كبارا اشتغلوا في التنظير ومنهم الايطالي العظيم مونتاليو واودن واوكتافيو باث الذي اشعر أن تنظيره أهم من شعره، بالتالي لست ضد التنظير لكنه ليس خياريا.

ورطات

* متى شعرت خلال تجربتك الإبداعية انك في ورطة انك وصلت الى حائط مسدود بسبب تصورات أو متطلبات شعرية معينة؟

* حين تمر في هذه الورطة من الأفضل إلا تكتب، وآنا أعيش في هذه الورطة منذ البداية، بل إنني اقفز من ورطة الى أخرى، وانأ كثير الاحباطات وليس لدي ضمانات نهائية فيما يتعلق بشعري.

* هذه الورطات تولد شعرا أحيانا، ورطات جدلية؟

* كثيراع أن ننظر هنا لنقول ان الكلام على أزمة في الشعر لا معنى له، لان الشعر في أزمة دائمة، ووعي الشاعر بأزمته يساعده على تجاوزها، الأزمة ملازمة لكل عمل إبداعي، أزمة الأفق غير المضمون.

* هل تتخلص من قصائد لا ترضى عنها؟

* كثيرا، مثلا "لماذا تركت الحصان وحيدا" كان نحو ستين قصيدة وتخلصت من نصفه تقريبا، فأنا محرر صارم لشعري. الكتابة الأهم عندي هي الثانية، الكتابة الأولى هي الكتابة الحرة، والكتابة الثانية هي الامتع التي اهتم فيها في بناء النص وفي الإمساك أكثر بإيقاعه، والكتابة الثالثة هي التنقيح النهائي وهذه أقوم بها بعد عرض عملي على عدد من الأشخاص، وخاصة على أشخاص لا علاقة لهم بالشعر، أي عينات قراء عاديين.

* ماذا تطلب من هذا القارئ العادي؟ رأيا نقديا؟

* لا، اسأله بعد أن أريه النص هل ذكرك هذا النص بي، هل هناك ما قرأته في هذا النص عندي من قبل. مثلا "الجدارية" أقرأتها لأحد الأصدقاء الذي لا علاقة له بالشعر، فقال لي انه يشعر انه قرأ سابقا الصفحات الثلاث الأولى فحذفتها من دون تردد، لأنني بت أشعر مثله أن هذه الصفحات مكررة.

* ماذا تفعل حين تمتنع عليك الكتابة؟

* أتوقف تماما، مرة في بيروت بقيت نحو أربع سنوات بلا كتابة، الشعر كالجنس لا يعاند، مكابدته وقسريته تضران به.

* هل تشعر انك حين تريد كتابة نص جديد، في حال امتناع الكتابة، تلجأ الى مشاعر النص السابق؟

* لا. حين أريد كتابة نص جديد ينبغي أن أكون ابتعدت تماما عن النص السابق، احتاج الى المسافة الزمنية والخروج تماما، بل التمرد تماما على المشروع السابق، احتاج الى ان أنظف نفسي من تاريخي، اقرأ كثيرا في هذه الفترة، واطلع على الكثير من المراجع، وهذا ما فعلته مثلا قبل وخلال كتابة؛ "احد عشر كوكبا" القراءات التاريخية تقربك من المكان وزمنه، تشعرك انك ملتصق به.

* هل زرت غرناطة مثلا بعد كتابتك عنها؟

* زرتها بعد سنتين تقريبا من كتابة النص، وجدت المكان نفسه كما تخيلته، الشيء الوحيد الذي لم يعد موجودا كان الرياحين، أما عدا ذلك فكان لدي الشعور بأنني أزور المكان للمرة الثانية.

* هل تصيبك حالات انفعالية حين تتوقف عن الكتابة، هل تصطدم بالآخرين مثلا؟

لا، يبقى انفعالي داخليا ونصيحتي في حالة كهذه إلا يقرأ الشاعر شعرا، وانصح الشعراء الشباب خاصة بقراءة كل شيء من الجغرافيا الى التاريخ الى السياسة الى جيولوجيا البحار، أكثر مما يقرؤون شعرا، لان جمال الشعر في ندرته، وليس في متناول اليد.

* لا تنصح اذن بان يقرأك الشعراء الشباب كثيرا؟

* كل شغلي لن يؤدي الى إشباع احد.

* هل تشعر أن النقد افاد تجربتك الشعرية، هل كان هناك نقد حقيقي لشعرك؟

* أتطلع الى أن استفيد من النقد، ولكن اغلب نقادي هم إما مداحون أو هجاؤون أو قراء سيرة شخصية، أو قراء ومؤولون لسيرة المعنى أكثر مما هم قراء لمكونات النص الشعري، وان كنت اعلق أملا كبيرا على صبحي حديدي وغيره من الشعراء.

* تقرأ الرواية؟

كنت في السابق، لكن لم يعد لدي الكثير من الوقت، تحتاج الى وقت لتستمتع بشرط الرواية، أي المتعة.

* هل هناك روائي تعتبره من روافدك الشعرية؟

* لا.

* تشاهد المسرح أو تقرأه؟

* أحيانا، لكن لدي شعور بان المسرح انتهى.

* في العالم؟ نعرف أن هناك حركة تتجدد في أماكن كثيرة من العالم.

* لكن ليس في العالم العربي.

* أصدرت الكثير من المجموعات خلال حياتك هل أنت نادم على نشر أحداها، هل تتمنى أن يكون بعضها خارج تاريخك؟

* لو افترضنا أن شيئا من شعري لم ينشر وأردت نشره الآن لنشرت المجموعات الأربع الأخيرة ربما، وحتى هذه المجموعات لكنت نشرت مختارات منها وليس كلها.

محطات

* هل تستطيع تحديد محطات تطورك الشعري؟

* المحطة الأولى كانت حين كتبت "العصافير تموت في الجليل" الذي اعتبرته قطيعة بالنسبة الى عملي السابق. المحطة الثانية هنا في بيروت مع "انتحار العاشق" لكن هذه المحطة أجهضت، بسبب الحرب والأجواء النفسية الضاغطة. محطة أخرى ربما كانت في "ورد اقل"، وبعدها جاء اشتغالي على التاريخ ابتداء بـ "أرى ما أريد" و "أحد عشر كوكبا"، ثم جاءت السيرة الذاتية في "سرير الغريبة" و "لماذا تركت الحصان وحيدا" و "الجدارية".

* هل ستتابع في السيرة الذاتية؟

* أفكر في المتابعة لجهة أن لا عودة الى الحيوات السابقة، أزمة الشخص تتغير ولا عودة على ما كأنه هذا الشخص، استطيع القول أن الشعر الصافي، أي البحث عن الشعر الصافي، البلوري، بدأ هذا السعي من "أرى ما أريد".

* هل كانت بيروت مؤثرة في تجربتك؟

* عشت بيروت في الحرب، لذلك لا أستطيع القول أنها كانت مؤثرة، بمعنى أنني لم استطع القيام بمشروع متواصل هنا في بيروت.

* قلت لي في حلقة سابقة انك بدأت فتى في محاكاة المعلقات، هل ما زال طموحك كتابة معلقة؟

* كتبتها بالفعل في "الجدارية"، فالمعلقة هي ما يعلق على جدار، هذه القصيدة كتبتها مفترضا أنني لن أكتب بعدها، أي أن هذه شهادتي الشعرية وأثري الشعري.

* أين أنت متجه شعريا، الى جدارية أخرى؟

* اتجه الى شيء أبسط، وهذا أفضل لي، لأنني لا أستطيع مواصلة الصعود، فأنا لست متسلق جبال دائما، يستطيع المرء أن يتسلق جبلا عاليا، ثم يذهب في نزهة الى أحد الحقول أو الحدائق، جميلة الحدائق.

* لن تتوقف عن الكتابة؟

* حين أشعر أنني غير قادر على الكتابة أتوقف تماما، أو أتوجه نحو النثر، ولدي بالفعل حنين الى النثر، وأتمنى أن أفشل شعريا لاتجه الى النثر، لأنني أحبه وأنحاز إليه واعتبر أن فيه أحيانا شعرية متحققة أكثر من الشعر نفسه.


شاعر من لبنان
المصدر: مجلة نزوى العمانية.