تقدم (الكلمة) في هذا الحوار الشيق مع الفيلسوف السلوفيني الأشهر، وأحد أعلام الفلسفة الغربية المعاصرة، رؤية غربية جديدة للثورات العربية، ولمأزق المثقف الغربي إزاءها من ناحية، وإزاء الصراع العربي الصهيوني من ناحية أخرى. وهو حوار يكشف فيه جيجيك (أو زيزيك) عن كيف حكم الخوف الثقافة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.

حوار مع سلافوك جيجيك Slavoj Zizek

أكثر ما يزعج مثقفي الغرب الاعتراف بأن ما نراه هو ثورة عربية أصيلة

سميرة المنسي

نادرا ما تتطابق شخصية مفكر مع موضوعاته كالفيلسوف والمحلل النفسي والناقد السينمائي السلوفيني سلافوك جيجيك، فهيئته توحي بأنه قادم للتو من أدغال الثوريين القدامى، أو لا يزال ثابتاً في إطار الصورة النمطية التي شكلتها كتب التاريخ عن جنون الفلاسفة. ولعل سخريته اللاذعة من الحدود المفروضة على مفاهيم حق الاختلاف التي رسمتها ثقافة ديمقراطية العولمة وما بعد الحداثة في أي سجال ديمقراطي، بالاضافة الى اطروحاته حول مناطق اللاشعور التي لا يوجد فيها حسب نظرياته وعي زائف ووعي حقيقي، لأن الوعي بحد ذاته يكتنفه الغموض، هي من الاسباب التي جرَت خلفه ألقابا مثل، اكثر الفلاسفة المعاصرين شهرة واثارة للجدل، ونجم الفلسفة المتمردة، وفيلسوف يرفض الحوار الفلسفي، وفوضوي ماركسي يعترف بأن نهاية الرأسمالية لا يعلم بها غير الله.

يراهن سلافوك جيجيك Slavoj Žižek على التغيير الراديكالي، ويصف نفسه بمبعوث الفيلسوف الفرنسي آلن باديو في تحرير نظرياته الفلسفية من الأقبية الاكاديمية، كي تساهم في قراءة معضلات حياتنا اليومية، وما يساعده في إتقان هذه المهمة هو تناغم قدرته الفطرية الفائقة مع مهاراته في توظيف الفلسفة وعلم النفس لفرض تصور مغاير للأشياء وصدم كل ما هو مألوف في الثقافة السائدة. وغالبا ما يستخدم جيجيك السينما لاضاءة السياسة فهو يقول مثلا: تقوم هوليوود اليوم بدور مراسل صحافي من الجبهة الايديولوجية الامريكية، يستدرج المشاهد ليشارك في سرد عدم اليقين الذي يعصف في دوافع الذات الانسانية، وبما ان الشك عنصر أساسي من عناصر الموضوعية، فلا بد له من ان يظهر في الشخصيات (التي الى جانبنا) وهذا الصدق يكشف بتقنية ذهنية وبصرية عالية (جانبنا المظلم) غير ان الاضاءة تحجب قراءة ما يدور في أعماقه، وفي المقابل فان أعداءنا ليسوا بشرا بل آلات قتل ومتصالحين بالكامل مع رغبات الانتقام. وجميع هذا يحشره الجيش الاسرائيلي ووسائل إعلامه دفعة واحدة في شخصيات عملاء الموساد الذين يطاردون الارهابيين الفلسطينيين المهووسين بالانتقام. حينما نشاهد هوليوود الاسرائيلية لا يمكن ان نشعر بشيء آخر غير البغض الشديد تجاه شخصيات الموساد الذين يقومون بدم بارد بقتل الفلسطينيين ومن دون حضور أي دافع من دوافع الذات وعدم يقينها، فهم غير مضطرين لتفسير ذلك لأن (قمنا بواجبنا) تعني تحليل سياستنا العسكرية التي تحتم علينا تقديم الصدق الواقعي وليس إظهار الرحمة، مثلما يحتم على العالم ان يفهم ان الجندي الاسرائيلي ليس قاتلا ولا بطلا، وانما هو بشر وقع في مصيدة التاريخ والحرب كما أننا لن نسمح لوحشية الحرب ان تعرقل ممارسة حياتنا الحميمة.

 

ولد سلافوك جيجيك في سلوفينيا، وهي احدى جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي السابقة، عام 1949، وأصدر عشرات الكتب منها: (الالتزام الصعب)، و(من قال شمولية)، و(الدمية والقزم)، و(مرحبا بكم في صحراء الواقع)، وآخرها (مرحبا بكم في الزمن المثير)، وهو العمل الذي سبق حضوره الصاخب الى بوليفيا ليفتح باب النقاش قبل أيام حول رؤيته للمتغيرات العالمية الراهنة والتي يمكن اختزالها في عبارته: التغيير الجذري اصبح اليوم ممكنا .وفي هذا الحوار الخاص وافق ضاحكا على طلب حصره في رؤيته السياسية للثورات العربية، وعلى محاولة عدم التقافز بين نظرياته الفلسفية، حتى لا أكتشف لحظة انتهائه من إثبات إحداها، بأنه قد انتهى فعلا من عرض نقيضها.

 

** كيف ترى المشهد التالي: تصحو الشعوب العربية فجأة، فيصبح المستحيل ممكنا في العالم العربي. يسقط طاغية تونس ثم طاغية مصر، ينشغل المجتمع الدولي في المراهنة على سقوط الطاغية التالي، يستشرس القذافي ويذكر الولايات المتحدة بأن الديكتاتوريات هي حصنها الوحيد ضد القاعدة وإرهابها الاسلامي، لا تجيبه واشنطن، فيعلنها حربا مقدسة ضد الغزو الصليبي، تستيقظ دول تحالف الناتو من ذهولها وتنسى انها تشكل 70% من الاحتياط العسكري في العالم، وتقرر ارسال قواتها الخبيرة في اشعال الحروب في افغانستان والعراق لانقاذ شعب ليبيا، وترسل في الوقت نفسه القوات السعودية لانقاذ حاكم البحرين من شعبه. يدور رأس الانسان العربي، وعوضا عن متابعة مسيرة ثورته الطبيعية في اليمن وبقية الدول العربية، يقف وينتظر كيف ستقسم الحرب الاهلية ليبيا، ومتى ستبدأ قوات حلف الناتو في تثبيت حكم الأنظمة الملكية عبر سورية؟.

* هذا المشهد يستدعي مقولة: اننا نرى الشر يرقص على انقاضه، فالغرب الذي الغى ارادة الشعوب العربية وتحالف مع طغاتها، ها هو يلتف على ازماته، ويحاول اقناع الشعوب العربية بأنه يرقص معها على انقاض طغاتها وليس على انقاضه هو، وكي تتضح الصورة علينا النظر الى كابوس الغرب الجاثم في المملكة العربية السعودية.

أتعرفين؟ عندما خلق الاستعمار المملكة العربية السعودية، بناها بطريقة يستحيل معها الالتقاء بأي شرط من شروط العداله الانسانية، وركبها بحيث نظل نرى فيها مسخ الرأسمالية البشع وهذا ما اقوله دائما للامريكيين: ان اردتم مواجهة أزماتكم، إذهبوا الى السعودية، هناك ستلتقون بها.

لقد صدمت عندما نشر موقع ويكيليكس الوثائق التي بينت كيف ضغطت السعودية على واشنطن من اجل ضرب ايران، وصدمت اكثر عندما تذكرت كيف ساعدتها قبل سنوات على تسليم العراق برمته الى ايران. السعودية كمشروع استعماري لن تستطيع العيش في مناخ طبيعي،لان وجودها يغذي ويتغذى من ديمومة الصراعات الطائفية.

القضاء على الارهاب الاسلامي وضمان حقوق المرأة في العراق وافغانستان كانت رواية الولايات المتحدة الامريكية الرسمية، ولكن سياستها الحقيقية هي إنتاج الارهاب والتطرف بأشكاله المختلفة، سواء كانت دينية او عرقية او قومية. وخلق سعودية ثانية وثالثة، ويجب ان لا ننسى ان هناك باكستان وهي اشد منفذي برنامج أسلمة التطرف بتمويل سعودي.

عندما اندلعت الثورة المصرية تمنيت ان يتسع ميدان التحرير ويصل السعودية، ففي هذه السعودية الشاذة عن جميع الاعراف السماوية والأرضية لا يتحدث احد عن الفساد، لماذا؟ لانهم لا يحتاجون الفساد هناك، فالملك يملك كل شيء، عاد من رحلة علاجه ولم يفهم ان للشعوب مطالب اسمها حرية وعدالة، فأمر وزارة الداخلية باستحداث آلاف الوظائف العسكرية، وبصرف مبالغ للعاطلين عن العمل من ميزانية مجهولة، هل لها اسم عندكم؟

 

** ربما ميزانية (أعطه يا غلام).

* جيد، هذا هو، في البلاد الاخرى يوجد رؤساء يسرقون، ولكن ملك السعودية لا يحتاج للسرقة لانه مالك البلاد واهلها ... ما هي الصورة التي يعرفها العالم عن الشيوخ والامراء العرب؟ أنهم يفضلون في الوقت الحالي العاهرات الروسيات والاوكرانيات. في زيارتي الاخيرة الى الخليج، قال لي اصدقائي: انظر الى تلك السيارة، انها مخصصة لجلب العاهرات للامراء السعوديين وتأمين كل ما يحتاجونه من مخدرات وغيرها.

إن الدوافع الانسانية المفاجئة التي ساقتها قوات الناتو خلفها لاحتلال ليبيا، تشبه نادرة حدثت خلال الحرب العالمية الاولى، فقد بعثت ثكنة ضباط الجيش الالماني برقية الى ثكنة ضباط الجيش النمساوي في ذلك الوقت تقول: الوضع في جبهتنا كارثي، ولكنه ليس جديا، وكان رد ثكنة ضباط الجيش النمساوي: الوضع في جبهتنا جدي، ولكنه ليس كارثيا

بهذه الصورة يعطي الغرب اولوياته. واذا سألنا ماذا تفعل قوات دول حلف الناتو في ليبيا، نجيب هو ما تفعله القوات السعودية في البحرين، وما تمر به شعوب الدول العربية الاخرى قد يكون جديا، ولكنه ليس كارثيا. ووضع شعب اليمن ليس كارثيا ولا جديا. المشهد مثير للغاية، وربما نصبح في الايام القادمة شهودا على مرحلة لا تصدق وتتصف بالجنون الكامل. هل يتوقع احد ان ترسل الامم المتحدة قوات حلف الناتو لتحرر الشعب السعودي والشعب البحريني من طغاته؟ لا ضرورة لذلك، فالقواعد العسكرية الامريكية موجودة هناك وحرية تلك الشعوب ايضا.

حمى التغيير الدائرة في الوطن العربي تكشف الوجه الحقيقي لديمقراطية الغرب، وحربه على ما يسمى بمحور الشر والارهاب الاسلامي. هل نعرف أحدا كان إرهابيا قبل ان تجنده المخابرات الامريكية؟ والغريب ان الجميع يعرف ذلك، ويعرف كيف تخلق الولايات المتحدة أعداءها ولماذا تتخلص منهم. اظن اننا نقترب من ولادة مرحلة جديدة وخطيرة، وحتى ندخل فيها يترتب على يساريي العالم أولا تشييد تمثال ضخم لجورج بوش، لأن سياسته الحمقاء، أطاحت بالهيمنة الامريكية ودمرتها.

** هل لا تزال ثورة الشعب الليبي تحمل اسم الثورة بعد ان حملت سلاح حلف الناتو؟

* لا ادري، ولكن ما يحدث استطيع تسميته بالتوازن الكارثي، لان الثورات العربية تمر في الوقت الراهن بمرحلة لا احد يستطيع المراهنة على نتائجها، ولكنها بكل تأكيد بارقة امل تشق طريقها بثبات لقلب دور العالم العربي الذي عمل الغرب على ترسيخه طوال الحقب الماضية، إذ كان مجرد جدار عازل سد الطريق أمام أي تغيير محتمل داخله، أو ليعبر من خلاله الى مناطق اسيوية وافريقية اخرى.

واعتقد ان مصيبته الاساسية هي افتقاده القاعدة اليسارية العلمانية، واتمنى ان يتدارك الشعب العربي ذلك وخاصة في ليبيا ويسعى الى احداثها، حتى لا يقع فريسة السياسة الدولية كما حدث في افغانستان الثمانينيات، وعليه ان يتعظ من فشل التجربة الاشتراكية في اوروبا الشرقية التي اكتفت بالوصول إلى السلطة.

الفيلسوف الفرنسي آلان باديو وضع ثلاثة اشكال مختلفة لفشل الثورة: الأول ـ يتمثل في هزيمتها المباشرة من قبل عدو يسحقها ويخضعها ببساطة تحت سيطرته؛ والثاني يتمثل بالهزيمة التي يقودها النصر نفسه، وذلك حين تتبنى الثورة المنتصرة مشروع عدوها، ليصبح نظام ثورتها الداخلي؛ والثالُث ـ حين تصبح سلطة الدولة التي ناضل الشعب ضدها، هي هدف الثورة لتنفيذ طموحات الشعب. وفي هذه النقطة يكمن فشل الثورة الحقيقي، وربما الساحق. والتعريف الفطري الصحيح له هو: اكتفاء أي ثورة بالوصول الى سلطة ترسخ فيها كل طاقاتها، يعادل خيانتها، لانها فشلت في استحداث بديل حقيقي لنظام اجتماعي وسياسي مرتبط بتفاصيل مجتمعها اليومية، وفي تبني استراتيجيات متواضعة وبسيطة بعيدة عن السلطة، تعمل بآلية شعبية مؤثرة هدفها التغيير الجذري والحازم.

أرى في الثورة المصرية انطلاقة تمرد الشعوب العالمية! وفيها ايضا تتحدد هويتنا جميعا! وبقدر وضوحها توضحنا، ولا تحتاج لتحليلات محللين اجتماعيين أو سياسيين، وهي على العكس من الثورة الخمينية في ايران، التي لم يجد اليساريون الايرانيون في ذلك الوقت طريقا اخر غير ارتداء عمامة الخميني لتهريب ايديولوجيتهم. في تونس ومصر كان الامر عكس ذلك، لقد اضطر الاخوان المسلمون الى اخفاء عماماتهم، وتبني خطاب العدالة الاجتماعية والحرية العلماني. لم يجدوا مفرا من ترديد لغة المتظاهرين العلمانية، وهذا برز جليا بالصلاة المشتركة في ساحة التحرير، التي توحد فيها المصري المسلم والمصري القبطي. تلك الصلاة كانت الاجابة المثلى على رفض الشعوب العربية لأي عنف ديني وطائفي أنتجته حكوماتهم، وسوّقه محافظو اوروبا الجدد. ثورة تونس ومصر رد صريح على ان العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية والحرية هي التي تطالب بها الشعوب، وليس الحرية الفردية، أو حرية السوق الحرة. ومن جانب اخر عبرت ثورة مصر عن رفعة التضامن بين متظاهري ساحة التحرير، ومتظاهري عمال ولاية ويسكونسين الامريكية، في نضالهم الذي لا يعرف عنه الكثيرون ضد حاكم الولاية ومشروعه الفاشي في القضاء على حقوق النقابات العمالية.

ان خيار الشعوب الوحيد في هذه الاوقات المثيرة هو الوحدة، وفعل كل شيء يبدو مستحيلا ضمن النظام السياسي القائم، والايمان بأن الواقعية لن تتحقق الا بطلب المستحيل، ومصر وتونس علمتانا ذلك.

كل ما ارجوه هو تغيير حقيقي ينهي هذه المرحلة المؤلمة من تاريخ الشعوب العربية، لتستطيع شق مستقبلها بديمقراطية، ورغم عدم تفضيلي لما تسوقه مفردة 'ديمقراطية' لانها تفتح الابواب حتى نقول: الديمقراطية تعني الديمقراطية الغربية، والديمقراطية الغربية تمر في أزمة حقيقية؟ وإن سألنا، بأي معنى؟ نجيب: لانها فرغت من محتواها، وهذا الامر قد لا نلحظه بسهولة، بسبب ديمقراطيتها التسويقية، وبهذه المناسبة أحب دائما ذكر التالي: قبل اسبوع من الانتخابات البريطانية الأخيرة، ليست التي خسرها توني بلير، بل التي فاز بها، كنت في بريطانيا، وشاهدت محطة تلفزيونية تجري تصويتا بين مشاهديها على اكثر شخصية سياسية يكرهها الشعب البريطاني، أجمع الناخبون على اسم توني بلير، وبعد مضي أسبوع فاز توني بليرـ اكثر شخصية سياسية يكرهها الشعب البريطاني بالانتخابات العامة، وهذه اشارة واضحة تؤكد فشل الانتخابات البرلمانية على قياس رأي الشعب واختياراته.

وقبل أشهر أعاقت الحكومة البريطانية تنفيذ اصلاحات تربوية، فقام الطلاب باحتجاجات اتسمت بالعنف والمواجهات مع رجال الامن. هذه اشارة اخرى تؤكد ان الديمقراطية الرأسمالية لا تقيس نبض الشعب ولا تقترب من مطالبه الحقيقية، لذلك خرج الطلاب الى الشارع لعرض مطالبهم، وسوف يخرج طلاب اوروبا وشبابها الى الشارع مرة ثانية وثالثة، ليقولوا: لا عمل لدينا ولا أمل.

 

** ولكن السؤال المطروح حاليا هو: ماذا سيحدث غدا؟ ومن سيجني ثمرة الثورة العربية السياسية، خاصة وان هناك آراء تقول ان موافقة العالم العربي على دخول قوات حلف الناتو ليبيا، أوقع الثورات العربية في دائرة الفوضى الخلاقة، لما بعد شرق اوسط جديد، التي صاغتها الولايات المتحدة في عهد بوش الابن، وبدأت في تنفيذها بعهد اوباما؟

* ربما، فكل شيء يدل في الوقت الراهن على عولمة الحروب الاهلية، لتحل محل نظام العولمة الذي خضعت له ملايين البشر في الحقبة الماضية، ويدل أيضا على طلاق وشيك بين الديمقراطية والرأسمالية الذي تكشفه حالة الطوارئ المعلنة في الولايات المتحدة واوروبا ضد الهجرة غير الشرعية، لأن الرأسمالية في أزماتها تتخلى عن ديمقراطيتها. الجميع يعرف كيف تخلت الولايات المتحدة عن الديمقراطية ،حينما عاقبت كل من رفض الحرب على العراق، وحينما تطابقت مصالحها مع مصالح البنوك إبان ازمتها الاقتصادية عام 2008، في ذلك الوقت كان على الجميع نسيان الديمقراطية، لأنها لا تحل الازمات. ربما بعد عولمة الحروب الاهلية، ستجد الولايات المتحدة الوقت الكافي للحديث عن الديمقراطية وعن غيابها هنا وهناك.

 

** هل تتفق مع الرأي القائل، إن تعاطف مثقفي الدول الغربية مع متظاهري تونس ومصر، بدأ عندما تأكدوا ان فلسطين غائبة من قائمة احتجاجاتهم؟

* ولهذا، هو تعاطف كاذب ومخادع، لانه نابع من ثقافة المؤسسة الاستعمارية وشروطها، والدليل على ذلك الصراع الدائر بينهم حول كيفية تحويل مجرى ثورة الشعوب العربية لما يخدم المصالح الغربية. العالم أصبح متأكدا من ان الثورة العربية سينبثق عنها نظام دولي جديد، والغرب يعمل على تأويل ثورات الشعوب العربية، واحتوائها في أجندته، ويعمل مثقفوه في هذه الاثناء على تحديد سقف ثورات الشعوب العربية بالديمقراطية الرأسمالية. ويقولون الشعوب العربية تريد فقط تطبيق ما عندنا: الديموقراطية البرلمانية الرأسمالية الليبرالية. ولأنها لا تملك أيديولوجية سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة سوف تطبق الديمقراطية الغربية. هذا النفاق برز ايضا خلال الاحتجاجات التي نظمتها المعارضة الايرانية، فقد انبرى مثقفو الغرب في الدفاع عن المعارض الايراني حسين موسوي، وعندما اتضح لهم ان الرجل ليس مغرما بالليبرالية البرلمانية الغربية، وانما يكافح من اجل ثورة ايرانية حقيقية، رفعوا أيديهم واقلامهم عنه وقالوا: الموسوي يتفق مع الخميني، ويعارض احمدي نجادي.

اكثر ما يزعج مثقفي الغرب هو الاعتراف بان وراء الشعوب العربية ثورة عربية اصيلة، لانهم يعتبرون أي تغيير تطالب به المجتمعات الدولية يجب ان لا يخرج عن نطاق الديمقراطية الغربية الرأسمالية، وغير ذلك لا يسمونه تغييرا، وانما تعصب قومي أو تطرف ديني.

إن الخطر الاكبر يكمن في تصديق وهم الديمقراطية الغربية، وتحديد مبادئها الرأسمالية كصيغة نهائية لكل حركة تغيير تطالب بها الشعوب. وذلك بهدف إجهاض أي محاولة لتغيير أسسها بشكل جذري، واعتقد ان الشعوب العربية تحتاج في هذه المرحلة الى التحالف مع المعارضة الايرانية، خاصة في ظل الفراغ الهائل الناجم عن غياب مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب اليسارية الفاعلة. ومن غير ملء هذا الفراغ ستقع ثوراتهم في الهيمنة الغربية وسياستها الدولية الليبرالية، ومن افرازاتها التطرف الديني والطائفية التي لم تنته بعد في العراق وافغانستان.

 

** اذا، هل اعتبار الديمقراطية الرأسمالية الاطار النهائي والمحدد لكل حركة تغيير تطالب به الشعوب هو الذي دفع مثقفي الغرب إلى إعلان حالة الطوارئ لحماية ديمقراطية اسرائيل من حرية الشعب العربي؟

* بكل تأكيد، لقد قلت مثقفي الغرب، وهذا يعني ان هناك ثقافة، وأول إنتاجات ثقافة الديمقراطية الرأسمالية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، هي ثقافة الخوف من تهمة معاداة السامية، التي اراحت ضمير المجتمع الغربي من محاسبة جرائم اسرائيل، كما اراحت ثقافة الخوف من تهمة الانتماء للشيوعية من محاسبة الولايات المتحدة على جرائمها في شتى بقاع الارض. ومن أبرز انتاجات ثقافة الديمقراطية الغربية اليوم، ثقافة الخوف من المهاجرين والاسلام. اوروبا الشرقية وأوروبا الغربية كانت تخضع حتى وقت قريب لسيطرة حزبين رئيسيين هما حزب اليمين (الديمقراطي المسيحي المحافظ الليبرالي الشعبي الخ) وحزب اليسار (الاشتراكي الديمقراطي الخ) أما اليوم فان حزب اليمين هو من يتصدر الواجهة، ومن أجل نشر ثقافة عولمته الرأسمالية، تسامح مع قضايا مثل حق الاقليات الدينية والقومية، ودعا الى الحرية الفردية مثل الاجهاض والحرية الجنسية. أي بمعنى إعطاء الشخص حق النوم مع كلبين، ولكن ليس من حقه الانتماء لاي أفق سياسي خارج المنظومة، ومن جانب آخر بدأ بتأسيس ودعم ميليشيات يمينية متطرفة لترويع المهاجرين وطردهم، واكبر مثال على ذلك ايطاليا برلوسكوني، حيث اصبحت فوبيا الخوف من المهاجرين المطلب الوحيد الذي يحرك الناخب الايطالي عند صناديق الاقتراع.

أظن ان اللحظة المناسبة قد حانت لتدرك شعوب الدول الغربية، لماذا تهدد الديمقراطية الحقيقية حريات الشعوب، ولماذا لا يمكن لاسرائيل العيش الا في محيط مقموع، ولماذا لا نفهم ان حرية الشعوب العربية هي الطريق الوحيد من اجل رؤية مصير أبعد من معاداة السامية. إسرائيل بالمناسبة تكشف يوما بعد يوم عن وجهها الحقيقي، فهي دولة مغلقة على طائفيتها، ومن يحاول انتقادها يتهم فورا بمعاداة السامية، وهذا ما حدث معي عندما كتبت عن طائفية اسرائيل في صحيفة' ليموند'. أنت فلسطينية وتعرفين أن اكثر ما يصيب اسرائيل بالهستيريا ويوقعها في حالة هذيان هو رؤية فتاة اسرائيلية برفقة شاب فلسطيني. هذه الظاهرة تحاربها دولة اسرائيل بكل الطرق، وفتحت مراكز الصحة النفسية لمعالجة هؤلاء الفتيات من ميولهن العاطفية تجاه الرجل العربي. وهذا يطرح السؤال التالي: ماذا يحدث لو لم يحدث شيء؟ والاجابة: لا شيء ومن هذا اللا شيء لا احد يرى حجم الصراع الحقيقي، لان تحايل اسرئيل القذر وتسويق الغرب لديمقراطيتها، حشر جرائم دولة اسرائيل في زاوية (نزاع متبادل بين طرفين).عندما كنت أقول لاصدقائي الاسرائيليين اليساريين، أنظروا ماذا فعلت بكم إسرائيل، لقد سمحتم لها ان تحول ما قدمه اليهود عبر العصور الى جرائم عنصرية، كانوا يجيبونني: قد يكون صحيحا اننا نضطهد الفلسطينيين، ونحرمهم من حقوقهم، ولكن هذا لا يعني ان نسمح لهم كل يوم بإسقاط قنابلهم فوق رؤوسنا؛ لماذا لا يقبلون التعايش معنا؟ ولماذا لا يكفون عن ممارسة الارهاب ضدنا؟ ولكن بعد نشر موقع ويكيليكس الحقائق التي تؤكد ان السلطة الفلسطينية في رام الله قدمت من أجل هذا التعايش الكثير، وكانت كريمة للغاية وبطريقة لم يتوقعها أحد، جاء رد هؤلاء الاصدقاء: في نسيان غزة! ستصبح الامور افضل مع الضفة الغربية، وفي هذا الاتجاه المرعب تريد إسرائيل ان يسير مصير الشعوب العربية.

 

Samira_almansi@yahoo.de