في نصه الثاوي عند تخوم الشعرية، يترصد الكاتب التونسي حدوث ثورة الياسمين، محاولاً مع القارئ استيعاب طبيعة المسارات السياسية اللاحقة، وما اخنى الزمن على أنساق بعضها بفعل ذرائعيّة برغماتيّة طافرة.

كنّا هنا .. وما كانوا هنا

مصطفى القلعي

كنّا هنا في تونس الوديعة..

نحن ترابها.. نحن رائحة ترابها..

كنّا هنا في تونس التي كانت وديعة..

كنّا هنا في تونس التي صارت منتفضة.. غاضبة.. ثائرة..

نعم، أخيراً..انتفضت تونس على الاستبداد والكليانيّة والتوتاليتاريّة والمافيوزيّة

شيء لا يصدّق..؟؟

من تونس السياحيّة البورقيبيّة المدنيّة غير القوميّة ولا الماركسيّة ولا الثوريّة، طلعت بنت اسمها.. الثورة..

نعم، اسمها الثورة..

وقد كنّا هنا..

يوماً بيوم ولحظة بلحظة عشناها..

بكلّ الخوف والأمل واليأس والشجاعة والتهوين والإيمان والتصديق والتكذيب..

عشناها..

كنّا شهودا على سقوط نظام الاستبداد والحُقرَة والتغوّل واللصوصيّة والبذخ الملطّخ بآهات المظلومين والمقهورين والمسروقين والعاطلين.

رأيناه وهو يتهاوى شعرةً.. شعرةً، تحت وقع نبإ كلّ مظاهرة تنطلق وكلِّ قنبلة غاز تطلق وكلّ ضربة ماتراك تطال ثائرا وكلِّ شهيد يسقط وكلِّ أمّ شهيد تنوح.

كنّا هنا نرى الناس، فجأة، يتحابّون.. يتضامنون.. يتنادون.. يتناجدون ولا يجبُنون..

كنّا هنا في تونس أثناء الغضب الثوريّ.. لا تهليل لأحد.. ولا تسبيح.. ولا تكبير.

كنّا هنا..

كلّ صباح نسرع الخطى إلى بطحاء محمد علي حيث مقرّ اتّحاد الشّغل نتسقّط الأخبار ونتفقّد بعضنا ونستلهم بعض جرأة تطفئ نزوع الذّات نحو الخوف.

كنّا هنا ننهض صباحاً فنتجوّل في الأحياء حولنا فنرى آثار الثائرين على الطرقات.. إطارات محروقة، متاريس حجريّة.. بقايا خراطيش..

كنّا هنا ورأينا الجميع، ولأوّل مرّة، مجتمعين حول شعار واحد أخير "الشعب يريد إسقاط النظام". كان الشعار محتَضَناً من قبل شعارات صديقة أخرى "خبز، حريّة، كرامة وطنيّة"، "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق".

كنّا هنا نرى أحلامنا تتجسّد حيّة في الشارع.

كنّا هنا نرى الخوف يموت في الثائرين.

كنّا هنا نرى الشُّرَطَ يضعون أصابعهم على الزّناد..

* * *

كنّا هنا.. وما كانوا هنا..

* * *

كنّا هنا وما كانوا هنا لا خلايا حيّة ولا ميّتة..

كانوا مختبئين..

أو لعلّهم خائفين..

أو لعلّهم ينتظرون اللحظة المناسبة..

أو لعلّهم .. أو لعلّهم..

رأيت دموع الشيخ راشد الغنّوشي (الذي يستطيب اليوم دعاء: رضي الله عنه؟؟)

رأيت دموعه ليلة 14 جانفي 2011 مباشرة على شاشة قناة الحوار في لندن، وهو يشاهد فيديو "بن علي هرب" لرفيقنا المناضل الشجاع عبد النّاصر العويني.

ترى لماذا بكيت يا شيخ راشد؟؟

بن علي هرب.. بن علي هرب..

* * *

فارتبكت الفلول.. الفلول التي كانت حاكمة وتلك التي ستصبح حاكمة

تنادت بليل وتغامزت سرّا واتّفقت على القسمة.

واجتمعت بعيدا كعادتها في التنظّم الحركيّ السريّ غير الثوريّ.. وخطّطت: هذه فرصتنا في الحكم. لقد صدقت نبوءة راشد..

هلهبّا.. هلهبّا..

قرّروا حينها أن يحكموا..

فلا يوجد حاكم يخشونه لأنّهم كانوا يخشون الحكّام. ولا يخشون قبل الحكّام وبعدههم سوى أمريكا.

كانوا يناضلون.. ولكنّهم ما كانوا يثورون ولا يواجهون.

كانوا يناضلون باسم الدّين.. والدّين حائر: لستُ لأحد، هم لي وأنا لست لأحد

خلطة عجيبة؛ مكرفتون ومعمّمون وملتحون ولحاهم أنواع وأصناف (برؤوس وشوارب حليقة على النمط الوهابيّ وبتجميل وتصفيف حداثيّ جماليّ على النمط الجبالي ... إلخ) وحالقون..

هكذا طلعوا علينا بعد أن ثرنا..

كانوا جميعا بلا لحى.. لعلّهم كانوا خائفين، فمن لا يخاف الاستبداد؟ كنّا جميعا خائفين من التعذيب والظلم والسجن..

ولكنّنا ثرنا.. وما شاركونا الثورة

كانوا يرضون بكلّ ما يقسطه لهم الحاكم..

تكتيك، يعني، هكذا يسمّونه.

كان الثائرون في العراء يؤدّون مهمّة ثوريّة ثانية بعد إسقاط الدكتاتور المستبدّ

كانوا يشكّلون لجان الحماية.. لجان الكرامة والرجوليّة.

كانت السلطة ملقاة متروكة تعفّف عنها الثائرون..

فالتقطتها الفلول الحاكمة واشتهاها طلاّبها القدامى حملة مشروع الهلال.

كان الثائرون يواجهون المجهول..

وكانت الفلول تراود السّلطة..

ثمرة يانعة مشتهاة متروكة..

فمدّ يدك باسم الله واقطف.

كنّا طلاّب ثورة.. وكانوا طلاّب سلطة..

فأتتهم "منقادة إليهم تجرّر أذيالها" كما قال أبو العتاهية.. والأصحّ ارتموا عليها والتقفوها بالصندوق العجيب..

* * *

كنّا هنا.. وما كانوا هنا..

* * *

ما كانوا في الساحات ولا في الشوارع ولا في الميادين..

كانوا يراقبون..

وينتظرون اللحظة المناسبة ..

تكتيك، يعني.

كانوا يتصوّرون أنّه لن يسقط سريعا، فلماذا يعادونه مبكّرا؟

"انتظروا، يا إخوان، فالعجلة من الشيطان، ولننتظر لنرى كفّة من سترجح؟"

تكتيك يعني..

* * *

ما كانوا هنا..

* * *

ثمّ انفلقوا علينا..

انفلقوا علينا مقرّا فاخرا ضخما في نفس الشارع الذي فيه ينتصب مركز الاستبداد المُزال أعني مقرّ حزب التجمّع المنحلّ..

وانفلقوا علينا مكاتب جهويّة ومحليّة في كلّ شارع وزقاق وقرية وكثيب..

وانفلقوا علينا جلابيب طويلة ولحى مسدلة وطواقي بيضاء..

افلقوا علينا من حيث لا نعرف..

انفلقوا علينا.. لا نعرفهم: من أين جاءوا إلينا؟؟

كان الثائرون قلّة..

 وكان غير الثائرين، اللاّمبالون، يعني، كانوا كثرة..

راودوا غير الثائرين وهم كثرة..

والتميمة بسيطة: نحن نخشى الله أمّا البقيّة فكافرون.

هذه كانت لعبتهم.. ومازالت: الإيمان والكفر..

هذا في الجهر طبعا..

أمّا في السرّ: فالسّلطة اليوم والهلال غدا..

نجحوا..

ربحونا..

فطلعوا علينا بمجلس سمّوه تأسيسيّا (سامحك الله يا حمّة الهمّامي؛ لماذا أشرت به على ثوّار القصبة؟) مجلسٍ مثير للشفقة، لعب صبيان وصبايا..

مجلسٍ قالوا، ليفكّر لنا..

يبني لنا حاضرنا ومستقبلنا..

مجلسٍ من تلك الرّؤوس الملفوفة أغلبها.. رؤوسٍ وجودها هناك.. مجلس هو الدراما في أجلّ صورها.. بل هو العبث التراجيديّ نفسه..

ماذا تفعل تلك الرؤوس هناك؟؟ هي رؤوس بريئة لا تعرف شيئا، استلّوها من دفء العاديّ.. وألقوا بها أمام الكاميرات. فماذا تفعل تلك الرّؤوس هناك؟؟

لا شيء.. ترفع اليد مع الأغلبيّة فقط..

هل رأيتم أو سمعتم بامرأة تصوّت ضدّ حقوقها؟

هل رأيتم امرأة منتخبة ترى نفسها غير مؤهّلة لمنصب رئيس الجمهوريّة؟

هل رأيتم امرأة منتخبة تصوّت ضدّ نفسها؟

هل رأيتم امرأة تدافع عن استبداد الذّكر وفاشيّته؟

ولكنّه منطق السمع والطاعة..

هلهبّا.. هلهبّا..

انخراط مَرَضيّ في سلوك الطاعة.. لا يصدّق..

لا طاعة للوطن.. ولا للشعب.. ولا لغير راشد وحمادي ومن يكشف عنهم التاريخ..

طاعة عمياء حتى عند العبيد قد لا تتوفّر..

يال سخرية الثورة؟؟

ثمّ حكمونا..

حكموا باسم الشرعيّة والأغلبيّة.. وللبقيّة إمّا أن يهلّلوا.. أن يطيعوا.. وإمّا فليصمتوا:

كفّار معطّلون لا ديمقراطيّون... وديوان المخازي جاهز.

هذا هو تكتيكهم: التكفير لليسار والفلول والأزلام للبقيّة، أمّا هم فطهر وبراءة وإيمان وصدق وإخلاص.. و.. و.. صندوق المدائح إن نضب ملؤوه.

نجحوا.. (النّاجح يرفع إيدوا .. هاي.. هاي)

وسلّطوا علينا لطفي وحبيب والصّادق إعلاميّا وأبا عياض ولا أدري من في الشارع.

بالمناسبة، كان الحماس الثوريّ يهزّني.. ودافعت عنهم.. وكنت مستعدّا للتعاون معهم.. فأنا لا أهتمّ بمن يحكم، سيكون ثوريّا، هكذا كنت أتصوّر برومانسيّة واهمة..

"وكانوا يعدّون الرّماح".

انخرطوا في سياسة العناد والتعمية (يغطّون عين الشمس بالغربال) سياسة مضحكة.. ليست ثوريّة ولن تكون..

إذا رفضوا أن يروا شيئا فلن يروه مهما كان واضحا حتى وإن رآه العالم المرئيّ واللامرئيّ..

تكتيك يعني..

سلّطوا علينا أذرعهم المتطرّفة تعمل فينا شريعتها السّوداء الدّامية.

ضربوا الجميع؛ الشاعر والصحفيّ والفنّان والمعارض المثقّف الذي ينظر بشكل مختلف وحتى الضيف المبجّل..

حبيبنا سمير القنطار: عفوا، نحن نقبّل جبينك أيّها العظيم ولكنّه سوء الزمان وأهله

افتكّوا منّا الدولة..

وأخرجونا منها..

وسلّطوا علينا أجهزتها..

الشرطة لا تحمينا منهم.. تغيب حين يجب أن تحضر (ههههههههه)

سوء تقدير، قالت الشرطة، الشرطة التونسيّة العتيّة تسيء التقدير؟؟ ولا يسوء تقديرها إلاّ في حمايتنا نحن من الميليشيا الملتحية الفالتة صاحبة السّطوة..

ولا يسوء تقديرها في منع المظاهرات وقمع العاطلين وإسكات المطالبين باللاكريموجان.. أنواع عندها متعدّدة الماركات..

على كلّ حال كلّ شيء واضح ومعروف ومكشوف.

قسّمونا قسمين على الهويّة فمالوا إلى قسمهم وإن كان متطرّفا وقسوا على قسمنا وإن كان مدنيّاً معتدلاً.

* * *

ولكنّهم.. ما كانوا هنا بيننا

* * *

تونس، يا حبيبتي، لماذا تفعلين بنا هذا؟

تونس، يا حبيبتي، لماذا يثور أبناؤك فتسلّطين عليهم حكّاما من دونهم؟؟

حكّام غير ثوريّين لشعب ثائر: هذه هي الأحجية.

يبحث المحلّلون بعيدا، لماذا؟

المسألة واضحة: حكّام تونس الجدد غير ثوريّين. لم يشاركوا في صناعة الثورة. بل إنّهم لا يؤمنون بنظريّة الثورة أصلا. وهم لا يحبّون اسمها ولا ذكرها. فهم لا يستطيعون الحديث عنها ولا الكتابة عنها. ولذلك أسرعوا يستجدون الليبراليّة لتطهّر البلد من رائحة الثورة حتى لا تغوي التونسيّين من جديد.

أفضلهم (الرّئيس المؤقّت) كان يرسل رسائل فايسبوكيّة من باريس إلى مريديه. وكان يتصوّر أنّ الثوّار يرابطون أمام حواسيبهم لالتقاطها.. ولكنّهم كانوا في الميدان ليلا نهارا. وكان الحكّام الجدد حينها يفركون أيديهم: لقد اقتربت ساعة الفوز بالحكم، الشعب التونسيّ يسقط النظام ونحن نستولي عليه. لقد كانت الرؤية واضحة لهم. الرؤية من الخارج المطلّة على كلّ شيء. في حين كنّا هنا لا نرى أبعد ممّا تتيحه لحظة الإفلات من الخوف.

* * *

كنّا هنا.. وما كانوا هنا..

* * *

يحكموننا، نعم

يلعبون اللعبة نفسها، نعم

يلبسون الدولة لباس الحزب، نعم

يقتسمون ثروتنا بينهم، نعم

ينثروننا بعيدا، نعم

يغوون النّاس بالأراجيف وبالدراهم، نعم

(في السنة الماضية نصبوا موائد الإفطار في كلّ مكان وحتى قبل رمضان بسبب الانتخابات، وخلال رمضان هذه السّنة ولا مائدة لإطعام الفقراء غير مائدة الهلال الأحمر التونسيّ. فهل يخشون الله، وهذا شعارهم الانتخابيّ، أم يعشقون السّلطة؟؟)

يتباهون، بغباء المخاليع الذين كانوا قبلهم، بكثرة المنتمين، نعم

يستحوذون على الدّولة، نعم

يطردون الكفاءات ويولّون الأتباع، نعم

أغنياء، نعم

مسنودون، نعم

يتاجرون في كلّ شيء، نعم

يبيعون الوهم، نعم

يقولون الشيء وضدّه، نعم

يستغبون الثائرين، نعم

شرعيّون، نعم

أغلبيّة، نعم

نعترف بهم، نعم

لكن..

لكنّنا لا نرى ثورتنا فيهم

لم يحقّقوا أهداف ثورتنا.. ولا يبدو أنّهم سيفعلون

أطفأوا لهب الثورة.. حوّلوه رمادا

حوّلوا الثورة إلى أغلبيّة وأقليّة

تكتيك يعني..

* * *

أنتم حكّام علينا.. ونحن معارضوكم

لم تكونوا هنا.. بيننا..

لم تكونوا، أبدا معنا أيّام الثورة والغضب

كنّا هنا وحدنا.. فأين كنتم مختبئين

لم تظهروا إلاّ بعد الهروب ووضوح المشهد

فطلعتم أغلبيّة مفزعة

فمن أين انفلقتم علينا؟

قطفتم الثمرة المشتهاة..

لا هنيئاً.. ولا مريئاً

* * *

ولكنّنا هنا.. هنا..

وسنظلّ هنا

عفوا، سأتفقّد الثائرين..

فقد ضجروا

 

* كاتب من تونس

mustapha.kalii@yahoo.fr