ضمن اهتمامها المنهجي الدؤوب بوثائق الذاكرة العقلية العربية، اقترحت الباحثة السورية على (الكلمة) هذا الملف المتميز عن بدايات نازك الملائكة اللامعة. وكشفت عبره عن محورية هذه البدايات في صياغة رؤى الشاعرة وبلورة اهتماماتها.

تقديم الملف: نازك الملائكة: ألق البدايات

أثير محمد على

"إن الشعر العربي يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف لن يبقي من الأساليب القديمة شيئاً، فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعاً، والألفاظ ستتسع حتى تشمل آفاقاً جديدة واسعة من قوة التعبير، والتجارب الشعرية ستتجه اتجاهاً سريعاً إلى داخل النفس"
         نازك الملائكة (من مقدمة "شظايا ورماد")

في أحد أعدادها نشرت مجلة "الأديب" صورة للشاعرة الشابة نازك الملائكة. من محياها تلوح سكينة رائقة ومن عينيها تفيض أبعاد مضمرة، أما ياقتها المزررة  بعناية عند أرومة العنق فتبوح بوضوح إرادة حاسم.
حتى آخر قصيدة في ديوانها "قرار الموجة" (1957) ستسكب "الآنسة نازك الملائكة" في كلماتها هواجس تلك السكينة، وستعقد تعابيرها الشعرية أواصر الصلة مع قلق ذاتها المضمرة لتغدو قصائدها ملمح من ملامح نفسها الإنسان/الأنثى، وستجادل في سبيل شعريتها بوضوح حاسم.
تمتد هذه المقالات التي تنشرها "الكلمة" من عام 1951 حتى عام 1955. بمعنى أنها تحاول أن تقدم مسحاً حياً لنقاشات وجدالات تلك السنوات المبكرة بعد أن أصدرت الشاعرة وعمرها لا يتجاوز ستاً وعشرين سنة ديوانها "شظايا ورماد" عام 1949 مبينة في مقدمته رؤيتها الشعرية التجديدية للقصيدة العربية.
تجمعت المقالات من ثلاث مجلات رئيسية وهي: "الكتاب" المصرية ومجلتي "الأديب" و"الآداب" اللبنانيتين. وتشمل تلكَ التي أرسلتها الشاعرة للنشر وفيها مارست دورها التنظيري والنقدي في مواضيع شتى لم تقتصر بحال من الأحوال على الشعر فقط كما سنرى، إضافة إلى التعليقات والردود المختلفة التي أرسلها الأدباء حينها على ما كتبته الشاعرة.
أخذت بعض الدوريات الثقافية كـ "الأديب" اللبنانية و"الثقافة" المصرية تنشر بكثافة قصائد الشعراء الشبان التي بدأت تنزاح عن قيود نظرية الشعر العربي التقليدي، فتحولت صفحات المجلات الثقافية إلى أولى منابر اتصال هؤلاء الشعراء الشبان مع قرائهم قبل أن تضم دفات الدواوين قصائدهم لاحقاً. إن فعل كتابة "الشعر الحر" هو موقف نقدي لحاضرٍ يواجه ماضيه بذائقة شعرية جديدة رافضاً الخضوع لتقاليد القصيدة العمودية وكاسراً طوق الاكتفاء الذاتي بالمورثات الفنية القديمة. هو فعل منفتح على المؤثرات الوافدة من الآداب الأجنبية العالمية ومناهجها الفلسفية والنقدية المتنوعة.
كما هو معلوم، إن الظرف التاريخي لحراك نظرية الشعر العربي وتحولها إلى دعوة تجعل من "الشعر الحر" أسلوباً تعبيرياً وهدفاً واعياً ومقصوداً، ترافق مع خروج أوربا من نيران الحرب العالمية الثانية ودخولها في حربها الباردة، إضافة إلى بداية بناء الدولة المستقلة والمجتمع لعدة بلدان عربية دون نسيان نكبة القضية العربية المحورية بإعلان دولة اسرائيل وتبعثر المخيمات الفلسطينية في الأرض والوجدان العربي. لذلك كله اتسمت عدة دوريات عربية بصبغة تقدمية جدالية، ولغة نقدية تنبه إلى حساسية الظرف المحفوف بالخطر.
ولم يكن مستغرباً أن يرتفع نداء "العروبة" في بعض المجلات لمجمل "الشعب" لتقاسم المسؤولية الوطنية والخروج من سكونية وسلبية النظرة لدور الفرد في العملية السياسية والاجتماعية، إضافة إلى دعوة المثقف إلى الاشتباك المباشر مع المجتمع وقضايا الناس وشيوع استخدام مصطلحي "الالتزام" "والرسالة" على نحو ملح.
لعل خير معبر عن سياق المرحلة التاريخي ما جاء في تقديم رئيس تحرير مجلة "الآداب" في عددها الأول، كانون الثاني 1953 تحت عنوان "رسالة الآداب":
"في هذا المنعطف الخطير من منعطفات التاريخ العربي، ينمو شعور أواسط الشباب العربي المثقف بالحاجة إلى مجلة أدبية تحمل رسالة واعية حقاً. وصدور "الآداب" منبثق عن وعي هذه الحاجة الحيوية... تؤمن المجلة بأنّ الأدب نشاط فكري يستهدف غاية عظيمة: هي غاية الأدب الفعال الذي يتصادى ويتعاطى مع المجتمع، إذ يؤثر فيه بقدر ما يتأثر به. والوضع الحالي للبلاد العربية يفرض على كل وطنيّ أن يجنّد جهوده للعمل، في ميدانه الخاص، من أجل تحرير البلاد ورفع مستواها السياسي والاجتماعي والفكري...وهدف المجلة الرئيسي أن تكون ميداناً لفئة أهل القلم الواعين الذين يعيشون تجربة عصرهم ... يشقون الطريق أمام المصلحين لمعالجة الأوضاع بجميع الوسائل المجدية. وعلى هذا فإن الأدب الذي تدعو إليه المجلة وتشجعه هو أدب "الالتزام"..والمجلة إذ تدعو إلى هذا الأدب الفعّال، تحمل رسالة قومية مثلى. فتلك الفئة الواعية من الأدباء الذين يستوحون أدبهم من مجتمعهم يستطيعون على الأيام أن يخلقوا جيلاً واعياً من القراء يتحسسون بدورهم واقع مجتمعهم ويكونون نواة الوطنيين الصالحين".
إنطلاقاً من هذا التوجه يمكن القول أن مجلة فكرية كـ "الآداب" مثلاً كانت بمثابة جمعية أو نادي ضم في صفوفه فئة المثقفين العرب سواء في هيئة التحرير أم من بين كتابها الممتدين من المحيط إلى الخليج العربي.
ولذلك لم يكن مستغرباً أن تضم قائمة "أهل القلم" لهيئة التحرير في تلك المرحلة المبكرة من عمر المجلة اسم الشابة الشاعرة نازك الملائكة إلى جانب أسماء مثقفين وأدباء من أمثال: أحمد سليمان الأحمد، رئيف الخوري، قسطنطين زريق، شكري الفيصل، فؤاد الشايب، أنور المعداوي، مارون عبود، وداد سكاكيني، عبد العزيز الدوري، عبد الحميد يونس، إلخ.
وانطلاقاً من هذا الهمّ الثقافي الوطني ستكتب شاعرتنا الشابة في "الآداب" وتحاضر في عدة مدن عربية حول الواقع العربي، تحلل أوجه التخلف وتدعو إلى معالجة كثير من الظواهر الاجتماعية والثقافية المتأخرة. ومن المقالات التي تنشرها "الكلمة" سنقرأ: "الشعر والمجتمع"، و"المرأة بين الطرفين: السلبية والأخلاق"، و"نحو مجتمع عربي أفضل، التجزيئية في المجتمع العربي".
في المقال الأول تمارس الشاعرة الشابة دورها النقدي وتبين رؤيتها لدور ووظيفة الشعر. وفي المقال الثاني تبرز الشاعرة/المرأة لتبسط قضية نساء مجتمعها ووضعهن المزري من الناحية الثقافية وفقدان الحقوق والحريات وحتى على مستوى التعامل اللغوي البطرياركي ودلالات الكلمات المؤنثة المجحفة بحقها. أما في المقالة الثالثة فتبدو الشاعرة/المواطنة وكأنها تعلن بياناً استشرافياً "نحو مجتمع عربي أفضل".
وفيما يبدو أن "الموت" و"القلق" المنتشران في أشعارها المبكرة، ليس إلا انعكاساً لذلك التناقض الصارخ الذي أحسته الشاعرة/ المرأة/ المواطنة بين جمال فن الشعر وبين قبح الواقع الراهن على أعتاب مرحلة تاريخية انتقالية. من جانب آخر ربما أمكن القول أن حركة تجديد الشعر العربي مع انتصاف القرن العشرين من قبل شعراء كنازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وفدوى طوقان وغيرهم تحمل في جانب من جوانبها مسحة حركة رومانتيكية صارعت ضد شعرية القصيدة العمودية التقليدية، وعملت على تجديد مساحات الاستخدام اللغوي وتطوير قوالب التعبير الشعري. مع هؤلاء الشعراء تبدو النظرية الشعرية حتى السنوات الأولى من الخمسينات كما لو أنها تهدف لتحقيق شيء من التوازن والاتساق مابين شعرية الشاعر وخبرته الانفعالية الذاتية من جهة وقوالب النظم التقليدية المعروفة والواقع الموضوعي من جهة أخرى.
لعل ذلك يبرر هاجس كيفية الاستخدام اللغوي والتفعيلات التي بحثت وأطالت فيه نازك الملائكة الشابة البحث، وكأنها بممارستها النقدية هذه تقول أن إمكانيات اللغة الشعرية وإعادت خلق موسيقا شعرية جديدة في مرحلتها تبدو أقوى من أن تخضع لنظم القصيدة العمودية وأكثر تعبيراً عن راهن يومها. ولن يحسم هذا الجدل والصراع ضد الأشكال التقليدية، وتجديد اللغة الشعرية، الذي كان قد بُدأ مع جماعة "الديوان" (عباس محمود العقاد وابراهيم المازني وعبد الرحمن شكري)، وأنصار مجلة "أبولو" (أحمد زكي أبو شادي، ابراهيم ناجي، علي محمود طه، أبو القاسم الشابي) في العقود الأولى من القرن المنصرم، إلا مع مجلة "شعر" وذلك بنشرها لخطوات شعرية حاسمة في تاريخ الأدب العربي، فـ "قصيدة النثر" بشكل من الأشكال هي تثوير لشعرية الشاعر وفرديته وآنية جمالية الخلق الفني على حساب أي معيار أو قالب جمالي مستقل ومتفق عليه مسبقاً.
في كل الأحوال"نازك الملائكة، ألق البدايات" هو محاولة من محاولات "الكلمة" لإحياء الذاكرة الأدبية لبواكير ظهور الشاعرة في الساحة الثقافية العربية، وتسليط الضوء على الجدالات التي أثارتها نازك الملائكة الشابة، والاقتراب من بعض الجوانب التي لم يتم تناولها ونعني هنا جانب الشاعرة/ المرأة/ المواطنة والتي أهملت تماماً من قبل الباحثين النقاد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مجلات المرحلة ميزت الكاتبة العازبة بلقب "الآنسة" واستثنت منه الرجل العازب. لعل المقصد هو الاحترام، إلا أنه الاحترام الذي يؤكد التميز الجنسي بدلاًً من أن يزيله.
أخيراًً لا بد من القول أن إنجاز هذا الملف تم بتوجيه مباشر من محرر "الكلمة" خلال مراحل البحث عن المقالات التي بدأت تتجمع تباعاً لتكون في متناول المهتم.