مابرح موضوع تأثير الشبكة العنكبونية والفضاء الافتراصي على البشر وواقعهم الاجتماعي، يثير نقاشا حاداً بين محب للتكنولوجيا الرقميّة، وبين متوجس منها. وتتزايد هذه المواقف حدة مع خلاصات البحوث حول تأثير الوسائل التكنولوجية على الحياة اليومية للناس، وعلى مستوى ذكائهم، وردود أفعالهم الاجتماعية.

عصر الإنسان الرقمي

جون فرانسوا دورتيي

ترجمة مصطفى قمية

 

يثير موضوع تأثير الشاشات على حياتنا نقاشا بين محبي التكنولوجيا، وبين الخائفين منها، وبين الذين يقفون منها موقفا وسطا. وتتزايد هذه المواقف حدة مع خلاصات البحوث التي تتمحور حول تأثير الوسائل التكنولوجية على الحياة اليومية للناس. يمكن أن نطلق على الجيل الحالي اسم "المواطنون الرقميون" أو "جيل الانترنيت"، أو "جيل التطبيقات" على حد تعبير هوارد كاردنرHoward Gardner(1). أما ميشيل سير Michel Serres فيطلق عليه اسم "الأصيبع الصغير"(2)، لأن أصابع هذا الجيل لا تفارق الهواتف الذكية. لقد ولد هذا الجيل وفي يده الهاتف واللوحات الإلكترونية، وأمام عينيه تنتصب الشاشات، وهو ما يمثل "نوعا" espèce في طور التحول. تحول يتحكم فيه "انتقاء اصطناعي"، سمته الارتباط والتداخل بين ما هو تكنولوجي وما هو إنساني.

لقد اكتسح الرقمي حياتنا في كل مجالاتها، إذ يستخدم في التواصل، والإستخبار، والتعليم، والترفيه، واللعب، والاستشارة، والشراء، والبيع. لكن كيف، يا ترى، يمكن قياس التأثير الإجمالي لهذا التحول على حياتنا؟

إن النقاش حول بروز الإنسان الرقمي قد اتضح جليا منذ عقدين من الزمن. ولا يضع هذا النقاش تعارضا، فقط، بين محبي التكنولوجيا )اعتبارها قفزة تحول جديدة بالنسبة للإنسانية(، والخائفين منها )الانكفاء الثقافي وطغيان التكنولوجيا(، وإنما أيضا بين المعتدلين )للتكنولوجيا ايجابيات بقدر ما لها سلبيات(، وبين المحايدين )التكنولوجيا في حد ذاتها ليست لا ايجابية ولا سلبية، ما يحدد هل هي ايجابية أم سلبية هو استخدامها(، دون إغفال اللاأدريون، الذين لا يدلون بحكمهم عليها.

هذه المواقف معروفة والنقاش حولها يزداد حدة. ويتمحور هذا النقاش حول بعض الرهانات الكبرى، التي يتبع بعضها بعضا، ومنها: هل تجعلنا الانترنيت بلداء؟ وهل تساهم الشاشات في تفسخ الروابط الاجتماعية؟ وهل يمكننا القول إن هناك إنسان رقمي جديد قد برز للوجود؟ إذا كان الجواب هو نعم، فما هي مواصفاته؟

هل يجعلنا الانترنت بلداء؟
إن أنبياء الثقافة الالكترونية، كميشيل سير، يعتبرونها بشكل عام قفزة معرفية جديدة بالنسبة للإنسانية، حيث تتيح انتشارا غير محدود للمعارف، كما أن لعبة الربط بين النصوص المتداخلة فيما بينها تدفع إلى الإبداع بخلق جسور بين المعارف المنتمية إلى ميادين مختلفة. بينما كانت المعرفة في السابق، على حد تعبير ميشيل سير، تتقسم على شكل طوائف. وتتيح اليوم قراءة علاقة التداخل بين النصوص إلى خلق جسور معرفية غير مسبوقة.

خلافا لهذه النظرة المتفائلة أثار الصحفي نكولا كار Nicolas Carr ضجة بدفاعه عن أطروحة أن الأنترنيت يمكن أن "تجعلنا أغبياء"(3). وقد استشهد على ذلك بعرض تجربته الخاصة، حيث تخلى عن قراءة الكتب في سبيل البحث المحموم عن المعلومات. يقول جار: "لم أعد أفكر بنفس الطريقة التي أفكر بها في السابق. فالاستغراق في كتاب ما أو في مقالة طويلة كان بالنسبة لي شيء سهل في السابق، لكن لم يعد الأمر كذلك الآن. إن تركيزي الآن سرعان ما يغيب بعد قراءة صفحتين أو ثلاث صفحات".

وإلى جانب التشتت الذهني يمكن أن نضيف الأشكال الجديدة للإدمان على الانترنيت. وإذا أضيف التشتت على الإدمان فيمكن أن يؤدى ذلك إلى ما يعرف بـ"اضطراب نقص الانتباه" المنتشر كثيرا في الوقت الراهن، على الأقل حسب التشخيص الذي وضعه سيدريك بياجيني Cédric Biagini صاحب كتاب "تأثير الرقمي: كيف احتلت الانترنيت والتكنولوجيات الحديثة حياتنا" )2012(.

وفي اعتقاد المعتدلين لا يجب النظر إلى التكنولوجيا لا من جانب مثالي ولا من جانب أنها خطر يجب التنبيه له. إن المسألة برمتها تتعلق بالتحكم الذاتي. فلمواجهة الإدمان يجب تعلم كيفية ايقاف الاتصال بالأنترنيت. ويوصي البعض بالدخول في سبات رقمي: قطع الاتصال بالانترنيت يوم الأحد، أو نصح الآباء بمراقبة الاستهلاك الرقمي عند أطفالهم. ونادرون هم أولئك الذين يدعون إلى الامتناع التام عن الاتصال بالأنترنيت: هل يمكن تمضية عدة أسابيع دون الولوج إلى الشبكة العنكبوتية؟ يعادل هذا الأمر اليوم قطع شخص ما للمحيط الأطلسي وحده!(4).

هل تجعلنا الشبكات الاجتماعية اجتماعيين أكثر؟
انطلق انتقاد الشاشات، في المرة الأولى، من التأكيد على خطر جعل الأفراد غير اجتماعيين، ووأد الحياة الجماعية، وسجن الأفراد في فقاعة افتراضية مفصولة عن الحياة الاجتماعية. لكن مع تكاثر عدد الشبكات الاجتماعية تغيرت طبيعة هذا الانتقاد. من الآن فصاعدا، سينظر إلى زخم الاتصالات السهلة والوهمية على أنها تهدد بقتل التواصل الحقيقي. هذه، في كل الحالات، هي الأطروحة التي دافعت عنها شيري تورك Sherry Turkle في كتابها "وحيدون جماعة"(5).

يناقش أنطونيو كاسيلي Anthonio Casilli في كتابه "الارتباطات الرقمية. نحو نزعة اجتماعية جديدة"(2010)، هذا النوع من التحليل الأحادي الجانب. إن الشبكات الاجتماعية، في نظره، لا تضر العلاقات الواقعية. إن السهولة والأصالة اللتان تتأسس عليهما الحياة الاجتماعية الواقعية )سواء تعلق الأمر بعلاقات غرامية، أو علاقات صداقة أو صحبة، أو علاقات مهنية( هما نفسهما اللتان تتأسس عليهما العلاقات الافتراضية.

عودة إلى النقاشات القديمة:

إن النقاش الحالي حول الانترنت هو استئناف، حرفي تقريبا، للنقاش الذي دار، بين الجيل السابق، حول موضوع التلفزة والراديو. لقد كان ينظر إلى التلفزة كشيء بوسعه أن يقتل الكتاب والسينما والصحافة والثقافة العالمة، وأن يغرس بذور العنف والبورنوغرافيا، وأن يقود إلى حكم الأقلية. على خلاف ذلك، كان مارشال ماكلوهان Marshal Macluhan يرى أن وسائل الاتصال الجماهيرية تتجه إلى توحيد العالم، وإلى جعله "قرية عالمية" أكثر تسامحا وتعاطفا وإبداعا.

ورغم مرور خمسين سنة من البحوث حول تأثير وسائل الاتصال الجماهيري لم يتم الحسم في نظرية نهائية حول الطريقة التي يتأثر بها السلوك الإنساني(6). إن بحوث "سوسيولوجيا التلقي" قد بينت أن الناس يستهلكون المواد التلفزيونية بكيفية أقل سلبية مما نعتقد، وأنهم يستطيعون تمييز الأشياء، وغربلة المعلومات التي تصلهم. إن حياة المشاهد لا تنحصر فقط في الساعات التي يقضيها أمام التلفاز )إذ يمكن أن يوجد طالب جامعي لامع ومحب، في الآن نفسه، للمسلسلات التلفزيونية(. إن الشاشة الصغيرة تستخدم لأغراض مختلفة كثيرا )ترفيه ومعلومات ونقاشات..( ويشاهدها جمهور يتسم هو الآخر بالاختلاف.

إن مقارنة التلفاز بالكتاب ما تزال جلية جدا. فقراءة الكتب لها استعمالات متعددة، كما أن لها جمهور وآثار مختلفة. وتتيح القراءة انتشار المعلومات والقيم )نماذج أبطال الروايات( والايديولوجيات الثورية )كان الكتاب، حسب روجر شارتيي Roger Chartie، أحد القوى الموجهة لروح عصر الأنوار والثورة الفرنسية(، والأديان )الإنجيل والقرآن من أديان الكتاب(.

ويعد الكتاب أيضا وسيلة للترفيه: الروايات العاطفية، وروايات الخوف، والمقالات السياسية اللاذعة. إن ازدهار الكتاب في الوقت الراهن يوازيه ازدهار للصحافة بشكل عام. فالمجلات والجرائد بكل أصنافها )من اليوميات الجادة إلى اليوميات الشعبية، ومن المجلات العلمية إلى مجلات المهتمة بشؤون الناس(، قد أغرقت العالم، منذ قرنين من الزمن، بالمعلومات والآراء واللعب والتسليات. ولا يمكن اختزال تأثير القراءة في شيء واحد بعينه، إذ قد تجعل البعض منفتحين، وتجعل البعض الآخر متعصبين )إن الكتب هي سلاح الطوائف بمختلف أطيافها(. والقراءة مثلما أنها تحفز على التركيز فهي تشتت الذهن )القراءة غير المستقرة، بطبيعتها، كقراءة الجرائد مثلا، لا تكون خطية، وتنتقل من عنوان إلى أخر، ومن مقدمة مقالة ما إلى صفحة أخرى(.

إن ازدهار القراءة يتزامن مع ازدهار الكتابة. إن الكتابة تستخدم في تعميم الرسائل، والدراسات، والمذكرات الحميمية.. إلخ. ومنذ عقد من الزمن، بات الرقمي يجمع، ودفعة واحدة، بين الكتاب والصحافة، والتلفزة والهاتف، والراديو والسينما واللعب الجماعية، والكتابة والقراءة. ويستخدم الرقمي في مجالات متعددة من قبيل الحصول على المعلومات، والتسلية، والشراء والبيع، واللعب والتعلم والتواصل. ولذلك، من الصعب حصر معالم هذا التحول الكبير الحاصل اليوم في خطاطة واحدة.

وإذا كان الجيل الجديد هو جيل متحول، فإنه يتبع إذن طرق كل تطور، من حيث إن كل تطور لا يتبع أبدا اتجاها واحدا ووحيدا.

(Sciences Humaines, Numéro spécial, N. 252, Octobre /Novembre 2013)

* * * *

الهوامش

1-Howard Gardner et Katie Davis, The App generation. How today’s youth navigate identity, intimacy, and imagination in a digital world, 2013.

2-Michelle Serres, Petite poucette, Le pommier; 2012.

3-Nicholas Carr, Internet rend-il bête? Réapprendre à lire et a penser dans un monde fragmenté, 2010. Trad. Fr. Marie-France Desjeux, Robert Laffont, 2011.

4-Thierry Crouzet, J’ai débranché. Comment revivre sans internet après une overdose, Fayard, 2012.

5-sherry Turkle, alone together. why we expect more from technology and less from each other, basic Books, 2012.

6-philippe Cabin et Jean-François Dortier (dir.), La communication . état des savoirs, éditions sciences Humaines, rééd, 2008.