يرى الناقد أن القاص المغربي أنيس الرافعي ينطلق من الواقعي لينتهي عند التجريدي في سيرورة القصة القصيرة. والتخييل عنده يبتعد عن الكتابة التقريرية نحو حربائية نصيّة مغايرة وعابرة للأجناس، تنهل من كل ما يدعم استقلالها الذاتي، وشعريتها الحكائيّة، من توظيف لتقنيات المونتاج السينمائي، والفورتوغراف.

قبائل من الدمى داخل غاليري متخيل

عزالـدين بـوركـة

إشعال النار في الغابة:
قشعريرة اعترتني وأنا ألج وجلا هذه (المصحة) العامرة بالدمى من مختلف القبائل والجنسيات والأنواع، فبأي طقوس جمالية كتبت، وبأية أنامل وضعت دعائمها، وبأي هندسة صممت أقسامها وأجنحتها؟ صاحب هذه (المصحة)، هو الكاتب المغربي أنيس الرافعي، من الحمراء المرابطية قادم ليُجاور الأزرق الأطلسي في هيجانه وسكونه. آتي هو للإبداع القصصي عبر إيقاع التجديد والاختلاف،لا ليُحاكي الغابة ويحكيها، وإنما ليشغل النار بين أوصالها، وليكتشف بداخلها مسارات ومسالك وطرقات غير مأهولة.

العمل مثل آلة لا تتعب:
فيما مضى، كانت الكتابة مسبغة بطابع ميثولوجي وسحري وميتافيزيقي. كان للشاعر ملهمة أو جنية أو إله أو ربة. وكان الكاهن الذي يضطلع بمهمة التدوين يشتغل وسط جو متخم بالممارسات الطقوسية وملفوف بالعوالم الغيبية والكواليس الإلغازية. كان فعل الكتابة نوعا من الطلاسم غير المتاحة للجميع. فهل يمكننا الحديث عن هذا الفعل في زمننا الراهن؟ وخاصة ما تعلق منه بالكتابة القصصية؟

إن الكتابة طقس له طقوس، ولا بد له من تحضير أولي. وفعل التحضير مستهل هذه الطقوس التي تتميز بالثبات، فمهما تغيرت الظروف لابد أن الكاتب يستعد لممارسة هذا الفعل ولو في أبسط الحيثيات اللصيقة به. فضلا عما يواكب هذه العملية من شطب وحذف وترقيش وتمزيق للمسودات. لتختتم الطقوس بتقطير عصارة التفكير وإنزال الفكرة في إطار لغوي وتجنيسي ملائم. وإن الكتابة القصصية الحديثة، اليوم، تشكل نوعا من القطيعة مع أنماط الكتابة القديمة أو يمكن القول إنها تمثل نقدا ﻟ(فنون القول القديمة)، لكنها بالمقابل لازالت محتفظة بهالتها وإجراءاتها الطقوسية، وإن بشكل مغاير.

إذن، للكتابة طقوس خاصة. نوع من الاستعداد لدخول المعبَد وأداء الصلاة. المعبد هنا، في حضرة قاصٍ وضّاء، أنيس الرافعي هو، الوالج بجسارة المعرفة إلى عوالم التخييل الشائكة، أما الصلاة فهي تلك العملية الراقية والنخبوية (اللاهوتية إن أمكن القول) للحكي. ولقاصنا أنيس الرافعي، طقوسه الخاصة في الكتابة. فالمقام يكون غالبا في المقهى، حيث القهوة السوداء في الفنجان وضجيج الحضور وصَخَب حكي الناس. في المقهى، حيث يعمل مثل آلة لا تتعب وهو يخيط حروفه كلمات، والكلمات جملا، والجمل قصصا. يعتمد أنيس في كتابته القصصية على تلك الممزقات (المِزَق) من الورق، والبقايا، تلك الشرذمات اليتيمة الحائلة، ليُنزل عليها ما تخيّله، وكأني به عند الانتهاء من تحبيرها، والبدءِ في إعادة نقلها إلى الحاسوب، يذهب بها حيث يلممها بين أطواء كتب قصصية، أو بالأحرى في (مصحة) على شاكلة مجموعته الأخيرة. ترى هل مس االحروف والكلمات والجمل عطب ما اقتضى أن تحتاج الدخول على عجل إلى اقرب (مصحة)؟

لا، إنها ليست (مصحة) بالمعنى الطبي الخالص للكلمة، بل هي عبارة عن (فوتوغرام-حكائي)، يتشكل من قسمين، هما: (قسم الإرشادات) و(قسم الأشعة)، وكذا من (فوتومونتاج سردي) قوامه (نسيجة)، تبين الأساس النظري الذي حكم المؤلف في هندسة معمار الكتاب، و(مدونة للدمى) هي بمثابة أنطولوجيا وجيزة أو بحث مصغر في العالم الغامض والسحري للدمى في مختلف المرجعيات والثقافات. أما (حكايات الفوتوغرام) فقد توزعت على سبعة أجنحة هي: (جناح الغصص، جناح الأورام، جناح الهلاوس، جناح العاهات، جناح الشظايا، جناح الفصام، وجناح العدم). وتم تذييل الكتاب بسجل تعريفي للصور الفوتوغرافية المصاحبة لبعض من كبار صانعي الصور الشمسية الآلية ممن اشتغلوا على موضوعة الدمية.

يحضر في المجموعة القصصية شتيت من الحواشي والهوامش والإشارات، ينير المتخيّل القصصي لأنيس الرافعي، ويفتح منافذ عدة على ورشه الإبداعي الزاخر، ويدعو القارئ بشكل غير مباشر إلى ربط اللاحق بالسابق، أي إعادة قراءة وتأمل نصوصه القصصية السابقة (المُخلص لها أسلوباً، لكن الهادم لها في كل مرة لغة وتخييلا ومعمارا).

حكم ذاتي غير خاضع لسلطة التجربة:
لا يستطيع القارئ أن يتدبّر كتابة الرافعي خارج مدارها الجماليّ المتعلق بالفتوحات التجريبيّة والقصة الجديدة. فهو ينطلق في حكيّه القصصي من الواقعي لينتهي عند التجريدي، في مسار من التجريب داخل عوالم القصة القصيرة المغربية والعربية: وهذا بادي المعالم والوضوح منذ مجامعيه القصصية الثلاث الأولى، الموسومة ﺒ: (أشياء تمر دون أن تحدث فعلا، والسيد ريباخا، والبرشمان)، وأيضا في ما تلاها من أعمال: (ثقل الفراشة فوق سطح الجرس واعتقال الغابة في زجاجة)، وكذا في مجموعته البهية الحمراء كأسوار مراكش حيث تدور حكاياتها، (أريج البستان في تصاريف العميان)، فضلا عن مجموعته (الشركة المغربية لنقل الأموات)، التي اعتمدت شكلا قصصيا وبنية كتابية ناذرة الحدوث في شكل الكتابة المغربية، وذلك النقل المعلوماتي المصبوغ بألوان الجذب الكناوي قبل الولوج لأي قصة، هو بصمة خاصة بالقاص، عتبات خاصة بعيدة عن الإتيان بعتبات من كتاب آخرين. وهو النهج الذي تواصل بشكل جلي، على الأخص في مجموعته الأخيرة (مصحة الدمى)، موضوع هذه الورقة.

إن الحديث عن التخييل عند أنيس الرافعي في شتى منجزه، هو حديث يقود توا إلى جماليات الابتعاد عن الكتابة التقريرية، المتناسلة في بيت الأسلوبية الواحدة، التي تنتهِجُها أقلام كثيرة، غير قادرة على الابتعاد عن المدارس الأفقية التي كرست لنفسها تلك الأفاق عُنْوةً. أنيس الرافعي يأتي من جهة أخرى وغير متوقعة للحكي والأسلوبية فيه، ولو أنه ينطلق من منصة الواقع دائما، لينفرد ويتفرد داخل لونه الخاص، لون قابل للتغيّر والتطور والتحول الحربائي مع كل نص جديد. المجموعة القصصية عنده هي قصة واحدة مطولة تندرج داخل تيمة محددة في تجربة يشتغل عليها. أما القصص فهي أجزاء مستقلة ذات حكم ذاتي غير خاضعة لسلطة التجربة.

النص المفارق تقنيا:
أي نعم الكتابة القصصية هي كتابة الواقع. بشكل أو بآخر. غير أننا وإن أخذنا هذا القول محمل المُطلق. لن نستطيع بالبتة الخروج من أقفاص النسقية الواحدة، والأسلوب الواحد. لهذا كان لزاما البحث عن التجديد في القصة، وهذا التجديد لن يُتاح لنا إلا عبر التجريب الدائم داخل أكوان هذا الجنس. ولأنيس صولات وجولات في هذا المضمار.

إنه إلى جانب أسماء أخرى من بشروا بجيل كامل من أسماء جديدة، نحت صوب التجريب في مضمار القصة القصيرة، جيل تحوزهم الإبداعية، والتطورية التي يعرفها هذا الجنس في العالم الغربي. " متجاوزين بذلك الماضي القصصي العربي. راسمين بذلك خصوصياتها الفنية والجمالية المتشظية والمتفجِّرة على مستوى المعنى والمبنى، وأثبتت تجارب هذه المرجعية أن القصة القصيرة المغربية فن، من خلال اهتمامها الواضح بالأداء الفني للقصة القصيرة، فجعلت من اللغة ورشة نشيطة لصقل اللغة، والحفر في مكوناتها الدلالية انطلاقا من الحرف ثم الكلمة فالجملة، ومن ثم خرجت اللغة من المختبر اللغوي إلى فضاء يحقق فيه النص توافقه مع ذاته في تجانس تام مع إمكانية تحقق النص بوجود متلقي يعمل على تخمين معاني النص بشكل فردي، يجعل عملية التفسير فردية غير متكررة، الشيء الذي يجعل تفسير نص ما محاطا بالتفسير المنفرد، بينما كانت القصة التقليدية تكتب المعاني الملقاة على الطريق انطلاقا من معيارية النموذج المكرس، وقد أكد التجريب القصصي أنه من الممكن كتابة اللاّمعنى غير المرتبط بالأحداث والشخصيات".

أنيس الرافعي واحد من هذه الأسماء المغردة في ساحة التجديد القصصي، غير أنه مغرد عبر نغمات مُستقلة ومنفردة. مُكْسِباً اللغة الدارجة، عبر تفصيحها (من الفصاحة) سياقات فوق-محلية، كما كتب ذات نص نقدي الناقد عبد النور إدريس، ويضيف " ففي مجموعاته القصصية السالفة [كما الحديث يسقط على مصحة الدمى]، لم يعد للبطل أو للحدث من معنى، تكلمت اللغة واجتاحت الحكي بكامله، فتم الرهان على اللغة وإمكاناتها التدليلية وانشحانها بالتعدد في السياقات، معبّرة عن الأكليشيهات الإبداعية التي تربط اللحظة الإبداعية باللغة، وهي نصوص مُتْرعة بحمى التجريب القصصي على مستوى التقنيات السردية، وهي إذ تسعى ضمنيا إلى تدمير البناء القصصي التقليدي، تحاول أن تدمر في نفس الوقت ذلك التآلف الحاصل بين المتلقي وهذا النمط من الحكي، وتعمل على فتح آفاق سردية مغايرة لإنتاج نص مفارق تقنيا تكون فيه ذات القاص محورا للمعاني وموضع تشريح. إن الجملة السردية عند أنيس الرافعي امتداد لنفسيته المتشظية ما بين الواقع كما يعاش على المستوى الوجودي، والمتخيل كما يوحي بذلك ذَوبان لغة القاص في ذاته، وهو ما يمكن تسميته ﺒ(شعرية الموقف اللغوي) الذي يؤسس له القاص مرجعا ينطلق ويعود إليه، حيث نجد أن عماء المعنى يتجاوز داخل النص إلى خارجه بسبب لجوء القاص إلى عدة تركيبات لغوية تضع أمامها كل إمكانيات اللغة على المجاز والاستعارة والشعرية الطوباوية، حيث يجعل القاص عالمه ضمن قابليته القصوى لاحتلال دلالات مغايرة وعميقة في تجانسها الداخلي."

طبائع الصور:
ما يجعل من الحكي عند أنيس الرافعي متفردا، كما قلنا سالفاً، هو تلك النفسية المتبدلة والمفارقة في الكتابة والسرد. فهو ينهج أسلوبا مخاتلا يشارف تخوم الرواية، بيد أنها ليست برواية. فالتصوير السردي عنده ينهض على استدماج التقنيات السينمائية في الكتابة القصصية. "فالسينما كتابة بالصورة لأنها تراعي المكونات المرئية داخل خطابها.. القصة المغربية [عامةً] غارقة في الصور البلاغية المنسجمة وفق المنطق البلاغي القائم على الاستعارات والمَجازات التشبيهات وغيرها، وهذا أمر يختلف عن الكتابة بالصورة: أن تكتب بالصورة، معناه أن تضع متوالية من الأحداث يمكن للقارئ أن يتصورها في ذهنه كشريط من الصور، الشيء الذي يمكن أن يغنيه عن الكلمات ويرقى به إلى عوالم تجريدية خالصة؛ أما الجانب الآخر فيتمثل في استدخال تقنيات السينما كتوظيف أنواع المونتاج والتركيب والإنارة والتقطيع التقني وغيرها، وهذه مسألة لا تخل بالقصة كجنس مستقل، بل تغنيه".

بلاغرو، القصة جنس مستقل بذاته، غير أن حديثنا هنا ذا وجهين، الأول هو ما يحوزنا لتطوير القصة القصيرة العربية، والمغربية منها خاصةً، مستعينة بما وصلت له باقي الأجناس الأخرى ذات صلة بالحكي والسرد والتصوير المخيالي. والثاني هو ما نلاحظه كامل الملاحظة عند أنيس الرافعي، داخل مُنجزه الأخير. فكون الشرعية القصصية يصنعها القاص ولا تصنعها القصة وحدها، ومن تلقاء ذاتها. فالقاص هنا يصنع لنفسه شرعية الحكي والقص عبر كاميرا تصوير سينمائية عالية الدقة والجودة. مازجاً بين الصور الفوتوغرافية والحكي، والفوتوغرام: تلك الصور، حسب المجال التطبيقي، هي صور من طبائع مختلفة، أما في المجال السينيماتوغرافي فهي أصغر وحدة ملاحظة بالعين. أي صورة على أربعة وعشرين صورة في الشريط. وهذا يُستعمل في تقنيات المونتاج لاستجذاب انتباه المشاهد. عبر صور وامضة سريعة. هذا واضح داخل الإخراج الفني للكتاب، عبر توظيف صور فوتوغرامية/ وفوتوغرافية فنية للدمى، لفنانين عالميين نذكر منهم (ليو جيا، هانز بلمير، إيكو هوشوي... إلخ). كما تم استخدام صور لأشياء ذات صلة بمحتوى القصة، توقف نظر القارئ عندها، في لمحة لاختزان ما صوّره الكاتب قٌبيْلها. (مظلة، ساعة، نظارات، حنش، نملة.. إلخ). هذا التوظيف المستمد من فنون (الكوميكس) و(المانغا)، بالإضافة لمهارة الحكي الراتقة لكل هذا الفيض من الصور، واختزال الأحداث بلغة بالغة التشخيص، يجعل نكرر عن ظهر قلب ما سبق قوله، إن الحكي عنده سينما.. وسينما (شعرية) تحديدا.

القراءة على صفحات المرايا:
إن كانت السينما تنحو بخطى سريعة ودقيقة نحو السينما التفاعلية، بمعنى التجديد في التقنيات المؤثرة على المتلقي/ المشاهد، عبر دمجه بالمشهد، ليصير متفاعلا داخله. فالنص الأدبي وعلى الرغم من محاولاته المضنية في هذا الاتجاه، فهو بطيء جدا بالمقارنة بما وصلت له السينما. غير أن هذا لا يمنعنا من الاقتراح والتخيل والتطلع لنص قصصي تفاعلي أكثر مما نحن عليه الآن، نص يقرأه القارئ أكثر من مرة، ويندمج معه كل مرة في شكل آخر غير الشكل السابق. أنيس الرافعي كان له ذلك التخيل وباذخ الاقتراح في أخر رواق من (المصحة) في ذلك (الغاليري المتخيل) الذي خصصه لتعريف مقتنيات مصحته من صور فوتوغرافية، والمعنون ﺒ(سجّل الصور). نقرأ في الصفحة 143 من المجموعة القصصية: (بل، قد يذهب الطموح الإبداعي إلى أبعد من هذا، لتحقيق فكرة طالما راودتني في كتب قصصية سابقة، لكنها على ما يبدو غير قابلة للتطبيق، إما لغرابتها أو لانعدام الوسائل التقنية الكفيلة بانجازها، وهي أن تُقرأ حكايات الفوتوغرام والصور الفوتوغرافية من لدن القارئ المحترم داخل مرآة. بمعنى أن توضع الصور الفوتوغرافية مقابل طباعة كاليغرافية مقلوبة، على أساس أن يكون الغلاف الرابع للكتاب مزودا بجيب يحتوي على مرآة صغيرة. وعلى هذا النحو، سوف يتمّ التلقي عن طريق عكس الكلمات والحروف على صفحة المرآة لتتحقق القراءة الصحيحة).

 

(كاتب وناقد من المغرب)