يرى الناقد المصري أن هذه المجموعة احتفظت للقصة القصيرة بأهم خصائصها المتعارف عليها، من الحركة، واللقطة أو الموقف، ومحدودية الشخوص والذي بدوره يساهم في التكثيف في الكلمات والمساحة الكتابية، منطلقة إلي اللانهاية في الفضاء القصصي. وقد أسهم استخدام تقنية الحلم في الانطلاق دون حواجز الزمان أو المكان، لتمنحه حرية في الصعود والهبوط والتجوال، الصحو والمنام، ومحادثة الغائبين والحاضرين.

سيد الوكيل يَعُبُر للطرف الآخر في «لمح البصر»

شوقي عبدالحميد يحيى

وسط ضوضاء ما يسمي بالـ (ق. ق. ج.) أو القصة القصيرة جدًا، الخالية من القصة، بزعم أنها لون أدبي جديد، يثبت سيد الوكيل أن علي من يريد خلق نوع أدبي، أو يطور نوعًا أدبيًا، بحجة مناسبة ومسايرة العصر، عليه أن يفعل ذلك من داخله، لا أن يهبط عليه من الخارج، فيما يشبه الاختطاف، أو السطو. فينحت لنفسه منهجًا، مسايرًا ما درج عليه في كل عمل إبداعي قدمه، من التجريب والتطوير، حتي أمكن أن نطلق عليه المبدع المطور، بفتح الطاء، وبكسرها. فيقدم تجربة ثرية جديدة في مجموعته "لمح البصر" التي تثبت أن مجال التطوير والمسايرة، لن يتوقف، إذا ما توافرت الموهبة الحقيقية، والرغبة في عدم الركون للسائد والقائم. معتمدًا علي تقنية الحلم، وإن لم يغفل رد الفضل لأصحابه، معترفا بأن الرؤية جاءته من خلال "أحلام فترة النقاهة" لأستاذه وأستاذ الأجيال في السرد العربي – الرواية خاصة -  نجيب محفوظ، فقدم المجموعة متصدرة بإهدائه إليه، مستخدمًا –حتي– في هذا الإهداء بذات التقنية المعتمدة علي الحلم. حيث نقرأ:

( إلى نجيب محفوظ

سارد الأحلام العظيم

الذي جاءني في المنام

وأعطيته حجرًاً، فقبله).

 حيث تدخلنا الكلمة الأخيرة في الإهداء، في باب الحيرة، فلم يشأ  الكاتب أن يشكلها لتقبل القراءة بفتح القاف وكسر الباء لتكون من (القبول). أو أن تكون بفتح القاف وتشديد الباء، لتكون من التقبيل، وكلا القراءتين يمكن أن تعطي صورة الحلم، الذي قد يكون من التعنت في الكثير من حالاته، محاولة البحث عن معني محدد. ويتركنا الكاتب نتخبط في كلا القراءتين، إلي نهاية المجموعة، وفي القصة الأخيرة، المانحة اسمها للمجموعة "لمح البصر" يمنحنا الطريق حين نجد صاحبنا قد دخل علي نجيب محفوظ: ( فإذا بوجه نجيب محفوظ مبتسمًاً، فلم أدر ماذا أفعل، غير أني ناولته الحجر الذي طرقتُ به الباب، فأخذه مني، ووضعه في خُرْج بجواره، وعاد ينكَبُ على كتابه) فنعرف أنه أخذ الحجر، ذلك الحجر الذي استخدمه في الطرق علي الأبواب الصاخبة، ولنعلم أنه نجيب محفوظ قد جمع الكثير من هذه الحجرات، التي استخدمت للطرق، والتنبيه من الصخب، وأن لا جدوي من الآذان في مالطة. ليؤيد ذلك الرؤية الثالثة في مجموع رؤي المجموعة والتي نتعرف عليها لاحقًا.

ونستطيع القول بأن المجموعة احتفظت للقصة القصيرة بأهم خصائصها المتعارف عليها، من الحركة، واللقطة أو الموقف، ومحدودية الشخوص والذي بدوره يساهم في التكثيف في الكلمات والمساحة الكتابية، منطلقة إلي اللانهاية في الفضاء القصصي.

وقد أسهم استخدام تقنية الحلم في الانطلاق دون حواجز الزمان أو المكان، لتمنحه حرية في الصعود والهبوط والتجوال، الصحو والمنام، ومحادثة الغائبين والحاضرين، دون أن يخل ذلك بالمنطق المعروف للحلم الذي لايخضع لمنطق البشر. فعلي الرغم من كل ما كتب عن الأحلام، فإن منطقا محددا، أو قاعدة محددة له، لم يصل إليها العلم بعد، مدي ارتباطه بالواقع المعاش، أو خضوع الشخص لمؤثر خارجي لحظة الحلم، ارتباط الذاكرة والشعور باللاشعور، كيفية رؤية أناس وعوالم بعيدة أو لم يرها الشخص من قبل، أو رؤية الأموات وبلاد لم يزرها، كلها كانت مجالات للبحث عن كنه الحلم، ودوره في حياة البشر. غير أنها ظلت، كسائر العلوم الإنسانية، ليس لها من قاعدة أو قانون مانع قاطع. إلا أن علاقة ما يظل معها الحالم علي صلة بالواقع المعاش، أو متماسًا معه.

فالمجموعة تبدأ بقصة "حبر علي ورق" وكأنها تبدأ معنا من البداية، من بداية تعرف الإنسان علي أعضائه، وبداية التكون والتشكيل، وبداية مرحلة الحلم. حيث يرد الحلم في صورته المألوفة، وتفسير "فرويد" الشائع، والذي يرجع أحلامنا كلها إلي الدوافع الجنسية. فنري الحالم يعبر عن رغبته تلك، بالرغبة الطفولية في شراء الحبر، وللحبر والقلم، مدلولاتهما الرمزية في عالم "فرويد"، الجنسية بالطبع. وكما الطفل، لا يبدأ أحلامه بالصغيرة مثله، وإنما دائما يحلم بمن تكبره، وغالبا ما تكون صديقة الأم – مثلما في هذه القصة- حيث تحمله –غالبا- فيلامس أماكن الإثارة، فتتفتح حواسه عليها، وتبيت في المخيلة، حتي تتحقق في الحلم. ولايفوت "سيد الوكيل" أن يقدم لنا المفاتيح التي تفتح لنا مغاليق رؤيته وراء القصة، ووراء الحلم في ذات الوقت، فنقرأ{لا أعرف متى كبرتْ وطلع لها نهدان جميلان، حتى أنهما غمراني برغبة وشبق}. وبعدها يخضع لشروط القصة القصيرة في التكثيف، والاعتماد علي دلالة اللفظ. فيُتبِع الجملة السابقة، والتي تمثل التمهيد للفعل بجملة تعتمد علي ما ترسخ في الوعي العام، من تمام العملية فنقرأ {فأخذتني من يدي إلى المخزن}. تلك الفعلة التي رسختها رواية وفيلم وتمثيلية "عمارة يعقوبيان".  

وإذا ما تأملنا ثاني قصص المجموعة "مكان ضيق" فسنجد الحلم بكل تجلياته، حيث الحالم لا يستطيع تحديد ما إذا كان في حلم أم أن ما يدور هو الواقع.. هو الموجود الآن { كأني رأيتُ هذا المشهد من قبل، لا اختلاف تقريباً. نفس الشارع المظلم، الأسفلت اللامع في ماء المطر..

هل أمطرت؟ متى أمطرت؟}

فاللايقين هو ما يسود المشهد. ثم تداخل الأشياء المنطقية في اللامنطقية، ولا تبرير لما يحدث. فهنا عالم له منطقه الخاص، والذي لم نعرفه بعد. فأن تري رأسًا مهشمًا لرجل لا تعرفه. وتضطر لحمله، ربما لا تستطيع ذلك في الصحو، لكنك في المنام قد تحمله بكل يسر، ودون تقزز أو معاناة. ثم تجد رؤوسًا كثيرة مهشمة، ثم تجبرك مجهولة علي حمل الرؤوس. تري من تكون؟ ما علاقة الحالم بها، ما علاقتها بتلك الرؤوس المهشمة؟ أسئلة لا تستطيع الإجابة عليها، ورمز لأشياء لا تستطيع حلها، هل يأتي ذلك من مخزون الذاكرة؟ هل بالواقع المعاش ما قد يقود للفهم؟ لكن ذلك قد لا يرتبط بشئ، فهو يحدث الآن:

{ لاشيء يأتي من الذاكرة، لا ذاكرة الآن..

كل شيء حاضر كما رأيته من قبل.

 هل رأيته من قبل؟ أين رأيته من قبل؟

 إنه يحدث الآن}.

السؤال الذي قد يتبادر للذهن، والمقرون بكل عمل إبداعي، ماذا يعني الكاتب من وراء ذلك؟ أو ما هو المقصود من هذه الكتابة؟.

وتأتي الإجابة من التأكيد علي أن المبدع لا يمكن أن ينفصل عن بيئته، عن عالمه. فماذا يدور في العالم الآن من حولنا؟ في العالم الأصغر أو في العالم الأوسع.

إذا ما تأملنا أعمال سيد الوكيل السابقة، خاصة مجموعته "مثل واحد آخر" فسنلحظ أن رائحة الموت كانت قد بدأت تتصاعد فيها، وبعدها في "الحالة دايت" سنجد أن رائحة الموت كانت قد تصاعدت أكثر، وتكاثفت. وإذا ما علمنا أن سيد الوكيل حين كتابة الحالة دايت، كان يزحف نحو الستين، وأنه الآن قد عبرها، والمعروف عن تلك السن أنها سن التقاعد، أو العمر الذي يتساءل المرء فيه .. ثم ...ماذا بعد؟ حيث المجهول، وصورة الموت  تبدأ في الوضوح، وربما التشخيص أما الرؤيا، وأمام الرؤية (وهو ما عبر عنه بإبداع في قصة "اللعبة" -كما سنري بعد، أي أنها العمر الذي يقف الإنسان أمامه برهبة وتوجس، وعدم يقين. أي أنها الفترة التي يتأهب المرء فيها للدخول إلي المجهول. فلابد أن ينعكس ذلك علي إبداع المبدع. ولنا في من تم إهداء للمجموعة إليه أسوة ومرشد، فلننظر متي كتب نجيب محفوظ "أحلام فترة النقاهة" والتي كانت هي الدافع، أو المحرض لسيد الوكيل في هذه التجربة الثرية. ويكفي أن نقرأ عناوين بعض القصص في المجموعة "حافة الموت"، "موت أخير للكتابة"، "قلق الأربعين"، "غرفة العناية الإلهية"، "ساعة العمر"، "خالص العزاء"، "ممر الجنازات"، "مراسم الحداد"،  "يوم الكشف"،  "ليلة الملائكة". وغيرها مما يوحي بالجو العام للمجموعة.

ثم نلاحظ كثرة استخدام المقابر في القصص { شواهد قبور بلا عدد } "اللعبة" و { وشواهد قبورعلى الجانبين} "مكان ضيق"، { جاءوا من قراهم وبلدانهم ومقابرهم} "المؤامرة".

 وكذلك ورد لفظ، وسيرة الجثث أيضا كثيرًا { رأيتُ محفةً، فوقها جثة مغطاة بملاءة بيضاء}"، {محفات كثيرة لجثث مغطاة} "حافة الموت" ، { وحولنا عشرات من جثث لعبيد ملفوفة في أكفان بيضاء} "تايتنيك" و { ثم قام وأنزل الجثة} "موت أخير للكتابة".

 وأيضًا في العديد منها صورة السارد عاريًا تمامًا، الأمر الذي يشير إلي حالتي البداية والنهاية في عمر الإنسان، إذ يبدأ الدنيا وينهيها عاريًا تمامًا – ويتضح ذلك في قصة "مؤامرة":

{ ربما هذا شاطيء الإسكندرية، وأنا عارِ تمامًاً} "ترام آخر الليل"، و { كانوا يجلسون القرفصاء بأجساد عارية} "البرزخ"، { وجدتني عاريًاً تمامًاً}و{ها أنا أمضي عاريًاً وسط الشارع} "مؤامرة". 

ثم ومصر تعيش فترة ضبابية، المشهد الوحيد بها هو الدماء المسالة علي أرصفة الشوارع، والرؤوس المهشمة لإناس ربما ليس لهم علاقة بما يحدث. من يقتل من؟ ولماذا يقتل من يقتل؟ ومتي ينتهي هذا لقتل وهذا الاقتتال؟ كلها أسئلة بلا إجابات. إنه عالم كابوسي، ليس له تفسير واضح، وربما ليس له تفسير علي الإطلاق. وما الإبداع إلا إنعكاس و رؤية ذاتية داخلية لما يحدث في خارجها؟.

وقد يكون من المفيد، أو مما يؤكد رؤيتنا تلك، أن نقفز مباشرة إلي قصة "خازن النار" والتي تشخص حال الثورة المصرية، وحال الثوار الذين امتهنوا حرفة الثورة، غير مبالين بما يتساقط من جثث، وغير مبالين بصوت العقل والحكمة. حيث صاحبنا علي محطة القطار، قطار الوطن، بينما الثوار يتدافعون علي القطار من كل جانب، بينما صاحبنا يصرخ بالعقل وإعمال الميثاق، ولا من مستمع:{ تدافع الثوار من كل الشوارع، حتى وصلوا إلى محطة القطار حيث أقف، ويقف معى بعض العجائز والقرويين، كانوا يصرخون خشية أن تدهسهم أقدام الثوار الهائجة. وكنت أصرخ فيهم ليهدأوا، وأقرأ عليهم ميثاق الثورة علهم يسمعون، لكن صوتي يضيع في صراخ العجائز والقرويين، وهدير الثوار معا}. ويصر صاحبنا أن يبحث لنفسه عن مكان في القطار، فلا يجد إلا بجانب السائق، ذلك الذي تبين أنه{ فأدركت أنه أصم وربما أعمى}. ليشير سيد الوكيل إلي "مبارك" الذي لم يستمع لصوت الثوار ولا لصوت رجال الأمن، خاصة أن صاحبنا اكتشف أن القطار لا يسير إلا بتغذيته بالجثث، في إشارة إلي تصور مزدوج بين طرفي المعادلة، الرئاسة الصماء البكماء التي تري أنه لا بد من ضحايا حتي يسير القطار، وتستمر مسيرته، وتصور الثوار المتناسين للجثث التي تتساقط، دون أن يهتموا بالأمن الزاحف بهراواته، في قناعة بأن لكل ثورة ضحايا وجثث.

الغريب أن القطار سار بعد إلتهام العديد من الجثث، غير أن طريقًا واضحًا، ليس يبين، وثمة مجهول ينساق إليه القطار:{ سألت الكهل: ما المحطة القادمة؟  لم يرد، فأدركت أنه أصم وربما أعمى. وألا مفر من أن أساعده في إزكاء النار بالجثث، حتى اتبين بنفسي، ما المحطة القادمة}.

ولا أعتقد أن تعبيرًا عن اللحظة الثورية، بين مؤيد ومعارض، شباب وشيوخ،  ثوار وحاكم، جثث تتناثر، وضباب يغيب الرؤية الواضحة، يمكن أن يعبر عنها في "قصة قصيرة" مثلما فعلت هذه القصة.

وليؤكد لنا سيد الوكيل أنه رغم كابوسية الحلم، ولا منطقيته، فإنه غير منقطع الصلة بما يحدث علي أرض الواقع.

ثم ينظر بعين الإنسان المتعقل المتأمل، للذين امتهنوا الثورة، في بداية الطريق وحتي نهايته. فنري الحشود، في "شغف الطريق"، عند بداية نفق الأزهر وقد علت أصواتهم التي راح صداها يتردد في كل مكان. وفي نهاية النفق كانت أصواتهم لا تزال تهدر {فتعجبت، كيف تركناهم هناك، وكيف نجدهم هنا؟}. وكانت السيارة تتحرك ببطء شديد، وللسيارة هنا لها وجودها الرمزي، وكأن الحياة أو الأمور تسير ببطء شديد. و{ لكننى رأيت جماعة ينزلون من فوق جبل الدراسة ويلوحون بعصي غليظة}. فبدأت الأمور في الدخول لمتاهات العنف، والعنف المضاد، فيستقر في يقينه خطأ الطريق { فأدركت أنه كان علينا أن نتخذ طريقاً آخر لبيت الله} فقد ضلت الثورة طريقها.

وفي قصة "خالص العزاء" يثبت الكاتب تمكنه من القصة القصيرة. وفي لمح البصر -أيضا- وهو زمن الحلم، يجسد لنا مصر ما قبل الثورة. فكال مدعو في عزاء زوجة وزير الداخلية، وفي العزاء، علي كل معزِ كتابة رغبته في السورة التي يود سماعها من المقرئ، إلا أن خادم الصوان، يأخذ ورقة صاحبنا دون أن يكتب فيها شيئًا، لتنضم إلي غيرها وتتكدس أمام المقرئ، ولما يعلو صوت صاحبنا معلنًا أنه لم يكتب شيئًا في ورقته، يتهامس الجميع ويمتعضون. ويخبره أحدهم همسًا:{ ألم تلاحظ أن المقريء كفيف؟؟}. وكأنه يترجم الحالة السياسية للبلاد عامة، وللداخلية خاصة( قل ما شئت، ونحن سنفعل ما نشاء).

وإذا كان صاحبنا قد كان هو الوحيد الذي رفع صوته في سرادق العزاء، فأشبه بذلك ما فعله في "كشف الوجود" حيث هو الوحيد الذي اعترض، فكان مصيره أمرًا بالطرد، ولما أصر علي أخذ حقه، انصرف الجميع، ووقف وحيدًا. كأنه (مجنون).

وبعد أن كان –صاحبنا- في عزاء زوجة وزير الداخلية، فقد وجد نفسه – أيضا - في حفل{خطوبة كريمة شيخ الأزهر على أحد الضباط}. ليجد نفسه وزميله، غير مرغوب في وجودهم، إذ أنهم لا يحملون بطاقة دعوة، ويطاردهم شيخ الأزهر بنظراته، ويطاردهم الجنود بالبوارج، ليخرجوا من الحفل دون أن ينالوا من طيبات ما فيه. وكأنهم خرجوا من المولد بلا حمص. وكأني به يصور حال الشعب المصري الذي وقع بين المطرقة والسندان، بين سلطتين، بين السلطة الدينية، والسلطة العسكرية. وقد لا أكون قد شطط إن قلت أنها أفضل تصوير لما وقع علي الشعب المصري حين خُير بين محمد مرسي أو جماعة الإخوان المتأسلمة، وأحمد شفيق، ممثل السلطة العسكرية، وممثل من قامت عليهم الثورة.

وتستمر الثورة حاضرة، وتظل مصر بشعبها المستعبد، في أشهر السفن الغارقة "تايتنيك" التي تشتعل علي السطح بالنار، في انتظار الغرق في القاع بالماء.

  ويبدأ سيد الوكيل الدخول فيما يشبه المرحلة الصوفية، والتي غالبًا ما تصاحب تلك الفترات التي تعبق أجواء المجموعة، فينتقل ضمن مجموع أحلامه التي يتنقل فيها بـ "لمح البصر" بين عوالم متباعدة، لا ينفصل فيها عن واقعه الإنساني أو الحياتي. حيث تبدأ الرحلة مع "اللعبة" حيث يبدأ مشوار العبور إلي الجانب الآخر. مرورًا بالعديد من المقابر، بعد أن تزينت الدنيا وزهت. حيث يقوده الولد والبنت، وهما أيضًا في الرشاقة والحيوية، ذلك الولد الذي كأنه صغيرًا، والبنت التي كانت هي الحياة. يقودانه لتلك المقبرة {ذات زخارف  ومقرنصات ملونة، تعكس فخامة تاريخية، كأنها لملك عظيم. في صدارتها بلاطة رخام كبيرة، يكسوها غبار كثيف، فتعذر عليً أن أقرأ الاسم عليها. هكذا اقتربت ورحت أمسحها بكفي، كلما مسحت الغبار محوت جزءاً من اسمي، أمسح الغبار فأمحو، وحين  انتهيت، بدت البلاطة في أبهى مايكون بلا أسماء. عندئذ انفتح باب المقبرة}. وكأن الحياة تبدأ وليس لنا اسم علي القبور، وكأن الدنيا تعمينا عن رؤيته، وكلما مر بنا الزمن، أو محونا جزءًا من غبار العتمة التي تعمينا عن رؤيته،  فنحن نحفر حرفًا من اسمنا علي القبر، وعندما تتضح الرؤية ويظهر الاسم كاملا، ينفتح باب القبر. وعندها، سنعبر وحدنا إلي الجانب الآخر من الميدان، ميدان الحياة. 

وما أن نغادر الحياة حتي ندخل "البرزخ" وقبل لقاء الله في "غرفة العناية الإلهية"، أو فلنقل قبل الحساب، يمر صاحبنا إلي الآخرة من "البرزخ" غير انه لم يشر إلي القبور مثلما في الكثير من قصص المجموعة، حيث البرزخ هنا بوابة للآخرة، يعبرها بعد رحلة وطريق طويل، وعنده لا يستطيع الرجوع، كما أنه يصل إليه في التوقيت المحدد:

{ لم أكن قادراً على الرجوع للوراء خطوة واحدة ............. لأصل في الموعد المناسب، وأنا مذعن لها على نحو قدري.}.

ويجد صاحبنا نفسه في الجنة حتي يتعرف علي الحور العين، اللائي لسن إلا من عرفنهم في حياتنا الدنيا، غير أنهن قد أصبحن "عربًا أبكارا". فها هي جارته السمراء: { ثَمَة فتيات يدخلن في طابور طويل، كن صبايا عاريات، بنهود متحفزة، وأجساد مرنة تصدح برائحة شهية، تثير في حواسنا شيئا من الألم. وقفتْ إحداهن بجانبي، التصقتْ بي حتى غمرتني بعرقها، كانت جارتي السمراء، عرفت ذلك من رائحتها القوية. كنت محني الرأس مغطى بالشعر فلم أكن قادرًاً على رؤيتها. لكني كنت أمتليء برائحتها، مذعنًاً لزخات الألم التي تسكن خلاياي، حتى استبدت بي رعدة قوية، فأطلقت آهة وانتشيت}. ولأنه عالم له قواعد غير تلك التي علي الأرض، فإنه لم يلمسها، ولم يمارس ما نمارسه معهن علي الأرض، فإنه وصل نشوته دون ملامسة.

ونصل إلي منتهي النهاية، أو نحصل علي الجائزة الكبري. في قصة "غرفة العناية الإلهية" يقابل صاحبنا الذات الإلهية، فيما لم يره حتي الأنبياء، دون أن ينزلق إلي أي خروج عن المألوف في حياة البشر، بل ليؤكد ما تواضع عليه البشر من إجلال وتعظيم للذات الإلهية، في واحدة من أجمل قصص المجموعة تحت عنوان "غرفة العناية الإلهية".

فإذا ما قرأ القارئ هذا العنوان، سيتبادر إلي الذهن مباشرة (غرفة العناية المركزة) والتي بدورها تستدعي لحظات النهاية في غالب الأحيان، أو الخوف من أن تكون كذلك. فضلًا عن استدعاء الدعوات بالنجاة، والترقب، وفضلا عن كونها لحظات، ومواقف، مشحونة بالتوتر، والانفعالات، بالخوف والرجاء، بالأمل واليأس، بالتوجه إلي المجهول، الذي هو سعي الإنسان الأبدي لمعرفة كنهه، وسعي سيد الوكيل في مجموعته. إلي جانب أن من بالعناية نفسه، غالبًا ما يتوجه إلي الخالق، ونقول نحن عنه، أنه بين يدي الله. فاصحبنا هنا، بالفعل بين يدي الله، وإن لم يكن في غرفة العناية المركزة، وإنما في غرفة العناية بالله. بل هو في بيته وغرفته، ربما أو ما يشبه غرفته: { فلا أدري إن كنت في بيتي أم في مكتبه}. ليؤكد لنا سيد الوكيل، أن لا حقيقة في الأمر الذي قد يكون وقد يكون.

هو ذهب إلي مكتبه، والممر مزدحم بالراغبين في مقابلته..  أليس الكل يسعي لمقابلة الله، أو يطمع في مقابلته؟ ويطلب السكرتير منه خلع نظارته و { الأرضية عارية تمامًاً، لا أثاث ولا بُسط}. ألا يقابل الناس ربهم كما خلقهم، دون زخرف أو ملابس؟

وينظر صاحبنا تحت قدميه، يجد ورقة بمائة جنيه. أيعلم أحد من أين يأتيه رزقه؟ ثم ياتيه (..) من خلفه، فينظر إلي الباب، مازل مغلقا. يسأل نفسه { هل عرف بأمر مائة الجنية؟ فهز رأسه وابتسم}. ألا يعلم السر وأخفي؟ ثم { كانت ابتسامته مهيبة، حتى ملكني خوف، فأخرجت مائة الجنيه وقدمتها له فأخدها في ارتياح}. وما تقدموا لأنفسكم. وبعدها يخرج صاحبنا، فإذاه {، لم يكن في المكان إلا هو، كلما مررت بحجرة وجدته، حتى انتهيت إلى باب أخير، عندئذ سمعت صوت سكرتيره يهتف بي: (ها أنت تعرف الطريق بدون نظارة}. فالله موجود في كل وجود، والطريق إليه لايحتاج لنظارة).

وهكذا يصور سيد الوكيل، بحث الإنسان والإنسانية الأبدي، في قصة قصيرة، في لحظة ربما تكون صوفية، وتتماهي مع رؤيته للموت ورائحته.

وبخبرة السنين، وعلي اعتبار أنه فيها قد أوتي الحكمة، تأتي قصة "أسماء" والتي تعيد لنا بداية الخلق، وبداية الدنيا، عندما خلق الله آدم، وعلمه  الأسماء" وعلم آدم الأسماء كلها"، والتي تعني، في بعض التفاسير المعرفة. والذي يوحي بقصدية الكاتب لهذا التأويل جملته {احذري البالوعة يا أسماء.هذا ما طننت أنه اسمها}.فالفتاة هنا ليس اسمها بالفعل أسماء.

 وحيث نجد، في القصة، أسماء تأتي مرة في صورة شابة، ومرة في صورة عجوز، تتخبط به مرة في الأحجار القلقة، مرة تسبح فيه في مياه المجاري، ومرة في مياه رقراقة، مرة في الصحراء ومرة في الوادي.و في النهاية تمنحه الفطرة، تمنحه اللبن، وكأنه تعود به إلي فطرة الحياة. ثم تكشف، الدنيا، عن حقيقتها : { قلت: أنت وراء كل هذا. قالت: بل أنا كل هذا}.

  ويواصل الكاتب تأمل رحلته، فيركز الحياة في قصة قصيرة، في لحظة، لحظة ترسم لوحة، وتعطي إحساسا، تمنح الحركة دون حركة، حيث يقف بعد رحلة الحياة، يتأمل نفسه طفلًا، اضاع كتبه المدرسية، وطفلًا يلعب بالطائرات الورقية، وطفلًا يخاف الكلاب، ذلك الخوف الذي بدأ في الانسحاب، بل في الغياب خلف ذلك الضباب الزاحف من أول الطريق، ويقترب، يقترب حتي يغطيه ويغطي الأشجار، ويغطي كل شئ، لتغيب الطفولة، وتغيب الحياة. في لوحة "شجرة الألعاب"، كما سبق وأطلق علي الحياة "اللعبة"، ليقول أن الحياة مهما نمت وتفرعت، فحتما سيغطيها الضباب يوما.

ونفس النظرة –تقريبا- تلك التي يقفها أمام "قلق الأربعين" حيث يشتهي (الأبلة) الجميلة، مدرسة ابنته، فتقف ابنته حائلًا ةتسد عليه الباب، فيتذكر أن ما فات لن يعود. وأيضًا قصة "ساعة العمر".

وبستمر نفس الإحساس –أيضا- في "حق العودة"، حيث النظرة المتأملة للحياة، الفانية، حين تودع الزوجة زوجها، لتعيش حياة الرغد (سيارة الصديق الفارهة) بينما يعود هو إلي الأصل، إلي الأب والأم، وكأنها العودة للأم الأرض، بينما الجارة تتحسر علي ما كان لها من ذكريات معه، والوحشة التي ستعيشها من بعده.

وهي نفس الرؤية التي يبثها الوكيل في قصة "مراسم الحداد" حيث يتبادل صاحبنا القبلات والحب، مع الجارة، علي رأس زوجها الميت حالًا، بينما هو لا يحمل رخصة قيادة، رخصة قيادتها (الزوجة).

وقد تكون هي الرؤية في قصة "ليلة الملائكة" حيث تعلق صاحبنا منذ طفولته بيد جدته التي هوت في بئر السلم، بعد أن تحول ضوء القمر. ولازالت يدها ممسكة بيده، وكأنها تسحبه إليها هناك، حيث هي الآن.

وتمر جنازات الراحلين في "ممر الجنازات" لترحل الأم بعد الجدة، وهو ينتظر.

        

أما الرؤية الثالثة التي برزت في المجموعة، وإن كانت تقنية الحلم قد خفت فيها، لطبيعتها المنذرة، والتي تتطلب المواجهة المباشرة، حيث تعلقت بالتحذيروالتنبيه لذلك الذي يحدث في وسط الكتابة، والإعلام. والتي نتبيهنا في قصة " زاوية للقتل" والتي فيها نتعرف علي تسليط الدعاية علي أحد الكتاب الشباب، والذي ليس سوي مقلد، أي أن كتابته ليست أصيلة، فراح صاحبنا يهتف ويصرخ، أن هناك قنبلة ستنفجر، وكأنه يعلن أن مثل هذه التصرفات، ما هي إلا عملية قتل للإبداع.

ثم تأتي قصة "يوم الكشف" لتقترب بنا أكثر نحو الواقعية، لا لمجرد أن يورد ذكر أسماء حقيقية (كتاب بالطبع) فليس ذلك بجديد علي سيد الوكيل الذي سبق وفعل ذلك في الحالة دايت. ولكن لأنه يتناول- في هذا القسم – رصد الحالة الإبداعية، وما يعتريها من ظواهر لا تروق له، علي النحو الذي وضح في قصة "زاوية للقتل". وعندما يرفض الإنسان واقعًا معينًا، فإنه يلجأ للمكان الذي يري نفسه فيه، أو للمكان الذي يجد راحته فيه. فما الذي يراه هنا ولم يرق له؟

بالطبع هو غياب التخصص، أو دخول إناس في غير مجالهم. فعلي الرغم من الصداقة بين صاحبنا و"د.السيد نجم" وإن كان د. السيد نجم مبدعًا أيضًا، إلا أن ذكره هنا لم يكن بصفته هذه، وإنما بصفته الوظيفية، كطبيب بيطري، إلا أن صاحبنا يفاجأ به يعالج البشر. وما يزيد الأمور بؤسًا أن يقول الصديق المعالج { أن هذا هو المتبع في هذه الأحوال} أي انتشار دخول الغير في غير تخصصاتهم، وربما لا نكون مبالغين، أو متأولين، إن رأينا أنه يعني بالتحديد غير الموهوبين في الإبداع، خاصة بعد قصة "زاوية للقتل"، وأيضا لأن صاحبنا وضع نفسه مع رموز الإبداع الجاد. فنجد معه ثروت أباظة وتوفيق الحكيم. وأيضا نجد نجيب محفوظ في "لمح البصر". حيث انضم إليهما: { ألتفتُ ورائي فرأيتُ ثروت أباظة غافياً وعاقداً يديه على بطنه الضخم، وبجواره كان توفيق الحكيم متكئاً على عصاه، ويلهج بكلام لم أتبينه. ولكني شعرتُ بنبرة الغضب فيه، ففهمت أن على أن أجلس بجوارهما في انتظار دوري في الكشف}. ودوره في الكشف هنا، وإن كان يبدو في ظاهره (الكشف الطبي) إلا أنه فيما وراء السطح يعني كشف الأسماء للمبدعين الجادين. أو الرافضين لأنصاف المواهب. خاصة وقد { شعرتُ بنبرة الغضب فيه}. نبرة الغضب في حديث الحكيم، ولنربطها بـ ( شعرت بالقلق، لأن طبيبا بيطريا يعالج آلام الفقرات بظهري} و { غمرني السأم فجأة وخرجتُ}. 

ثم إذا عدنا إلي الصعايدة الذين يلبسون زيًا واحد، وعندما طلب منهم السارد أن يرقصوا، رقصوا، ظنًا منه أنهم أحد أعضاء فرقة فنون شعبية. لكنهم أخبروه { جئنا لزيارة مريض لنا}. وكأني به يعني الراقصون علي كل الحبال، الآكلون علي كل الموائد.

ثم تظهر خاصية أخري في كتابة سيد الوكيل، كان قد سبقه إليها صديقه الراحل "خيري عبد الجواد". وهي تضمين بعض أعماله السابقة في متن العمل. إلآ أن سيد الوكيل هنا، يتصور أن قارئه من متابعيه، وعليه أن يكون قد قرأ "الحالة دايت" ليعلم أنها تحدثت كثيرًا عن الموت، إن لم تكن كلها حديث عن الراحلين، فليس عنوان قصة "موت أخير للكتابة" يعني الشكل الظاهري له. وإنما يعني موت الكتابة الجادة. فنحن في "موت أخير للكتابة" أمام إنسان يقرأ في "الحالة دايت" وقد أثرت فيه الكتابة، حد أنها دفعته للمارسة فعل الموت، فأمات زوجته، ووضعها علي طاولة الكاتب الذي كتب "الحالة دايت".

لنصل في النهاية إلي القصة الأخيرة في المجموعة والتي منحت اسمها للمجموعة "في لمح البصر". حيث ندخل إلي البداية، بداية المجموعة، وكأننا كنا ندور في حلقة، أو كأن الوكيل أراد أن يضعنا بين دفتي نجيب محفوظ. في البداية بالإهداء، وفي النهاية بمعايشة أجواء نجيب محفوظ التي ضمخت روائح أعماله بسيَر أصحاب الطرابيش { وتفرقنا في بهو مازال محتفظاً بأثار الزمن}، وحيث كانت ثورة 1919{ عيونهم شاخصة في اتجاه الصدارة، حيث الزعيم ممسك بطربوشه} في استدعاء لزعيم الأمة سعد زغلول. وبين عوالم شارع محمد علي. وليزيدنا دخول في تلك العوالم والتوحيد بينها، رأينا النوبي المعمم، هو من يفتح الباب في الحالين، كرابط مُوَحِد، وزادنا الكاتب إيغالًا. باللمحة المشيرة إلي عالم فريد الأطرش{ هل الزمبليطة في الصالون؟}. إلي جانب أجواء الحارة التي كانت المسرح الرئيسي لأعمال محفوظ{ في ساحة كأنها ميدان، تعج بعربجية يتسابقون بجيادهم وعرباتهم الكارو، ويحدثون صخبًا كأنهم في عراك}.

في "الحالة دايت" كتب سيد الوكيل يتساءل: {حياتنا كلها افتراضية تقدر تقول لي لما نعيش طول الوقت في أحلام وخيالات نبقي إيه..؟ ص 30 }. وبعد قراءة"لمح البصر" أستطيع أن أجيبه أننا قد أصبحنا أكثر رؤية للواقع المرير، وأن العمل الجاد، والسعي نحو التطوير، ورفض الجمود، يجعلنا ننتظر دائما جديدك.

Em:shyehia48@gmail.com