تكتب هذه القصة أسطورتها العشتارية الخاصة وهي تتحقق بتفاصيلها الحسية في عالم يموضعه القاص العراقي على الحافة الفاصلة بين واقع العراق إبان الحرب العراقية الإيرانية ووجوده السرمدي المتخيل.

عشتار العراقية

سلام إبراهيم

.

 

ـ يا حبيبي أحنه في حكاية من ألف ليلة وليلة!.
قالتها، وعيناها اللامعتان منشغلتين عني بالسقف الخفيض المغطى بلوحات محشودة بالجواري والمغنين والراقصات المتطوحات وكأنهن سيسقطنَّ بعد لحظة في أحضان الرواد. كنتُ مذهولاً.. ممتلئاً بها، وبالعكس تماماً من مخاوفها أخذتها تلك الليلة إلى مطعمٍ منزوٍ. كانت ترتدي بدلتها الترابية الضيقة حد الوركين، الفضفاضة خلف الربوة المتماسكة اللدنة. هبطنا في عالمٍ أخر حال عبورنا العتبة. توقفنا لبرهة مسحورين بمزيج الأضواء الخافتة التي تسقط من أركان غير مرئية وكأنها ظلال ألوان في لوحةٍ، تتخايلُ وسطَ بحرٍ من الشمعداناتِ  الموزعة على طاولات صغيرة مرتبة بطريقة تجعل من المكان حميماً ونائياً بنفس اللحظة. اصطحبنا النادل الأنيق إلى طاولة متطرفة اختارتها. جلست في زاوية تتيح لها رؤية أركان المطعم، وتركتني منفرداً بمواجهتها مزدانة الجوانب، بمشاكي الجدران الناثرة رذاذاً ملوناً خافتاً من أضواء ينتشر من باطنها دون رؤية مصدر النور، نوافذ عمياء صغيرة درفاتها ملونة نصف مفتوحة على عمق أزرق كأنه فضاء نهارٍ صيفي رائق. كانت أمامي مبهورة تحدق بعينيها الواسعتين المندهشتين في أرجاء المكان بينما أبحر في مزيج الأضواء الرائع المنعكس في سوادهما المتلألئ. في فسحة الصمت التي استطالت  كنتُ أمسح بعيني الشغوفتين نحول كتفيها العاريين، عنقها الأتلع ولون مهبطه الأشد سمره، وما يكشفه الزيق المخروم من تدوير الثديين الصغيرين الذين بدا لشدة طلاوتهما وكأنهما مطليين بزيت الزيتون الخالص.

كنت كمن أمسك حلمه، صاغراً، مندهشاً، مسحورا. هاهي الجنية التي بحثتُ عنها منذُ الطفولة متجليةً أمامي بلونها الخمري وثوبها الترابي المتشرب بمزيج الأضواء. هاهي من كنتُ أحلم بها وأنا أغفو في باحات الجوامع، أفياء النخيل، على ضفاف سواقي الحقول الصغيرة، وفي وحدتي بين أكداس الخشب في دكان خالي النجار. المرأة التي ستستحيل مع غرقي في بحور الكتب إلى كيان لا تحقق له إلا في مخيلة جامحة تصوغ من أساطير الحب القديمة السومرية والفرعونية وحكايات ألف ليلة وليلة تفاصيل الأنوثة المطلقة، بحيث أصبحت هش القلب أتعلق بكل جميلة تخطف أمام ناظري، فدخلت في قصص حب خاطفة أبكتني كثيراً وأنا أخيب في العثور عن امرأة أحلامي بينهن. هاهي الأصل عشتاري العراقية تنبثقُ من جديد بحلتها الترابية وسمرتها الخمرية وشرود عينيها وكأنها لا تعرفني. قلتُ لها هامساً:
ـ حبي.. حبي.. وين وصلتي؟!.
ألتفت نحوي مثل من أستيقظ لتوه من حلمٍ. افترستني بعينيها الجريئتين وقالت:
ـ أريد أن أسكر هذي الليلة!
لا أدري ماذا أصابني فقد فاجأتني حقاً. ارتبكت حقاً من مزيج نشوة بعثته فكرة أن أراها سكرانة وخوف من تجليات عشتاري البرية في ضباب السكر، فهي دون شربٍ تفعل الأعاجيب ما أن تنفرد بيَّ، فكيف بها إذا أخذتها الخمرة إلى حدود السيل. خفتُ أن يجرفني، يلقي بَّي على جرف رطبٍ منهكاً ويسدر بعيداً نحو الآخرين. طفح ارتباكي مما جعلها تتساءل:
ـ أش بيك يا حبيبي.. عندك مانع؟!.
قبل أن أتمالك نفسي وأجيب أردفت:
ـ إذا ما تقبل.. فلا داعي.. فأنا لم أذق طعم الخمرة في عمري!.
وجدتني أهتف من أعماقي حالماً بمرآها مخمورة متخلصة من بقايا أسوارها الواهية أصلاً:
ـ أنا عندي مانع!.

وناديت على النادل. تألقت ملامحها بوهج الرغبة السابقة لنهل الخمرة، وابتسمتْ تلك البسمة الفاتنة التي لا تُظْهِرْ سوى سنيها الأماميين العلويين البارزين بروزاً خفيفاً يضفي على شكلها المزيد من السحر، والمتفارقين بشقٍ معتمٍ يزيد من توهج بياضهما الناصع وكأنه إطار لحبتي لؤلؤ.

أقبلتْ على كأسها المترع بالنبيذ الأصفر المترقرق في محيط الزجاج الشفاف بعد أن مست بحافته كأسي فرنَّ في هدوء المطعم.. في حيرتي. وسحبت ذراعها العارية نحو شفتيها المطليتين بلون وردي خفيف جعلني النهل منهما أذوق طعم الماء الأول المرتشف بعد فعل الخلق. رشفتْ مقدار قطرة. أبعدت الكأس مسافةً. ورمتني من تحت أهدابها الفاحمة بنظرة فاحصةٍ. كنتُ مأخوذاً بأرستقراطية رشفتها الملكية ذاهباً إلى العمق.. إلى التراب والفرات حيث نشأنا جوار مدينة نفر السومرية.

ـ أتكون روح عشتار قد حلتْ بروح محبوبتي الجالسة قبالتي بترابها المطلي بزيت الزيتون، وملامحها البرونزية المتراقصة في خافت أضواء شموع الطاولة والفوانيس المثبتة على أعمدة القاعة خفيضة السقف؟!.
ـ أأكون أنا دموزي زوجها الذي انتقته دون كل عشاقها؟!.
ـ أسوف أنتهي إلى نفس المصير؟!.
أرعدني الخاطر فانتفضتُ متشبثاً بكأسي.
ـ أش بيك يا عيني؟!.
قالتها معاودةً نفس ابتسامتها، سَبتني فرحت أنهج قبل أن أقول:
ـ يا لسحرك.. يا لفتنتكِ!.

تضرج وجهها بالنشوة التي أخذتها إلى قمة ليس بعدها علو، واتسعت ضحكتها الصامتة فأعطت إيقاعاً أخر لا يوصف للقسمات المتناغمة.

ـ ألم أكن وقتها كائناً صاغته الكتب والقراءات والعزلة في غرفة؟!
ـ ألم أكن أضفي على كيانها الجالس أمامي ما ليس فيه؟..

بعد عشرين عاماً سوف أتيقن من هذا وأنا أكتشف أنني أضفى على واحدة عابرة في مقهى ما أضفته عليها في ذلك المطعم البعيد.

رحنا نرتشف الكأس تلو الكأس، ونأكل السمك المشوي والسلطات المقدمة في صحون منقوش على محيطها زهور برية تخيلتها حية في ضباب الإنارة ونشوة الخمرة. طلبتُ نبيذاً أحمر مع لحم بقر مشوي، جبن، كافيار، لبن، حمص بطحينة، زيتون، قطع خبز محمص بالفرن وآيس كريم. ابتدأنا نسكر، فرحت كشأني أعلق تعليقاتي الداعرة مما يجعلها تنفجر بضحكتها، غريبة الإثارة، بجرتها الأخيرة الشبيه بصرخة النشوة حال بلوغ ذروتها. الضحكة كانت تضج بهدوء المكان فتطلب مني برجاء الكف:
ـ كافي عيني.. كافي حبي.. فضحتنا. كل الناس عينها علينه.

ألتفتُ ففاجأني الزحام، لم تكن هنالك طاولة فارغة. ابتسمت للوجوه المحملقة، فما يهمني من شأنهم العابر وأنا ألجُ عتبة عشتاري العراقية بوجهها الساحر الذي يختلط فيه خفر وحياء ملكة مع جرأة عاهرة معبد قديم. اعتدلتُ في جلستي ورحتُ أتحسس كتل الآيس كريم بطرف لساني مطلقاً آهة خافتة

ـ الآيس كريم دمرني!
ـ يا.. ليش؟!.
ـ تدرين بيش يذكرني؟!
ـ ألم تحزري؟!.

وأشرت برأسي صوبه وأنا أدور لساني حول الكتلة الطرية، فانفجرت في ضحك متواصل أمتد لدقائق مرددة في ثواني أخذ النفس:
ـ داعر.. داعر.. أكبر داعر بالدنيا حبيبي!

اندمجنا في حديث هامس عن المستقبل متخيلين شأن كل أزواج جدد عدد الأطفال وصورة الحياة القادمة وتفاصيلها السعيدة. كنتُ أغور في عينيها اللعوبتين غير المستقرتين اللتين تزوغان بين الحين والحين ناظرة خلف ظهري.

ـ هل كانت تمارس لعبها الخفي منذُ ذلك الحين مستمتعة بعيون العالق المسكين المتوسلة؟!.
ـ هل كانت تكتفي باللعب أم أنها تذهب أبعد شأنها شأن عشتار البابلية؟!.

وبغتةً اكتست ملامحها بجدية الصحو. دفعت كرسيها قليلاً، وانتصبت واقفةً مثل رمح ناقلة نظراتها الغاضبة بيني وبين عمق المطعم خلف ظهري وقالت:
ـ لنتبادل المكان!.

لم أسألها لماذا، فقد حدستُ بأن لعب عينيها المفطورتين على الحركة واختراق أسوار الآخرين، وحضورها الطاغي الساطع بحلتها الترابية وكمال قوامها الممشوق وفيضان شعرها الفاحم المتساقط على الكتفين، مضاف لنوبات ضحكها الفريد وطريقة رشفها للخمرة المترقرقة بذهب روحي تارة ونزيف دمي في أخرى. كل هذا الفيض الإلهي الهابط عليّ من عالمٍ أخر، الطالع من تراب الأزمنة الغابرة قد جَندّلَ مسكيناً أخر من مساكينها الذين بلا عدد. أصبحتْ بمواجهتي. توحدت بيّ منفردةً بوجهي المذهول المحدق في ملامحها المقددة، المبحر في عينيها الناعستين اللتين بان في غورهما فعل الخمرة. كنت أتصّابر بعناء فالرغبة الماحقة بضمها تشّبُ في جسدي.
قالت: لنذهب!.
وأومأتْ للنادل. دفعتْ الحساب وأشارت بيدها كي يحتفظ بالباقي. اتكأتْ على مسند الكرسي، وتمايلتْ عند النهوض. أسرعتُ كي أسندها. همست:
ـ لا.. لا.. لا تسندني!
تماسكتْ رامحةً بقامتها الطويلةِ، وخطتْ بتوازنٍ إلى جواري في يمِ الأضواءِ وبحرِ الموسيقى الخافتةِ. عشراتُ العيونِ تلاحقُ خطونا البطيء. عبرنا العتبة لنواجه الليل الحالك ونسماته الباردة البليلة. قالت:

ـ اسندني.. سكرتْ!
حضنتها بذراعيَّ هامساً:
ـ قاومي.. ما بقه غير خمسين متراً!.

كانت تترنح بين ذراعي وتكاد تهوى كلما قطعنا عدة أمتار، وتقبّلني في كل ناحية تصلها شفتيها، مشينا مبعثر على المسالك الضيقة خافتة الإنارة. يقدح التقبيل حواسي، أهبط بوجهي نحو عنقها بين الخطوة والخطوة لأعبَّ من عبقها الفائح. خلف الباب انهارت بين ذراعي غافيةً مثل طفلةٍ. حملتها إلى السرير. وضعتها بأناة. عدلتُ طولها الممدود واضعاً وسادة الريش تحت رأسها، فأنبسط شعرها الفاحم الكثيف مغطياً نصف الوسادة المشتركة. وحرتُ ماذا أفعل؟! وقفت جوارها.. غافية مثل ملاك. أيقنت بخواء روحي دونها، فهجمت علي الهواجس، أنا شبه الممسوس أصلاً، فماذا لو سممتها الخمرة التي عبت منها زجاجات ثلاث هي التي لم تذق طعمها من قبل؟ ماذا لو فقدتها إلى الأبد؟! سيظل ينتابني مثل هذا الشعور وأنا أتخيلهم يقبضون عليها أيام اختفائي، أو تخترق جسدها شظية أو طلقة بين الثوار في الجبل. سأرتعد كاتماً خوفي بصمت.. وسأنسي هذا الشعور حال وجودها الفيزيقي جواري في الغرف المعتمة ويوم الجبل. حملقت بفزع نحو طولها المسفوح الهامد على سرير الفندق حتى خيل إليّ أن صدرها المشدود بالثوب لا حركة فيه. بركتُ على ركبتي جوار السرير مقرباً أذني من موضع قلبها اللابد تحت ربوة النهد الأيسر الصغير المضغوط بالثوب. أصغيتُ إلى بوابة كونها المخفي مستمتعاً بأعذب ضجيج سأدمن عليه في الأيام اللاحقة. سأنصت إلى نبضها كل ليلة قبل خلودنا إلى الغفوة. ستنعتني بالطفل تارة، والمجنون أخرى. لم أكف عن تلك العادة حتى خريف العمر. أمارسها بنفس الروح منفصلاً عن التفاصيل الموجعة، ومنصتاً لتأريخ النبضات ذاتها التي لم تستدر وتلبس غير ثوبها كما نفعل نحن أيام الشجار المثار لأتفه الأسباب، حتى أنني أظل في حيرة دائمة من الكيفية التي يتطور فيها حوار يومي عادي إلى شجار وعراك وصد في الفراش يستمر أياماً، وتلبك في الوجوه لا يحله سوى تماس الجسدين في الليل بأنفاق الغفوات المحتشدة بتاريخ الجسد الذي يبدو أحياناً وكأنه مستقلٌ تماماً عما يجري في بحر النهار، فتنهل الأجساد من بعضها في لحظة لا هي بالنوم ولا هي بالصحو. لحظة قائمة بينهما أيقنت من فرادتها وضرورتها لدوام عشرة طويلة، فبدونها سيصيب العلاقة بين الجنسين خراباً مبكراً.

لن أفوت أيام الصفاء في خريف العمر دون الهبوط بصفحة وجهي الناضحة خجلاً من استغراب ملامحها الحيادية شاعراً بأنها تعدني ممثلاً رديئاً. أتحمل عسف ملامحها الباردة لأخوض في ضجيج الأحشاء الذي يملأ مسمعي بدفقه الحار البري البريء والمختلف عن تصلب ملامحها المنتظرة الذهاب نحو الذروة المعتادة والمتضايقة من حركاتي الصبيانية.

ـ هل كنت أحاول مسك طعم وعبير وأصوات تلك الأيام المتلاشية؟!.
ـ أما زالت ذلك الطفل الحالم بظل جدار؟!.
قلتُ لنفسي:
ـ الثوب الضيق كتم أنفاسها!.

أدرتها جانباً. كانت طيعة بين ذراعي. بحثتُ عن سحابة الفستان، فواجهني ظهرها العاري حد النصف، الناحل بحيث أستطيع عدَّ أضلعه اللينة المتموجة تحت البشرة السمراء المطلية بالزيت. جعلتُ ألهث مأخوذاً وأصابعي المرتجفة تمسك بنتوء السحابة الصغير. أنزلته بهدوء مليماً.. مليماً محملقاً بمهبط الخاصرة النابضة وطرفي فستانها الترابي يتباعدان حتى ربوتي الردفين المهلكين اللتين ستذيقانني الويل لاحقاً. سحبتها نحوي وكأنني أمس بكفيَّ المفتوحين إناءً زجاجياً شفافاً. انطرحت على ظهرها. توسط جسدها السرير، فأصبح تنفسها يسيراً وسدرت ملامحها في عمق الغفوة الهانئة.

أفرزني الصمت وليل المصيف الجبلي وطولها الغافي والخمرة إلى وحشة برية لذيذة طافحة بالحيرة. حيرة غير تلك التي لازمتني في طفولتي الشقية حينما أجد نفسي في باطنها مخذولاً مهاناً بعد صفعة من كف أبي، عمي، أو في قبو الزنزانة متسائلاً:
ـ لم يحدث لي ذلك؟.. وما الذنب الذي جنيته؟!.
هذه حيرة مختلفة تهجم عليّ من وقع أنفاسها، من تقاطعيها، من أمكنة البهجة المندثرة في أعماقي، من لذة مجاورة عشتار المتسللة من بطون الحجر.. بطون الكتب.. من غور ليل النافذة المحتلة طول الجدار المطل على الوادي. تلفتُ في حيرتي:
ـ ماذا أصنع؟!.
نهضتُ من بروكي جوارها. خطوتُ نحو الصالة، وجلبتُ كرسياً، وطاولةً صغيرةً وقنينةَ ويسكي وكأساً وصحناً ملأته بقطعِ الثلج.
ـ فمن لي سواك يا خمرة بحضور عشتاري الغافية؟!.

رحت أرتشف الكأس تلو الكأس متأملاً غفوتها الساكنة، أدوات زينتها المنثورة على الطاولة الناصية، أحمر الشفاه، صبغ الأظافر، مسحوق الخدود، كريمات البشرة المختلفة، قنينة العطر التي رفضتُ بشدة أن تتعطر بها، فلجسدها رائحة هي مزيج من الجوري والخباز وأعشاب البر التي كنتُ أجمعها من حواف سواقي الحقول المحيطة بالمدينة، وأعصرها بقبضتّي، ثم أستنشق بعمق ضوعها الذي كان يوحدني في لحظة تنسيني كل ما يحيطني من بشرٍ. ذلك المزيج شممته من جسدها في أول عناق على سطح دار أهلي. رأيت ملامحي الظليلة في مرآة الزينة المقابلة. رجعت إليها، إلى بعثرة فستانها وقسمه الأسفل الفضفاض المتكوم بين ساقيها، إلى حذائها الأسود الصغير الذي لم أنزعه. كان شكله ساحراً على قدميها المنفرجتين على الفراش الأبيض:
ـ وماذا بعد؟!.

قلتُ لنفسي وأنا أمعن بسكرين.. سكر الجسد المسفوح المحرض على الصحو.. وسكر الخمرة المحرضة على الحلم. لن أنسى أبداً تلك الليلة الفريدة أبدا. قمت من جلستي.. متى؟ لا أدري.. كنتُ خارج الليل والنهار والفصول. فتحت الحقيبة الكبيرة المركونة في زاوية الغرفة. استخرجتُ أعواد بخور وحفنة حرمل وأصابع شمع أصّرتْ على حملها معنا للتبرك وتكملة الطقس كما قالت ضاحكة. أشعلت أعواد البخور ووزعتها في الصالة. فرقعتُ بذور الحرمل في إناء نحاسي صغير على نار الطباخ الغازي، ورتبتُ أصابع الشمع في أركان غرفة النوم، على الأرضية وطاولة الزينة وجوار قنينة الويسكي والكأس، ثم أطفأت الأنوار، فغرق طولها في بحرٍ من النيران المتراقصة في رعشاتٍ ترجّفُ بياض السرير، تراب فستانها، مهبط النهدين الحبيسين، انعكاس وجهي المذهول في مرآة الزينة. طفت سابحاً بمزيج الروائح المسكرة، رائحة البخور الهاجمة من الباب المفتوح على الصالة، رائحة الحرمل المفرقع في المطبخ منفجراً حبة.. حبة، رائحتها البرية الفائحة، عبير أنفاسها المنتشرة في نواحي روحي.. غير المصدقة بهذا الهبوط الرباني المتجسد على مسافة مترين من سهري. تعمقتْ حيرتي.. توحشت.. هاجمتني الهواجس من خلف البخور والحرمل وعطرها وأنفاسها والعتمة وأصابع الشمع والمرآة. هاجمتني مباغتة دعة حلمي السكران، فخفتُ منذُ ثاني ليلة ننام فيها كزوجيين من فقدانها.. كان المجهول في انتظارنا، والجبهة مع إيران مشتعلةً منذُ عام ولا أدري متى أُستدعى لخدمة الاحتياط. هواجس هجمت علي تلك الليلة ومشاهد أصدقائي القتلى وهم يُغسلون على دكة المغسل الأسمنتية الباردة في مقبرة النجف، عراة مشوهي الأجساد، ثم مشهد زوجاتهم الفتيات اللواتي يصرخّن جوار حفرة القبر لاطمات نادبات لحظة إنزال الجسد المكفن. صراخ وحشي ظل يرن بمناحي نفسي لحظات شرودها. كنت أقول مع نفسي بصمت:
ـ يا إلهي.. ارحمني وأنجني من هذا المصير.  

أقول ذلك وأنا أتخيلها تبكي موتي. كنتُ أقول كي أطرد تلك الهواجس.. عش لحظتك يا مجنون.. عشها بكل عنفوان المرة الواحدة. وظللتُ أقبل عليها في اليوم والسرير وكأنها المرة الأخيرة في ذلك المخاض الشرس الذي عبرناه معاً. كان هاجس الفقد معي مثل ظلي، لازمني في كل الأمكنة التي حللنا بها. كنتُ أتلظى في لهيب الحب والمخيلة والكتب والتاريخ والجسد وفكرة العدالة والمساواة واحترام الكائن البشري دون حدود. كنتُ أعمقَ حالمٍ والهواجس، تهجم عليّ في جلستي الحائرة وسط الشموع وأشياء الغرفة وجسدها السادر في غفوته على سرير الفندق. هاجمتني من صباح اليوم القادم الواقف على العتبة.. من غيابها عني في غفوتها العميقة الشبيه بالموات. أنهكتني الهواجس وتركتني كسيحاً في كرسيي جوارها. أتيت على ما تبقى من ويسكي في القنينة بجرعات شرهة وكأنني أريد طرد الوساوس بسائل الذهب والذي سرعان ما جعل رأسي يطير.. ويطير إلى أمكنة نائية لا هواجس فيها، ليحط من جديد بصفاء على موج طولها الغافي وحيرتي المبهجة والسؤال المتكرر منذُ سقوطها في النوم:
ـ ماذا أفعل يا إلهي في هذه الليلة الفريدة التي تكاد تخطف؟!.
ـ ماذا يفعل عبدك المسكين المدله حينما تسقطه في امتحانٍ عسيرٍ كهذا؟!.

كدتُ أصرخ مثل درويش.. مددد.. حييييييييييييييييييييي قبل أن يَطعن لحمه العاري برهافة النصل الخارق. وجدتني مثله تماماً مطعوناً بهذا الجسد الناصل، السادر عن ألمي ورغبتي وذهولي في عمق غفوة طفل تعب من اللعب.
ـ ماذا أفعل.. ماذا؟!.
تأرجحت على حافة الجنون، ملفوحاً بعبيرها الخارق مسامي والقنينة فرغتْ. هرعت إلى البراد وأتيتُ بقنينة فودكا هذه المرة:
ـ ليس لدي غيرك سلوى الآن!.

همستُ لقرقرة السائل المستعير قوام الماء وشكله، المتدفق من عنق الزجاجة الضيق حتى حافة الكأس الصغير. أفرغته برشفةٍ. صببتُ ثانيةً وثالثة.. ليس للسكر ساحل، مصلوباً.. متوتراً على كرسيي، صاحياً بحضور الجسد المسفوح تحت ناظري.

ـ هل يغفو من يداني حلماً قديماً كاد أن يكون شبه مستحيل في قسوة بيئة شيدت تقاليدها ضد الحب؟!.

هاهو حلمي غافياً جواري على سرير المحبة.. هاهو حلمي السكران عافني في يم الأشواق المبهجة في ليلة فريدة لم أعِشْ مثلها بقية العمر!.

ـ الحضور الساحر الصاد حَوَلَّ الخمرة ماءً والألمَ سعيراً وعواءً!.
ـ الحضور الغافي حوّل الخمرةَ ماءً والألمَ لذةً!..
ـ ماذا بوسعي إزاءه؟!.. وهل من سبيل يوصلني إلى حافة النوم؟
الوصال معه مستحيل.. والغفوة عنه مستحيلة!.

وجدتني أعب وأعب من زلال الفودكا علّها تهمدني، لكن هيهات، كانت تزيد من توهج الحواس، وتجعل من رغبتي ماحقةً إلى أن دفعتني إلى البروك على ركبتي جوارها بروك مصلٍ متوحد. مددتُ أصابعي نحو كتفيها الناحلين. أدخلتُ رؤوس أصابعي تحت حافة الفستان. سحبته إلى الأسفل بأناة سحباً خفيفاً، فتعالى في صخبي حفيف احتكاك الثوب باللحم الأسمر البض. راح جسدها ينكشف بوصة.. بوصة مع شدة بطء السحب. حررت الذراعين الممتلئين المزيتين، النهدين المختبئين تحت قماش الحمالة الضيقة والذي لا يخفي من صرختهما سوى جزء يسير يعلو الحلمة النافرة الرامحة الدافعة نسيج الحمالة الترابي الشفيف.. الحلمة الداكنة بادرة فلقت قلبي. انكشف مهبط البطن الضامرة المؤدية إلى قاع السرة المعتمة.. وشم الحياة الأولى والجسد في تخلقه يسبح في البحر الأول.. تذكار قديم من ذلك العالم المائي في محيطات الرحم حيث لا فضاء.. مطلق أبدي يكرر فعل الخلق بوسيلة وحيدة هي هذا الوشم المحفور في مركز الجسد البشري، الارتفاع اللدن المبتدئ من أسفل السرة حيث أصبح الفستان شديد الالتصاق بالحوض العريض. حلحلتها بين يدي. كانت لينة مثل عجينه متماسكة. تمكنتُ  تخليص الفستان من بروز الحوض، فأنكشف لناظري المأخوذ منبت الفخذين المتينين. حملقت مشدوهاً في طلاوة استدارتهما وكمالها، في صلابتهما الظاهرة ولدونتهما التي أتلمسها بأطراف أصابعي المنزلقة على بشرتهما الملساء. رددت دون صوت:
ـ سبحانك يا ربي.. سبحان خلقك!.
مسحت منحدر الفخذين المصبوبين المنتهيين بصابونتي الركبتين الصغيرتين جداً، والغائرتين في امتلاء الساقين، ظهرت عضلة الساق المدملكة والتي كانت تضعني في الحيرة كلما لمستها في عتمة غرفتي. رفعت الفستان. عببتُ من ضوعها المخبوء في نسيجه، ثم ألقيته إلى جانبها على السرير. تلفتُ باحثاً عن شيء.. عن مجير. لم أجد سوى الخمرة. أتيت على ما تبقى في الزجاجة. ازددتُ صحواً على صحوٍ.

من ينقذني سواها.. من رمضاء رغبتي في دخول هذه الأحشاء الغافية.. الغاوية؟!. ألا من مغيث يوصلني إلى هوة السكر.. النوم؟!. ألا من منقذٍ من جحيم هذه الليلة المشتعلة إلا من.. إلا من؟!.
أرخيتُ رأسيَّ لصقَ قدميها الصغيرتين.. قدمي الطفلة اللتين هبطت نحوهما في أول لقاء على سطح الدار متسائلاً:
ـ أكيدْ حِبسَتْ أمك قدميك بحذاء من حديد حتى يُبْقَنْ بهذا الصغر اللي يدوخ؟!.
ضحكت في مساء السطح متسائلة:
ـ ليش.. أش بيهن؟!.
هبطت بعد سؤالها البريء نحوهما. قبلتهما في كل بقعةٍ باطناً وظاهراً قائلاً:
ـ قدماك تربتي!.
ارتعدتْ وقتها مرددة:
ـ أستغفر الله.. أستغفر الله!.

مسحتهما بشفتي بمسٍ كأنه نسيمٌ خفيفٌ، ورحتُ أتملى عن قربٍ طلاء الأظافر الذي انهمكتْ به قبيل خروجنا عصراً إلى المطعم، معلقةً على تحديقي الصامت المركز على طرف الفرشاة المنقوعة بلون البنفسج وأطرافها المبتلة المارة بسطح الأظافر المتناهية الصغر:
ـ أتزيَّنْ لليلتنا الثانية يا حبي!

لكنها سقطتْ في سكرتها وتركتني لرمضاء الصحو قرب عريها شديد الدنو، السابح في كون النوم النائي.

أضناني اللمسُ.. أحرقني. كانت ساخنة وكأنها مقبلة على حمى المضاجعة. ساخنةُ حد أيبستْ شفتي في مرورهما الوجل على كعب القدم الطري.. القريب. ارتعدتُ من جحيم الفخذين. رحتُ في نوبة من الرعشات. أصابتني حمى جسدها الذي أتعرفه أول مرة عن هذا القرب.. وبهذا العمق والأمان في وحدتنا بغرفة الفندق. أمعنتُ في خوفي والرعشة أخذت بهزي هزاً.

ـ يا ألذَّ محنة في حضرة المقدس العاري!.
ـ العائم على بحر الشمع!.
ـ الغارق في عطر الأبخرة القادمة من عتمة الصالة، وعبق الحرمل المفرقع في المطبخ.
رجعت إلى الكرسي. اتكأت إلى مسنده لاهثاً. قلتُ لنفسي:
ـ هذا بحر لا قاع له، هادرٌ
   هذا مطلق موج لا ساحل له
                      فكيف بي؟!.
                   وأين الرسو؟!.

جلبت زجاجة فودكا ثانية. وفي طريق عودتي استوقفتني مرآة الزينة بسريرها والجسد شبه العاري المسفوح في عمقها وسط بحر الشموع، والكرسي وأواني الزهور الرشيقة الموضوعة في الزوايا وحافة النافذة والستائر وثوبها المبعثر ووجهي الحزين.

ـ ألا يكون حنيني الآن في خريف العمر مجرد تعلق هش بأشياء تلك المرآة المدورة في غرفة أول عري تام؟!.
ـ أليس الماضي ما هو إلا ماء مرآة؟!.
ـ أأكون عاشقاً لتفاصيل المرآة عارضاً عن فيزيقية الأشياء؟!..
ـ أليس هذا جنوناً بيناً لا لبس فيه؟!.

رجعتُ إلى الكرسي. صببتُ كأساً، وغرت في الجسد المتموج في ظلال النور المرتعش. ترسبت ُ في ذهولي، في الصحو الذي يشدده السكر، أمام التكوين الهادر على بياض السرير.، في التباس مشاعري وموج حرمانها الهادر، الواشم كل مسامة من جسدي.

هاأنذا مجرد تماماً من رغبة الولوج في هذا الجسد المقدس الذي أصبح من حقي!. هاأنذا أبغي في هذه اللحظة ما هو أبعد من المضاجعة. هاأنذا أدخل كون الجسد المطلق مستعيداً تاريخي السري في التلصص من النوافذ وشقوق البيبان، من سطح دارنا، ومن سطوح الجيران التي أحلّ ضيفاً على ترابها في سكون الليالي المقمرة، وفي أوقات القيلولة وقت الصيف. هاهو السر شبه عارٍ مسفوحاً تحت ناظري. ها هو الجليل العصي على الاحتواء رغم لحظة الامتزاج والتداخل في الذروة التي لا مكوث فيها. هاأنذا أمكث فيها دون هبوط!. هاأنذا أسخر من كيان الذكر اللاهث.. الساعي إلى دفءٍ يظل يفتقده كل العمر حال خروجه من بحرها الدفين الذي لا أفق له ولا ساحل سوى الدنيا المبكية. لحظة فريدة جليلة تحرزها الأنثى في إرث روح جنسها السري، غير القابل للفضح مهما قيل عنه وصفاً وشرحاً.

ركعتُ مرة أخرى جوارها. كنتُ أنهج، أجود بنفسي باحثاً عن نسمة تخفف وهج هذي الرمضاء المتأججة على السرير. أحطتُ خاصرتها براحة كفيّ. حركتها جانباً. كانت طيعة بين أصابعي وكأنها مستيقظة. فككت زر مشد الصدر، وتركتها تستلقي ثانية على نفس الوضع. سحبت المشدَّ ببطء عن النهدين الصغيرين المتماسكين اللامعين. احتكت أصابعي بالحلمتين النافرتين المتوترتين، فارتجفتُ سابحاً بنضحي المتصبب غزيراً. سقطت قطراته على منحدر الثديين. رحتُ أتابع انحدارها السكران على المسلك المزيت الضحل الهابط نحو فنجان السرة. تأملتُ نهرها الصغير الدافق، وهي تملأ حوض السرة الصغير، لتفيض هابطةً من حافتها السفلى، ممسحةً جانبي الخاصرة الضامرة لتستقر على نسيج الحرير الضيق الذي يخفي الكنز الحبيس. توهجتْ أصابعي عند تمسكها بدانتيل الحرير. سحبتُ القماش اللين، فأنزلق بين الفخذين. وقعت في شرك الشق.. في غموض باب كونها الساحر.
يا لجلال خلقك!.

في جوفك الجليل يكمنُ الكون والقصة.. في فلكك يكون المعنى ويضيع. من جوفك ظهرت البشرية لتتيه في بهمة كون لم يزل غامضاً.. عصياً على الإحاطة.

ليس للإنسان من مكان أأمن من جوفك.. ذلك البيت البحري النازف مع دورة كل قمر.. ليس لطعمك مثيل في اللمس والتقبيل، في الرضع والإيلاج.. في العين والخيال. ما هذه الرغبة التي يطلقها خاطر هذا التكوين العاري المسفوح تحت ناظري، الغامض النابض، الواضح المستكين بين عمودي الفخذين الحارسين مثل جنديين صبهما نحات مجنون بروح الحجر، منتصبين أبداً في بروزهما المستدير الحامي بين منبتيهما المتقابلين الشق الدامي؟! هل الرغبة التي لا تتحرر دون التحقق الفيزيقي لهذه التضاريس المتموجة الجاذبة نحو شقها المبهر هي إبحارٌ في يم مطلق.. لا يختلف عن إبحار هذا الوجود الفيزيقي المتمدد في الفراغ؟! ليس لطعمك مثيل.. ولا يليقُ بك إلا التقبيل صباح مساء.

نهضتُ منهكاً من موضع بروكي. خطوتُ بين نبض الشموع الراجف ونسائم الجوري، والبخور، والحرمل، وضوع عريها الفريد. جلبتُ قنينة فودكا أخرى. افترشت أرض الغرفة. لم يعد الكرسي المشرف من علٍ على عشتاري السابحة في نهر السرير المتوهج يطيق روحي التي لا تعرف ماذا تصنع والخمرة صارت ماء، لا صحو ولا سكر، والشهوة تشيأت أمام هذا التجلي الرباني المنبعث من بطون التاريخ، من التراب، من كثافة الأخيلة، من اختلاط المعاني عند بهاء وضوحها. صارت رغبة الولوج الخاطف في الأحشاء من هذا الشق المنتفخ المتوتر في غفوته.. الولوج الذي سرعان ما ينطفئ بعد الذروة التي لا سبيل يحول دون الهبوط منها. الرغبة صارت في مزيج الضوع الذي سيظل يرافقني كل العمر.. الرغبة صارت لا معنى لها. أنا كنتُ في ذروة لا هبوط بعدها.. في سكر لا سكر بعده.. كنتُ خائفاً من انقضاء الليلة التي أدْمَتْ سري بسرها.
ـ أتكون ليلة العري والهذيان والمخيلة والوجد تلك.. سر ضعفي؟!.
كنتُ منهكاً وظهري المعروق يستند إلى الجدار المغلف بالخشب جوار السرير. وقتها لم أتخيل قط أنني بعد واحد وعشرين عاماً سأتكئ مرات ومرات في عتمة غرفة النوم الشاحبة بسماء باهتة الظلمة ناظراً لتشبح التفاصيل نفسها مع فارق نضجها بالتجربة، إذ أكسبتها تفاصيل الرحلة معاني وظلالاً أخرى وجعلت من عريها أكثر عمقاً، فشدتني إليها شداً يشبه ارتباط العضو بالجسد.. سأنسحق تحت عسف الليالي المضنيات حتى مطلع الأفجار الشاحبات في سماء لا تغادرها الغيوم الواطئة. سأصلب حتى تباشير فضة الضوء المتسلل من النافذة الساقط على عريها المسفوح جواري.. الداني المستحيل، الراغب في تبعثره الممتنع. ستلقي بي الوحدة والوحشة إلى مساحة الأسرار وعاداتها الحميمة.. سأعود إلى بواكير مراهقتي الصعبة حيث أحس أن كل الأشياء ضدي فأخترق بمخيلتي الجامحة كل الأسوار والحدود مضاجعاً ما أشاء.. وقتها كنتُ أحس بنشوة خرق المحرمات، لكن وأنا في خريف العمر ستنهكني العادة السرية التي تشبه في طورها المتأخر الخوض في فراغ.. الإمساك بوهم. في تلك اللحظة وأنا أحلم بالمكوث الأبدي جوار غفوتها المضاءة بنور الشمع الخافق، وبدفق لهاثي المكتوم لم أكن أتخيل أبداً أنني سأعيش تكراراً ليلياً للحظة تلك لكن سأكون فيها منبوذاً.

كان عريها بمستوى ناظري في جلستي جوار السرير الواطئ. وكنتُ أعب الفودكا الكسيحة حتى شحب ضوء الشموع وخيوط الفجر بانت من النافذة المطلة على الوادي الفسيح.

أرعبني الضوء... أرعبتني تباشير الصباح التي ستلغي هذا المشهد الذي أنتشل كياني من بهمةِ غريزةٍ بريةٍ ليضعني في موقعِ لذةٍ مختلفةٍ مبرّحة ٍ.. زمنها لا يقاس بالساعةِ. لذةٌ لا يفهمها إلا من عاش تباريح الخلق في ليل عشتار عراقية تستيقظ بجسدٍ حي يجاوره على السرير في صحوة سكر. هاهما قبتا الكون المتوجتان بدكنة الحلمتين تشبان في عتمة الفضة ورعشة الشموع نحو الفراغ المطلق.. نحو رغبتي المتجلية في المشاهدة والمخيلة.. في النحت وقصة الخليقة.. رغبتي المختلفة وكأنني ضائعٌ في زمنِ الرؤيا وهذا الحضور الجسدي الجليل..
ـ كيف يجرؤ الإنسان على القتل؟!
همست لنفسي وارتعدت للحظة خاطفة.
هاهو الشق الصغير الذين قدم منه البشر مفتوحاً مثل جورية حمراء بين الفخذين اللذين ارتفعا منفرجين قليلاً.

نهضت مذعوراً من الفجر. ذهبت إلى الصالة. وضعت زجاجة الفودكا الفارغة والكأس على الطاولة. نَفختُ الشموعَ فانطفأتْ الواحدة تلو الأخرى ناشرةً رائحة حريفة. سأدمن عليها لاحقاً وأنا أقضي ساعات طوال دائراً بين كنائس روسيا وبلدان أوربا الأخرى هارباً من نفسي وخريف العمر والمنفى.. أي طيب حريف هو ضوع الشموع المطفأة الذي كان ينتشر في أروقة الكنائس الفخمة أيام الآحاد فيأخذني إلى لحظة انبلاج الفجر وميلي نحو باقات الجوري الغاطة سيقانها بقعر مزهريات زجاجية رشيقة بقدها الضيق عند القعر والمتسع قليلا.. قليلا مع انفتاح عنق الزجاجة المدور. حملتُ عشر جوريات وعدتُ إلى عريها، وجدته غارقاً بضوء الفجر المتدفق من النافذةِ. أزحت الستارة الشفافة بحذر. هبط الوادي المغبش تحت ناظري. ثمة ضجة عصافير تصطخب على أشجار البلوط والحور والكستناء في الغابة القريبة. استدرت نحوها ورحت أقطع وريقات الورد الحمراء وأنثرها وريقةً.. وريقة على شقها الزاهر المفتوح.. على قبتي الكون الرامحتين بنتوئهما الصلبين.. على فنجان السرة المستديرة وحلكة سرها الدارس. خدشها ورق الورد، فتململت في رذاذ الفضة، ثم انقلبت مستلقية على بطنها. تموجتُ مع ربوة الكفلين هابطاُ صاعداً بين مهبط الظهر والخاصرة الضيقة ومنبت الفخذين من الخلف. ارتعدت هولاً من هذا الكمال المبسوط تحت عيني.

سوف أتذكر هذا المشهد كلما مست أصابعي كعبة ردفيها في حجها اليومي لمرات لا تعد. سأظل ألتصق بلذة ليس لها علاقة بالغريزة بالكفلين في كل سانحة ببحر اليوم. وفي ليل السرير وأنا غافٍ طوال أكثر من عشرين عاماً. ستتجسد غفوتها تلك التي يقبّل عريها الغبش وخدود الجوري وعيناي الموشكتين على البكاء في أيام هيامي المحزون في وشل العمر في أرجاء المتاحف.. سأخلد إزاء عري الحجر الأبيض القائم والجالس والمستلقي والبارك والساجد.. أتأمل في صمت وخلوة القاعات الروح الحية المتوارية في أعماق الكتلة الصلبة الناطقة. أبحر في حالات الجسد الأنثوي، في المخيلة البشرية منذُ عصور سحيقة مستعيداً فجر عري عشتاري الأول حيث ابتدأت بالبعثرة في فضاء السرير متشكلةً بتكوينات لم يحرزها النحاتون بعد في أحجارهم الحية. إلتمتْ على نفسها بمواجهة وقفتي محتوية وجهها بين ذراعيها المشتبكتين كوسادة تحت صحن جبهتها. ساقاها مضمومان لصق بطنها. سكنتْ في وضعها الفريد مدة، أشركتني، وجعلتني أخطو بين زوايا الغرفة رائياً خلفية الكتلة وقامتي في المرآة. تبعثرت مخطوفاً بنحت الجسد الأسمر المطلي بضوء وزيت الرب، المتكور بوضع الجنين. تبعثرتُ في حملقتي المذهولة بأضلاع الظهر المفصّلة التي أستطيع عدها..بجلال الردفين الذين أكسبهما قوس الجذع الملموم ضخامة قدسية جعلتني أهبط على ركبتي وأمسح شفتي المنتفضتين الجافتين وجبهتي الراجفة بجدار الردف المستدير الطري في تماسكه، الناعم في توتره، المصقول الصافي كأنه سطح مرآة. تمددتْ رافعةً ساقيها إلى أقصى السرير، فالتصقت بكامل واجهتها الأمامية بالفراش قبل أن تنقلب جانباً مستديرة بوجهها نحو المرآة المقابلة لركوعي، فوضعتني في محنة الكتفين الناحلين المحيطين بالفقرات المتموجة النازلة حتى منخفض الخاصرة الضامرة فمرتفع الربوتين العظيمتين، العليا الصاعدة حتى قمة كوني بتحدبها المهنَّدسْ في انحداره الذي لا يجيد صبه إلا الرب في أول صبه لحواء التي بتُ متيقناً منذُ تلك التجربة المعلقة خارج الزمن بأن الرب لحظة أعداد الملائكة طين حواء وتشكيله كان شديد الاضطراب، يغير رأيه في موضع هذي الكتلة أو تلك في اللحظة عدة مرات حتى أورث الناظر للجسد الأنثوي قلقه وحيرته التي عذبتني في وحدتي اليقظة السكرى في غرفة المصيف الوثيرة المعلقة على ربوة بسفحٍ بين سلسلتي كارا ومتين.

ـ فما سرك يا تكويناً مثل إبحار في فراغ.. مثل الرغبة في استعارها الخاطف؟!.

لم تكف عن التقلب على جمر الفجر الفضي. لم أكف عن التقلب في جحيم أوضاع تشكلها داخل إطار السرير بخلفيته الناصعة البياض.

أنهكني الصحو.. أنهكني السكر.. أنهكتني الرؤيا!.
مـــــدد.. يا إلهي.. مـدد.
مـدد.. يا.. حبيبي.. مـــدد.

كنتُ أصرخ في أعماقي طالباً مدد الغيب، ظللتُ أطلب المدد كي يدعني أمكث في فسحة اللحظة الموشكة على الانقضاء. نثرت أوراق آخر وردة على كتلتها الهادرة في بحر السرير، في فضة الفجر. أنهكتني تباريح السهر، فتراجعتُ مخذولاً إلى زاوية الغرفة المجاورة لدرفة النافذة.. تراجعت مثل من يخسر أخر معركةٍ. تراجعتُ حاشراً ظهري في ضيق الزاوية الحادة مستنجداً من قيامة الجسد الذي شرع يطوف على حافة الصحو. كنتُ في وضع لا يحتمل قيامة الغافي. هو الذي شواني في غفوته السادرة.. كيف به عند القيام؟! احتمال استيقاظها دفعني إلى مساحة رعب من المواجهة، فأمعنتُ في حشر جسدي بالزاوية وكأنني تائه وجسده الصحراء.. أين الواحة في وهج الجسد المشتعل في صمت النوم والغياب.. أين الواحة في هذا الجسد المتشكل في موج الفجر وحافة الاستيقاظ. أين الواحة في هجير الفراغ الدوار الذي عبث بكياني في ليلة دونها كل لياليَّ حتى الممات!؟! أين الواحة؟! يا جسدا يضيع الدنيا ويدوخ الكون؟! أين؟!.
كدت أصرخ!. متسائلاً:
ـ هل هي في حلمٍ.. أم أنها موشكة على اليقظة لترى انسحاقي بالزاوية البعيدة عن السرير؟!.

أفردت ذراعيها. حركت أطراف أناملها. رمشت عيناها فاهتزت الأجفان الطويلة.. ستصحو يا مريدي.. ستصحو عشتاري العراقية.. ستقوم من روح الصلصال الصلد الطيع المتلوي المتكور المنبسط في وهاده الشاسعة.. ستقوم.. هاهي تضع راحتيها على وجهها.
ـ أين أذهب بروحي البائدة تحت سطوة تجليها طوال الليل؟!.

خرقة هشة خرَّ جسدي أسفل ركن الغرفة، في الزاوية المحصورة بين سطوع الفجر وسطوع عريها المضمخ بعطره المسكر ورائحة الفجر والبخور والحرمل وبقايا رائحة أصابع الشمع. خرقة تجود بنفسها في رمضاء جسدٍ لا رواء منه.

أين المفر من قيام جحيم فردوسها القادم؟! أين الواحة من هجير صحوتها؟!
ـ ماذا سأكون حينما تنهض؟!.
ـ ماذا سأكون؟!.
ـ مدد.. يا صاحب الشأن.. مـدد!!.
ـ مدد.. يا حبيبي.. مدد!!.

وانفجرت في نشيجٍ خافتٍ رائياً بوضوح استحالة احتواء كيان المحبوب الذي كنتُ أظنه صار واقعاً حال سفرنا ونجاح أرادتنا  بمواجهة تقاليد مجتمعٍ معادٍ للحب. وجدتني إزاء تحققها الفيزيقي الطاغي الجاذب في حضورها بالمطعم قبيل السكر.. في غفوتها المدمرة والتي لن تخلص من سطوة تجسدها الليلي في ليالي الصد والهجران إلا في السكر حد السقوط في نومٍ يشبه الموت أو في التسلل في عمق الليل والهيام بين الحقول حتى تباشير الضوء. وجدتُ حالي مضغوطاً.. أنوء.. أنوء من كتمان النشيج إلى أن صرختُ مستنجداً:

             يا مُعينَ الضنّى عَلَى جَسدي            
             يا مُعين الضّنا عَلَيَهِ أعِني.

ومن بين غلالة الدمع رأيتها تنهض من رقدتها، وتتلبث هنيهة في جلستها على حافة السرير، محملقة بعينين زادتهما الدهشة سحراً نحو انطوائي الموجوع، قبل أن تنهض وتُقبل صوبي بعريها اللاهث المضطرب:

ـ أش بيك عيني.. أش بيك يا بعد روحي؟!.
ـ.. !.

ضمتني إلى صدرها العاري، فَأخْفَتَ ضوعها الفريد نشيجي. جعلت أصبُّ الدمع بصمتٍ، فيسيح على قبة النهدين الملتصقين بأنفي:

ـ ماذا جرى بعد ذلك؟!.
لا أدري.. فقد دخلتُ عالماً أخر  لن أجد له مثيلاً إلا في حضورها وحضنها في الصحو والسكر، في الخصام والصلح، في الحضور والغياب. 


2003 الدنمارك  من مجموعة (أخي الزنجي) المعدة للطبع

كاتب عراقي مقيم في الدنمارك