ملكوت الفنان

أحمد الحلي

كمثل كل الارتحالات الخرافية الخلاقة , التي تبتغي تحقيق ما لم يكن في الامكان تحقيقه في عالم اليقظة ذي الأبعاد المحددة ، يتحتم علينا أن نهيئ لعدة غير عادية ، وزادا معرفيا استثنائيا لكي نحظى بالتالي بالبطاقة التي ستخولنا الدخول إلى ملكوت الفنان العراقي  بشير مهدي. أنه يأخذنا من أماكننا، يؤرجح ذواتنا إلى درجة الاهتزاز الفيزيقي المطلوب لكي نحلق معه بعيدا عن كل ما يكدر صفو اللحظة المشتهاة. انه ينشئ عالما من الألوان والتداخل حيث يكون للضوء وانعكاساته المبهرة الدور الأساسي في صنع التراكيب التكوينية لمكان محدد هو في الأعم الأغلب غرفة ذات سقف عال من الطراز القوطي تطل من علوها على ما تحتها من أماكن أخرى ضمن تشكيلة المدينة مثلا انه بالتالي ينشئ عالما ربما فيه للفذلكة الفوتوغرافية البارعة مكان، إنما هو عالم صميمي ينبض بالقوة وبكل ما يختلج في بواطن الذات الواعية من أسئلة وترنيمات. هكذا هي مساحات الفنان بشير مهدي اللونية تقودنا عبر موشورها الحياتي المتقن لتعيد لنا تشكيل حلمنا.. إنها توحد رؤانا وتسير بها قدما نحو إيقاعها المتجدد.

 وعبر هذا المنطق، تحتاج محاولات الدخول في عوالم - بشير مهدي - المبهجة حقا إلى حشد هائل من الحفريات المعرفية والى الإلمام الوافي بالأساطير القروسطية وفروسيات شعراء التربادور هارموني دقيق استطاع فيه الموازنة بين كل معطيات العصر القوطي ومعطيات العصور اللاحقة ولا سيما عصرنا الراهن بما يمور فيه من فلسفات متضاربة وإيحاءات رؤيوية أفرزتها الكشوفات الفكرية والعلمية ولاسيما في مجالي الفن والتحليل النفسي. يساورنا الإحساس عبر تأملنا للمنجز الفني للفنان بشير مهدي إننا والزخرف والمنمنمات والأطر المعمارية والموسيقى، الشعر، ناهيك عن الإمساك بخيط دقيق من روح الشرق الذي منه انطلق إبداع هذا الفنان.

انه يرتحل بنا عبر ممكنات عصرنا إلى لحظته الزمنية المنتقاة بعناية فائقة، انه الهاجس ذاته الذي قاد شاعرا يونانيا كبيرا كالشاعر كافافيس ( 186-1933 ) لأن يرتحل عبر صوره الشعرية الموحية إلى لحظة زمنية بعينها من عصر غابر كالعصر الإغريقي أو الروماني ومحاولة استنطاق هذه اللحظة بكل ما تحمله من وقائع ودقائق مع فارق أن ارتحالات كافافيس تنسلخ كلية عن عصر الشاعر، أي أن الشاعر هنا قد قام بعملية تحييد تامة لكل معطيات عصره، فيما نرى الفنان بشير مهدي عبر مخاضاته وتجلياته قد قام بتشييد معماره الفني الباذخ المستند إلى إيقاع بإزاء مفارقة مقصودة، فأيا من هذه اللوحات خالية من الوجود البشري ويكاد هذا الخلو أن يؤسس كيانه للكائن - الإنسان - الرجل أو المرأة او الاثنين معا. أن ثمة حضوراً طاغياً يطفح به المكان لكائن قد غادر للتو أو هو في سبيله لأشغال المكان .أن تنوع أساليب الفنان في التعبير عما يختلج فينا من أسئلة وقدرته على اختزال وترميز اعقد إشكالات الحياة وطرحها من منظور آخر فيه ما فيه من انسجام تكويني قد حقق نقلة نوعية لمدى ما يمكن أن يصل إليه وعينا الباطن من منعطفات مجهولة. هكذا وبمثل هذه البراعة في التكوين وفي العمل الفلسفي وتجسيد الظلال والأمكنة وعبر كل هذا الزخم من الأساطير المدهشة والحكايات، بكل هذه السطوح الممغنطة بالكبرياء والقوة ، وبتباريح الهموم الكبرى يصنع لنا الفنان - بشير مهدي - مشاهده المتقنة .عبر نظرة إلى ما يقوم بتأسيسه وإرساله من قيم جمالية ومفردات، وما يحاول بثه فينا عبر تقنياته الذكية يتضح لنا انه يؤكد المرة تلو الأخرى أن تحليق الإنسان لم يعد حلما. فها هو ذا يزودنا بالأجنحة السرية التي لا تبهظنا كثيرا مثلما تفعل الأساليب التقنية لعصرنا الراهن.

ثمة دلالات فرعية لبعض المفردات تسترعي الانتباه أيضا قام بتوظيفها الفنان بشير مهدي في أعماله مثل تضمين الأعمال للوحات عالمية مشهورة ذات حسية واضحة. ومثل تمثال رأس الفنان بشير مهدي نفسه الذي يبدو بوضع الشاهد الحيادي لما يجري، أو كالأقنعة سواء ما كان منها معلقا على الحائط أو ملقى على الفراش، وفي لوحة ملفتة للنظر نشاهد على الحائط تجسيدا لآدم وحواء بعد أن حل بهما سخط الرب حيث يبدو آدم وقد وضع يده على وجهه الذي بان فيه الانكسار والخزي فيما تبدو حواء وهي تضع القناع على وجهها تسير إلى جانبه برأس مرفوع وكأنها تحاول إخفاء فرحها بما آلت إليه الأمور