عبد الرحيم مودن: المثقف المتعدد

محمد أقضاض

 لقد تركنا الصديق الأستاذ عبد الرحيم مودن، دون أن نودعه. حاولنا مواساته وهو طريح الفراش، أردنا أن نزوره، وحين بحثنا عنه وجدناه قد طار إلى الغربة..

عرفناه منذ شبابه مربيا للأجيال خلال ممارسته للتعليم، وعرفناه بدراساته وإبداعاته. أستاذ أكاديمي لم يتبجح بأستاذيته أبدا..

ورغم أنه كان عارفا بطبيعة وسرعة فتك مرضه، إلا أنه تشبث بالحياة إلى آخر رمق، ليس لأنه يريد أن يحيا من أجل أن يعيش كأيها الناس وإنما أراد أن يتمم مشاريعه الإبداعية والفكرية. إذ كان الأطفال والفتيان ينتظرون كتاباته القصصية المخصصة لهم، وهي تتميز بأسلوب جميل جذاب، وبمضمون حكائي يجمع بين الغرابة والأسطرة والواقعية، وبين تحرير الكتابة والالتزام بها، لم يكن يكتب فقط من أجل المتعة العاطفية، فكتاباته للصغار تنطوي، بأسلوب غير مباشر، على أهم القيم التربوية، منها حب الوطن، حب الغير، التعاون، الاجتهاد وحب العمل.. يتشرب الصغار هذه القيم بشكل ضمني وفي لغة جذابة جدا. في هذا المجال تميز الأستاذ المرحوم عبد الرحيم كثيرا.. بإصداراته لمجاميع قصص للأطفال والفتيان: من مثل "مغامرات ابن بطوطة للفتيان"، "السمكة والأميرال"...

وهو مبدع للكبار أيضا، فقد أصدر في القصة القصيرة مجموعات "اللعنة والكلمات الزرقاء"، و"أزهار الصمت"، و"حذاء بثلاث أرجل"، ومع الأستاذ إدريس الصغير أصدر مجموعة "تلك قصة أخرى"... ومسرحيات: "مدينة النصوص" كتاب يضم خمسة نصوص مسرحية...

 وفي كتاباته الإبداعية يصدر عن معرفة نظرية دقيقة، فالنص القصصي، مثلا، لديه هو ثمرة لقراءاته النقدية المتنوعة والمتعددة، ونتيجة لتجربة ذاتية بمعاناته لوعي ممكن حاد، وغوصه في أنسجة جسد المجتمع... لذلك تكون قصصه نسيجا محكما وأصيلا.

فقد كان يعرف أن القارئ المغربي والعربي على العموم، مازال متعطشا إلى كتاباته القصصية، بأسلوبها الشفاف في إيحائه، وبعمقها الاجتماعي والفكري، وبقدرتها على تشظية المادة الحكائية وإعادة نسجها وبمسحتها الساخرة من مظاهر الرداءة في المجتمع..

ومن المشاريع التي كان يفكر فيها، وربما قد بدأ الاشتغال عليها فلم يمهله العدم، دراسة القصة المغربية المعاصرة، انطلاقا من السبعينيات من القرن الماضي.. ودراساته في هذا المجال تحتفي كثيرا بالدقة والعمق، سواء في النبش التاريخي أو في استيفاء تعريف المصطلح، فضلا عن منهجه الأكاديمي الذي يتوخى الوضوح ونشر المعرفة..  ويعد ضمن تلك القلة القليلة جدا من النقاد المغاربة الذين أفردوا بحوثا أكاديمية وكتبا كاملة لدراسة القصة المغربية، فله كتاب ضخم حول الشكل القصصي في جزأين، "الشكل القصص في القصة المغربية" ومعجم "مصطلحات القصة المغربية"... وقد أغنى الأستاذ عبد الرحيم مودن، في هدوء وصمت، المكتبة العربية بدراساته العميقة والمتنوعة لفن الرحلة، فأصدر، ثمرة لذلك، "رحلة ابن بطوطة الجديدة"، "أدبية الرحلة"، "الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر"..

في دراساته للرحلة وللقصة المغربية تميز الأستاذ مودن بقدرته الفريدة على تزويد قارئه بأدوات قراءة كتبه، فهو يقف بتمعن خاص عند المفاهيم الرئيسة، سواء كانت تلك المفاهيم كبرى كما هو الشأن مع مفهوم الرحلة وتطوره ومفهوم الشكل في دراسته للقصة المغربية، أو كانت مفاهيم إجرائية من مثل طبيعة أساليب الرحلة وأدبيتها، أو مفاهيم أنماط القصة وتقنياتها الخاصة، فيتلقى القارئ كتب مودن بارتياح..

والأستاذ مودن دائم الحضور في الصحافة المغربية والعربية، باحثا ومبدعا، ومشاركته في المنتديات الأدبية معروفة وكثيفة. وقد انتمى إلى اتحاد كتاب المغرب مبكرا، سنة 1976. هذا العطاء المتنوع والوازن والرزين والمتميز يؤهل الصديق عبد الرحيم أن يكون أحد رواد النقد المغربي والإبداع القصصي في المغرب، فهو يكتب وينشر بعيدا عن البحث عن مريدين يصفقون له في مناسبة وغير مناسبة، لو كان فعل لأصبح له شأن آخر في المشهد الثقافي، لكن يمنعه من ذلك تواضعه وأخلاقه ومبدئيته..

هكذا عرفته، لذلك أقدر أن الأستاذ عبد الرحيم مودن، ليس كاتبا مغربيا عاديا، يمكن أن يطويه النسيان بسرعة، وإنما هو كاتب حاضر بقوة في المشهد الثقافي، لا يمكن لإبداعه القصصي أن ينسى، ويستحيل أن تختفي دراساته الرائدة حول الرحلة. وغير ممكن أن تتوارى دراسته حول القصة المغربية... بل كل ذلك ينبهنا، بالضرورة، إلى أن هذا الكاتب الأصيل لابد أن نعتني بتراثه الثري..

 وقد عرفته قوي الإرادة مصرا على التحدي، لا يمكن لوعكة مهما كانت حادة أن تسقطه... عرفته كصديق وعرفته من شخصيات قصصه ومن شدة صبره وتحمله مع دراساته. أيضا عرفته من خلال تسكعه على صفحات الصحف والمجلات المغربية والعربية دارسا ومبدعا مساهما. كما عرفته حاضرا ومشاركا وفاعلا في التظاهرات الفكرية والندوات الأدبية والملتقيات القصصية، سواء في المغرب أو في بلدان عربية أخرى.

وعرفته في التنظيم الثقافي باتحاد كتاب المغرب منذ أواخر الثمانينيات. توطدت علاقتنا خلال أكثر من العقدين. عرفته باحثا صبورا، وقد اختار حقلا معرفيا شديد المراس لا يعطي ذاته لأي باحث... عرفته إنسانيا في علاقاته، مبدئيا في مواقفه، هادئا في حديثه، رزينا في تفكيره، تقدميا في رؤيته، متأملا في قراءاته، أصيلا في كلمته. رحمة الله عليه..

عرفت الصديق عبد الرحيم مودن، لأول مرة،  في إحدى الندوات بالدار البيضاء، ندوة كان محورها هو القصة القصيرة، وأثارني تدخله بعمق.. وعرفته في المجال السياسي مناضلا في حزب تقدمي ما.. عرفته مبدعا مجددا في القصة القصيرة، عرفته دارسا متعمقا ومنظرا عارفا.

وقد قرأت كتابه النقدي الأول خلال أواخر التسعينيات وكنت مبليا بالبحث عن المصطلح، وكان هذا الكتيب الجميل أداة مهمة لضبط مصطلحات القصة فوجدت فيه ما يلي، إذا حاولت تسجيل بعض انطباعاتي حوله، قلت:

1ـ كان الهدف من وضع ذلك المعجم هو ضبط إحصاء مصطلحات القصة وتقديمها واضحة للقراء واستقصاء أبعادها السردية والتاريخية المناسبة للمرحلة التي أنتجتها، لذلك ركز المعجم على المصطلح الذي وظفه القاصون أنفسُهم.

2ـ وقد استمد الباحث مادته ومفاهيمها من المتابعات النقدية للقصة القصيرة، وأساسا من الصحافة المغربية بمختلف توجهاتها ومن المجلات والنشرات الرسمية وغير الرسمية، مع التركيز على الدوريات الأدبية المتخصصة وعلى المجامع القصصية والنصوص الروائية. وهي مصادر ساهم كل حقل منها في تسمية المصطلح وترويجه.

3ـ أصبح المعجم وسيلة تأريخ أدبية يتتبع مسار جنس القصة. لذلك اتخذ التتبع في هذا المعجم منحى جدليا يتناول الهامشي والمركزي في جدليتهما مع السياق الثقافي والسوسيولوجي.

 4ـ يؤرخ الكتاب لتطور مصطلحات القصة المغربية منذ الأربعينيات إلى الثمانينيات من القرن الماضي. فقد رأى الباحث أن المتن القصصي المغربي، في هذا التاريخ الممتد، تناولته مقاربات نقدية شتى دون أن تقف عند مصطلحه المتداول.

 5ـ التأكيد على أن هذا المصطلح قد خضع، من خلال التجارب التي أنتجته، لتطور فرضته معايير جنس القصة نفسِه ومعايير المرحلة في اتجاه بلورة نص يلائم المرحلة اللاحقة.

6ـ وانطلاقا من تتبع المصطلحات في هذا المعجم والاشتغال المركز والكثيف عليه، انتهى الباحث إلى أن وضعية القصة المغربية في الأدب المغربي كانت تزامنية سينكرونية، وهي وضعية شكلت مانعا مهما لاستقرار المصطلح، بالإضافة إلى ظاهرة انقطاع الكتاب عن الكتابة وقلة الكتابات النقدية.

 7ـ وقد ارتكز المعجم على النصوص السردية الشائعة والنادرة أيضا، اعتمادا أولا، على الكم الذي يعني الحجم المتتبع لبنيات الكتابة القصصية، ليبقى الكم، هو المتحكم في التسمية المتداولة والمميِّزة لحجم قصة وأخرى. وثانيا، على المحتوى الذي يتضمن موضوع النص بما فيه من قضايا وأفكار تؤثر في بلورة المصطلح. ثم ثالثا، السرد الذي تطلب ضرورة قراءة النصوص لاستقصاء بنية السرد المساعدة على ضبط المصطلح.

 8ـ وقد اعتمد الباحث في منهجيته على الاهتمام بتاريخية المصطلح ودلالته الفنية إلى جانب العمل على مقاربة لغوية بما هي التوقف لتأمل الخصائص التي ميزت النصوص أثناء نقدها. مع تقديم المعادل الأجنبي للمصطلح العربي قصد إبراز خصوصية الكتابة القصصية المغربية...

9ـ ومن المصطلحات القصصية التي تناولها المعجم نذكر: قصة، قصة قصيرة، أقصوصة، أقصوصة صغيرة، أقصوصة رمزية، أقصوصة مغربية، قصة واقعية، قصة مغربية اجتماعية، قصة من صميم الحياة، قصة مغربية فكاهية، رواية تمثيلية، رواية تمثيلية شعرية، قصتان قصيرتان جدا، أسطورة من التراث الأمازيغي، خرافة، حالة قصصية، قصة وطنية، من قصص المقاومة، أقصوصتان في دقيقة، أقصوصة في دقيقة، فصل من رواية، رواية... الخ.

أريد هنا فقط الإشارة إلى طبيعة كتاب صغير جدا من دراسات هذا المبدع الدارس، اعتبرته نموذجا بسيطا في هذه العجالة... تمنيت لو تمكنت من أن أحيي العزيز عبد الرحيم في حياته، غير أن العدم اختطفه من بين أيدينا..

رحمة الله عليه.