رحلة الباحث عبدالرحيم مؤذن في ذاكرة جمال عبدالناصر

ذكرياتي معه{1} تحية جمال عبدالناصر

عبدالرحيم مؤدن

تختلف الذكريات عن المذكرات.في الأولى يتداخل القصدي بالعفوي، وفي الثانية يتحكم القصدي في العفوي، ترتيبا وتبويبا، ووسائل بلاغ وإبلاغ.

وفي الحالتين، فالتنظيم وارد في الذكريات، كما أن العفوية حاضرة في المذكرات، من خلال منسوب محدد قد ينتصر للعفوية في الذكريات، وللتنظيم في المذكرات.

وتظل الذكريات، وهي محمولة إلى الورق، أسيرة التداعيات المتحكمة في سيولة الأحداث، وفي انسيابها، في الدرجة الأولى، نحو مسار محدد، مما يكون سببا في منحها خصائص مميزة يمكن إجمالها في الآتي:

أ-تأليف المروي( المحكي) أي جعله أليفا، ولو كان في أعلى مراحل الألم والمعاناة.

ب-استقطار أكبر قدر من المتعة عن طريق تبئير اللحظات الزمنية الفاعلة سواء كانت لحظات متعة وإمتاع، أو لحظات لوعة والتياع.

ج- الذكريات وقود للمذكرات، مادتها الخام. ومن ثم، فهي عناوين فرعية منضوية تحت العنوان الرئيس، مجسدة في لحظة تذكر تشتغل فيها الأحاسيس والتداعيات، من خلال تفاعلات الذاكرة والوجدان، لتأخذ، من خلال المذكرات، مساحة نصية، مؤطرة باليوم والشهر والسنة والمكان.

د-الذكريات وقود السيرة الذاتية والغيرية في آن واحد. فالذكريات ، في سياق السيرة المزدوحة، يتقاسمها الأفراد والجماعات مما!يسمح بتقديم مواقع الرؤية المتعددة.وهذا ماتسمح به السيرة،بنوعيها، عند تٯاول الذكرى من قبل مرسل-  متجه نحو متلق- سواء داخل النص أو خارجه- يستعد لكي يتحول: إلى مرسل بعد أن كان مرسلا إليه.ومن ثم يصبح المرسل والمرسل إليه، عبر استبدال المواقع، في وضع مشترك، يسمح لهما بتقاسم المتعة والإمتاع من جهة، والألم والتألم ، من جهة ثانية.

ه- قد لاتقتضي الذكريات خبرة تقنية في الكتابة، مادامت الذكريات "أرضا بكر"تأخذ ملامحا الخاصة والعامة من كاتبها المتجدد بتحدد التجربة.وبالمقابل تقتضي السيرة حدا أدنى من تقاليد الكتابة، بعد أن سمح التراكم النصي المنتشر في الزمان والمكانن بإمكانية التجنيس والتصنيف.

و- تركز الذكريات على "اليومي" المنتقى ، في سياق محدد. فالكتاب ،أعلاه، لايقدم سوى (ذكريات)، من بين  شريط الذكريات الذي قد يلامس الكثيرين، في حين تم الإقتصار على ما يخص هذه العلاقة الثنائية، في بعض جوانبها. ولو تم استعمال ياء النسبة  في العنوان أعلاه ،لانتقلت الذكريات  المتأرجحة بين الخاص والعام، إلى مجال خاص يقربها من الإعترافات، او ما شابه ذلك

الذكريات، إذن، يتقاسمها المتذكر مع الذات والآخر في آن واحد. ومن ثم تصبح الذكريات من نصيب الطرفين، خاصة أن محور الذكريات يدور حول شخص " يقسم جسمه في جسوم كثيرة".

ز- وبالرغم من اندماج المتذكر في ذكرياته، متحولا إلى كيان واحد عبر عنه – بالرغم من الطابع الإعلامي والإعلاني للعنوان- نحت اسم العلم  الذي تداخل فيه اسم المتذكر – بالكسر- باسم الغائب.( تحية جمال عبد الناصر).

ح- تقوم هذه الذكريات على خصائص الشفهي المشدود ، عادة، إلى الحكي العفوي.فالسرد، في هذا السياق، يهدف إلى إلإبلاغ، قبل البلاغ ، الذي لم يكن واردا لسببين أساسيين:

أ- لوضعية المرسل( تحية) التي لاتنتسب إلى ميدان الكتابة والكتاب. فهي ربة بيت، أو زوجة رجل حقق الكثير لشعبه وأمته.

ب-الرغبة في مقاومة  الفقدان- المحاولات المتعددة للكتابة في أوقات مختلفة- الذي قرب الحكي الشفهي من أسلب " التعديد" الذي لا يقتصر على مناقب الغائب، بل يستعرض، أيضا، اليومي البسيط للحياة المشتركة بين الطرفين ،والذي – اليومي- يأخذ أبعاده الإنسانية عند انتقالخ من المستوى المادي البسيط إلى المستوى الرمزي العميق، من الزقاق والحارة... إلى الفضاء الشاسع، إلى العالم الفسيح.

ذكريات" تحية جمال عبدالناصر".

ولما كانت الذكريات – كما سبقت الإشارة- عضا بالنواجذ على لممتع, وتأليفا- بنوع من التسامي- للمؤلم ، فإن النص أعلاه يقدم لنا مسارا حياتيا محددا تأرجح بين أقنومي المتعة  والألم، القوة والضعف، النشوة واللوعة،القدرة والعجز.وتتحدد محطات هذا المسار الحياتي في:

1- افتتاح الذكريات بالذكرى ذاتها، ذكرى الرحيل- الذكرى الثالثة لرحيل جمال عبد الناصر في 24 شتنبر 1973-  التي انتقلت – الذكرى- من المرسل "تحية" إلى المرسل إليه مفردا وجمعا. فوظيفة الذكريات، كما سبق القول، تأليف الممتع المؤلم ،في الوقت ذاته، كما هو الشأن في الوضع الحالي. فالمتذكر، في هذا السياق(متعألم) ،على غرار( متشائل )إميل حبيبي، يعيش متعة الذكرى وقسوتها في آن واحد.ولعل ذلك هو الذي فرض على المرسل الإنطلاق من النهاية عوض البداية بهدف – والذكرى ما زالت طازجة-الحفاظ على طراوة الذكرى المتجذرة في القلوب (بعد رحيل  الرئيس ألاقي تكريما معنويا كبيرا من كل المواطنين الأعزاء، فجمال عبد الناصر في قلوبهم....وعندما أخرج أرى عيون الناس حولي... منهم من يلوح بيده تحية، ومنهم من ينظر لي بحزن، وأرى الوفاء والتقدير في نظراتهم. كم أنا شاكرة لهم...إني أرى هذه  التحية لجمال عبدالناصر..وكل ما  ألاقيه من تقدير فهو له) ص.9.

هكذا يحل(المتعألم)  في الذكرى، وهذه " الحلولية" تمنح المريد قبسا من إشعاع الشيخ، خاصة أن المريد لم يتردد في كتابة الذكرى، أثناء حياة الشيخ، مرات عديدة، دون أن يحالفه الصواب.فالذكريات وظيفتها البعث والإحياء، من جهة، والإمتداد في الأتباع والمريدين ، من جهة ثانية.

وشرعية الشيخ تترسخ، بعد الموت،من خلال علامات دالة( ضريح/ أسماء أماكن مثل المساجد والشوارع الرئيسية والبنية الرمزية..). في مقطع دال للروائي ، والقاص " بهاء طاهر"، يخاطب السارد سائق الطاكسي، عند مروره بضريح جمال عبد الناصر، بقوله:

2-بداية مساسل الذكريات بالخطبة ، ثم الزواج. محطة عادية ماعدا السطر الأخير الذي يكشف، بطريقة غير مباشرة ، عن زاوية من شخصية الرئيس، عندما تذكر هذا الأخير-لاحقا- شروط شقيق " تحية"  خلال طلبه ليدها.(.. فقال الرئيس لأولاده وهو يضحك:الوحيد في العالم الذي أملى علي شروطا وقبلتها هو عبدالحميد كاظم.. وضحكنا كلنا).ص.12.

وطوال مسيرة جمال عبدالناصر، برزت هذه الخصيصة في شخصيته ، بالرغم من التضحيات الغالية التي دفعها طوال هذا المشوار.

3-منزل الزوجية البسيط الذي غلب عليه، فضلا عن البساطة، التنظيم، والجد( التحضير لامتحان القبول في كلية أركان الحرب). والهواية الوحيدة للرئيس الذهاب إلى السنيما.

/4- التحضير لامتحان القبول في كلية أركان الحرب: وهو يمارس التدريس في الكلية الحربية، كان يحضر، في الوقت ذاتهن لامتحان القبول في كلية اركان الحرب. إنه السلوك العصامي لأبناء الفقراء، والطبقات المتوسطة،لإثبات الذات. وتعكس هذه الصفحات، من ناحية اخرى، بعض الصفات للرئيس مثل عدم حبه للإختلاط ، بين زواره من الضباط وزوجاتهم، والإعتماد على الذات في حياته اليومية..

5-الإلحاح على  خصيصة التواضع في شخصية الرئيس.فبالرغم من انتسابه إلى سلك الضباط، فإن ذلك لم يدفعه إلى استغلال الجنود البسطاء- وهم أولاد الفلاحين المعدمين- في الأشغال المنزلية والحاجيات الشخصية، واعتبر هذه الأعمال( امتهانا لكرامة  وعزة الجندي) ص.18.

6- ولادة "هدى": تزامنت ولادة هدى( 12 يناير1946)  مع دخول "جمال عبدالناصر" كلية أركان الحرب.وقلت ساعات التحضير التي كانت تستمر إلى الصباح،وبالمقابل ازداد حضور الضيوف، في كل الأوقات، من الضباط بصفة خاصة.ومع ذلك كان ، يجد بعض الوقت لمداعبة "هدى"( ويحملها ويدخلها للضيوف لدقائق) ص.21.

وتكرر خروج "جمال عبدالناصر"، ليلا، إلى ساعات متأخرة مرات عديدة.وظهرت قطع من السلاح- المسدسات خاصة- التي لم تثر أي شك لدى "تحية" بحكم انتساب الزوج ‘لسلك الضباط. تلك كانت التحضيرات الأولية لاجتماعات الضباط الأحرار، دون أن يصل إلى علمها شئ.

7- بالرغم من الإنشغالات  العديدة ل"جمال عبدالناصر" ،فإن جوانبه الإنسانية  تبرزفي الشدائد، مثل مرض أحد أفراد العائلة، أو اعتلال صحة الأطفال. أثناء مرض شقيق "تحية" بالسل المعدي، لم يتردد " جمال" في زيارته والبقاء بجانبه، في أوقات متباعدة، في حين كان الأقارب يسألون عن المريض من باب الحجرة.(إنه شئ غير إنساني) ص.22. كما كرر "جمال" مرات عديدة.

في هذه المرحلة ولدت" منى" البنت الثانية، بعد "هدى".

8- استمرار اللقاءات والإجتماعات بالمنزل، وتزايدت قطع السلاح، خاصة المسدسات، التي خضعت للصيانة والعناية.

9- فلسطين: تزامن تخرج "جمال عبدالناصر" من كلية أركان الحرب، مع ذهابه إلى " فلسطين"(16ماي1948).وانتابت الزوجة أحاسيس الوحدة والخوف التي لم يخفف منها وصول الرسائل المختصرة، أو المكالمات الهاتفية الشحيحة.

في   عطلة قصيرة لم تتجاوز ثلاثة أيام، اكتشفت الزوجة جرحا حديثا، في صدره ، جهة اليسار، كان نتيجة شظية من رصاصة اخترقت الصدر( وأراني القطعة وقال: سأحتفظ بها والملابس المخضبة بالدماء..)ص.27.

10- حصار الفالوجة:  وصل عدد   رسائل " جمال"إلى زوجته، من فلسطبن، 46رسالة دون أن يشير في إحداها إلى حصار الفالوجة الذي لم يصل إلى علمها إلا عن طريق جارتها وهي تحمل إليها مجلة " المصور" بصورها عن  حصار جمال ، رفقة عدد من الضباط، في الفالوجة.

كانت هذه المرحلة من أصعب المراحل التي مرت به الزوجة، بالرغم من الرسائل المتواترة التي كان ( يشعرني فيها بأنه في أمان وأنه سيحضر قريبا..)ص31.

 وستتعود الزوجة على غياب الزوج في أوقات متباعدة، تخللتها  عطل قصيرة وترتيبات جديدة(تغيير السكن)، وتداخلت، في الوقت ذاته،فيها القضية الفلسطينية بشكوك النظام (استجواب إبراهيم عبد الهادي لعبد االناصر بعد حصار الفالوجة)،والتنقلات العديدة بين العريش والإسماعيلية، بالهواجس الشخصية للزوجة حول الأسلحة التي كانت  تخفيها(بين الملابس في الدولاب.. في الشتاء أخفيها بين ملابسه الرسمية الصيفية، وفي الصيف أخفيها بين ملابسه الشتوية)ص. 35. ومع ذلك، لم تكن تعرف ما دلالة هذه الأسلحة المتزايد عددها بالمنزل، والمتنوعة ، بشكل غريب( ومنها الحجم الكبير أي المدافع التي لايمكن وضعها في دولاب.. فكنت أضعها  في ركن في حجرة السفرة ولا تبقى طويلا... يوم أو يومان وتختفي وأستريح ثم يصلنا غيرها).ص.45.

وستكتشف الزوجة، تدريجيا، أن ما يحيط به من حركة واجتماعات متواصلة وأسلحة مختلفة، وزيارات متعددة وآلة كاتبة مريبة..أقول ستكتشف أن الأمر جلل ، ومثير للحيرة و الإضطراب إلى أن كشف السر، يوما الزوج أمام زوجته.(قال لي جمال: إن الأسلحة التي أراها  في البيت تنقل للسويس و الأماكن التي فيها إنجليز، ليقتل منهم ، ويشعروا بالقلق، وبأنهم في بلدنا غير آمنين على حياتهم.)ص.48.

وفي مرحلة لاحقة سيكشف لها عن سر آخر تجسد في  مرافقته للذاهبين إلى هناك،  دون أن يلقي بالا لرجاء الزوجة الخائفة من عواقب هذا العمل الخطير الذي لم يخفف من حدته سوى ماكان يتمتع به الزوج من رباطة جأش وإصرار، وما كانت تتمتع به ،أيضا، الزوجة من عفوية  ونفس مرحة لاتتردد في الضحك خلال أحلك اللحظات ، وأصعب المواقف.

11- ولادة عبدالحميد: في 29 أكتوبر1951، ولد أصغر أبناء " عبدالناصر" عبد الحميد الذي سيلتحق بمدرسة الضباط البحرية لاحقا، في خضم انشغالات الزوج المهنية، وما وراءها من مسلكيات غريبة  تساءلت حول دلالاتها الزوجة( اجتماعات متواصلة/ خروجه الدائم بالملابس الرسمية  وسلاحه لايغادره/ سيل الزوار الذي لايتوقف.) لكنها ما لبثت أن جرفها اليومي  القاهر من تربية ومتابعة لدروس المدرسة، وحرص على تلبية مطالب المنزل المتعددة، إلى أن يحل المساء الذي لايمنعها من الشعور براحة وسعادة( وأنا جالسة على الكنبة في الصالة أو على الفوتيه في حجرة المكتب أقرأ أو أستمع للراديو.. وربما غلبني النعاس فأقوم وأنام).صز55.

26 يناير 1952 تاريخ لاينسى

في هذا اليوم احترقت القاهرة بفعل فاعل.  أخبرت الزوجة بالخبر من طرف الزوج دون زيادة أو نقصان. ولأول مرة بلغ سمعها –عن طريق الإذاعة والجرائد- خبر منع التجول بعد السادسة مساء( وأن من يمشي في الشارع يضرب بالرصاص).ص.55.

وبموازاة ذلك ،  كان منزل عبدالناصر مثل خلية نحل تنغل باللقاءات والإجتماعات المتواصلة. وبين الفينة والأخرى، يخبر الزوج زوجته بالمستجد مثل اغتيال أحد الضباط،وهي تتساءل- بنظراتها القلقة- عن سر حمله للمسدس ( إما إنه يخشى أن يطلق عليه أحد الصاص..وإما هو سيطلق  الرصاص على أحد، وفي كلتا الحالتين مصيبة، واستمررت في البكاء. وكانت أول مرة أشعر بخطورة ما يحيط بي وأقلق وأحمل هما).ص56

12- قبيل الثورة: ارتفع إيقاع الإجتماعات، وتزايد عدد الزوار،من الجنود واضباط، وأصبح وجود "عبدالناصر" في البيت نادرا،  دون أن يمنعه ذلك من السؤال عن الأولاد ،واختلاس ، خلال العطل القصيرة، لحظات من الزمن للإهتمام بالأسرة ( الإحتفال الرمزي بعيد زواجهما الثامن)، والترويح عنها بعيدا عن حر القاهرة.

 كانت الإسكندرية هي المتنفس الوحيد الذي لم يسلم ، بدوره، من الإجتماعات اليومية ، من خلال جدول زمني دقيق حافظ عليه عبدالناصر، ليل نهار، في لقاءاته العديدة واجتماعاته المتواصلة بالضباط  إلى حدود الفجر.

13-ليلة  الثورة:لم ينم "جمال" طوال  ليلتي الحادي والعشرين  والثاني والعشرين من شهر يوليوز 1952.

وعندما بدأ "عبدالناصر"، في ارتداء بذلته العسكرية، ليلة الثالث والعشرين من الشهرذاته، تساءلت الزوجة- ولأول مرة- المسكينة باستغراب عند دواعي الخروج باللباس العسكري في هذا الوقت بالذات.ولم يتأخر رد "جمال" الذي قال بهدوء:(... منذ يومين وأنا أشتغل هنا،والضابط الذي يجلس معي ونشتغل سويا قال لي نسهر الليلة في بيته نكمل تصحيح الأوراق...انتظريني غدا وقت الغذاء.. وحياني، وقبل خروجه من الحجرة قال لي: لاتخرجي.. الصالة الآن يوجد فيها ضابط ينتظرني.. وأغلق الحجرة بعد خروجه منها)ص.65.

ظلت الزوجة أسيرة هواجس كثيرة،  تداخلت فيهاأحاسيس الخوف من تعرض الزوج للإعتقال ، أو الإغتيال. وعندما تصاعد صوت طلقات الرصاص الصادرة  عن قصر الملك، ازدادت حدة الشكوك، وصورة زوجها لاتفارقها، دون أن تتوقف عن البكاء.

 كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وأصوات آمرة تتخللها هدير الدبابات والعربات المصفحة، وتحركاتةالجيش، وآليات أخرى تغير طريقها، بعد أن أقفل الشارع، ( وترجع من الشوارع الداخلية في كوبري القبة، ومنهم من كان يمر من الشارع الذي يقع يمين البيت المقابل لبيتنا)ص.67.

وبالرغم من معرفة الزوجة المتأخرة بحقيقة  الأحداث، ونجاح الإنقلاب العسكري ضد الملك، وبطانته الفاسدة، فإن همها الأول والأخير كان السؤال عن" جمال" دون أن يغمض لها جفن، دون أن تتوقف عن البكاء ( جالسة حتى الصباح .لم أدخل حجرة النوم.)ص.67.

أذيع بيان الثورة في الساعة السابعة والثلث من صبيحة يوم 23يوليو1952.ولم يحضر" جمال" إلى منزله إلا في الساعة العاشرة مساء ، من اليوم ذاته، ليظل به ما يقرب من الساعتين، عائدا إلى القياد.

خلال هذه الفترة الوجيزة تحدث " جمال" عن اقتحامه للقيادة( بفرقة من الجيش ومعي عبد الحكيم عامر، ولم يصب إلا اثنان من الجنود... واحد من حرس القيادة، وواحد من الفرقة التي معنا...واستسلم كل الموجودين في القيادة....لقد أرسل الملك مبعوثا من قبله وأملينا عليه تغيرات وشروطا، وكل ما طلبناه منه وافق عليه فورا).ص.69.

14- الأيام الأولى لنجاح الثورة:  بين الزوج والقائد، توزعت " توزعت تلك الأيام الأولى من حياة الزوجة و" حياة" الثورة أيضا. بين البيت القديم( كوبري القبة)، والبيت الجديد ب( منشية البكري)، جمال المسؤول عن أسرة، وجمال المسؤول عن ثورة،الرجل البسيط( رفض القصور/ المصيف المتواضع/ شراؤه لسيارة صغيرة من حر ماله..) والرجل الخاضع لبنية جديدة في التسيير والتدبير والعلاقات الإجتماعية الطارئة،بين المرأة العادية، والمرأة كشخصية عامة( قواعد البروتوكول/  تعلم اللغات الأجنبية/ السفر إلى الخارج/ اللقاءات الرسمية...) بين  علاقات الجوار والصداقات الموسمية المصلحية، بين هدوء  البيت العائلي ، بذكرياته الأليفة، وصخب المكالمات التي لا تنتهي  والإجتماعات التي لاتتوقف، بين اللغة العفوية  واللغة المسكوكة للوزراء ومسؤولي الدولة، بين إخفاء آلام الجسم وإيقاع الوضع الجديد المتسارع الذي لايرحم، بين صراع الإخوة الأعداء (المؤامرة  المنسوبة إلى محمد نجيب نجيب وسلاح الفرسان) والمشاريع الجديدة للثورة ( تنظيم دواليب الدولة/ إصدار  جريدة الجمهورية الناطقة باسم الثورة، وما تطلب ذلك من جهد ومعاناة. بين محاولة الإغتيال( صيف 1954، بالإسكندرية) والمفاوضات المستمرة مع الإنجليز، بين مؤتمر باندونغ(1955)، واستقبال الحلفاء الجدد ( تيتو...)، ومتابعة تحولات الوضع الداخلي المتسارعة.

15- تأميم الشركة العالمية لقناة السويس: في مساء 26 يوليوز، أعلن الرئيس "جمال عبدالناصر"- بميدان المنشية-  عن أخطر قرارات الثورة- محليا وعالميا- الذي تجسد في ( قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس).ص.88. كان قرارا مفاجئا للجميع، بما فيه أقرب الناس إليه. وستبدأ مرحلة جديدة، يكشر فيها الإستعمار العالمي عن أ نيابه.

16- العدوان الثلاثي: بدأ العدوان الثلاثي الفرنسي/ الإنجليزي/ الإسرائيلي على مصر في الحادي والثلاثين من أكتوبر 1956.واضطرت الأسرة الصغيرة إلى إخلاء المنزل،  بعد أن توالت الغارات ، وانتشرت  طائرات المغيرين في سماء القاهرة ، وغيرها من مدن مصر" بورسعيد..وغيرها من مدن القنال..). ولم يمنع ذلك الرئيس، والشعب المصري، من الإستمرار في المقاومة، إلى أن توقف القتال ، لتعود الأسرة إلى المنزل( منشية البكري) بعد غيابها القسري طوال خمسة أيام.

17- الوحدة والإنفصال: حرص الرئيس" عبد الناصر" – كل سنة-على الإحتفال بعيد الوحدة،مع "سوريا( الجمهورية العربية المتحدة). و كان يمكث هناك أكثر من شهر،دون أن ترافقه الزوجة ، مفضلا بقاءها مع الأبناء.

وفي  الثامن والعشرين من شتنبر1961، سيحدث الإنفصال إثر انقلاب عسكري مفاجئ. ولعل هذا الحدث من بين الأحداث التي أثرت في الرئيس تأثيرا شديدا، فضلا عن عدم حماس الزوجة للوحدة لاعتبارات أسرية، وذاتية، لاعلاقة لها، من قريب أو بعيد، بالسياسة (لأنه اولا زاد عمله لأقصى حد، وفي آخر سنة1958  مرض بالسكر، وكنت أقول في نفسي أنه أصيب بالمرض من كثرة الشغل.. با لإضافة إلى ذلك سفره وقت عيد الوحدة).ص.105. ولعل ذلك هو الذي دفع بالرئيس، بعد مرور سنة على الإنفصال، من مخاطبة " عبد الحكبم عامر"، مشيرا إلي زوجنه ب( أنها انفصالية، ولم تكن تعجبها الوحدة.. وضحكا.) ص.106.

18- لم تستطع صورة الرئيس إخفاء صورة "جمال" الإنسان الذي تشرب بالقيم النبيلة منذ طفولته.  فهو الحريص ، دائما ، على أبنائه، تعليما وصحة ومتعة بسيطة واعتمادا على الذات. وهو الذي يشرك أبناءه في هوايته الأثيرة التصوير بالكاميرا، ومشاهدة الأفلام السينمائية، والآستماع إلى أم كلثوم، ولعبة الشطرنج. كان حريصا على ترشيد أموال الدولة. فالمشاركة في المؤتمرات ، دون مرافقته، يؤكد على( أنه لايريد الترف والبدخ ، وهو إنكار للذات)ص.108.

ولم يتردد في إرجاع الهدايا  الصادرة عن الأثرياء العرب، وغيرهم، من رجال الأعمال ، مرددا على مسامع الجميع ( لم أقم بالثورة من أجل مال وحلي ومجوهرات، وفي إمكاني أن أصدر قرارا غدا بمضاعفة مرتبي مرات، لكن ليس هذا ما قمت  بالثورة من أجله) ص.108. لم يكن يقبل هدية ما إلا من رئيس دولة، مفضلا (أن تكون رمزية) ص.108. هدايا كثيرة  من ملوك ورؤساء، عرب خاصة، شملت طائرات وجياد ومراكب...( كلها سلمها للدولة. ولم يترك، بعد رحيله، إلا عربة الأوستن السوداء....كذلك أهدي بعدد من الساعات من الملوك العرب أهداها لضباط، وكان يقول لي:إنهم من الضباط الذبن خرجوا معي يوم 23يوليوز.)ص.108. ولم يقتصر الأمر عليه، بل كان لايتردد في إرجاع الهدايا الموجهة لأفراد عائلته لمناسبة أو لأخرى.(زواج هدى..).   

19- عدوان 5 يونيو 1967: ركزت الذكريات على خطاب التنحي يوم 9يونيو 1967. فالعدوان له ملابساته التي لاتفقه فيه االزوجة إلا القليل. فالأهم في هذه اللحظات  العصيبة استرجاع الرجل الذي لم يغادره  الحزن ، وهو يعلن عن تحمله لمسؤولية الهزيمة، وقرار الحاسم  بالرجوع إلى صفوف الجماهير ، جنديا كما كان، وكما سيظل.

 لم تتغير صورة الأبناء عن أبيهم الذي ظل بطلا بالرغم من أنف الجميع. وبالرغم من فداحة الهول، فإن  ذلك لم يمنعه من لملمة الجراح عن طريق العمل باستمرار(...واثناء الليل كنت في أي وقت ، وبعد أن ينام أسمع جرس التلفون ويكون من القيادة. والقائد يطلبه في أي وقت  وهو يطلبهم ويعطي أوامر وتوجيهات، وتكون عمليات  عسكرية مرتبة وينتظر معرفة النتيجة، ومنها ما كان لاينفذ حسب تعليماته وتوجيهاته، وتحدث أغلاط فكان ينفعل.. وهذا أثناء الليل وأنا بجانبه وأرى على وجهه الضيق.)ص115.

هاهو "البطل الدرامي" يصارع في جبهات عديدة: جبهة القتال مع العدو الإسرائيلي،وبناء القوات المسلحة، وجبهة  القتال ضد الرجعية العربية التي وجدت في الهزبمة فرصتها في تصفية الحساب مع الرئيس (الأحلاف القديمة والجديدة/ بترول الخليج/ مذبحة الفلسطينيين في الأردن..)، وجبهة الجسد- كعب أخيل- المصارع  لأنواع الألم في الساق،والنوبات القلبية المتتابعة، فضلا عن مضاعفات مرض السكر، وانقطاعه عن التدخين..دون أن يتوقف عن العمل بالرغم من كونه أصبح غير قادر على الإنتقال بين الطابق الأول والطابق الثاني إلا بواسطة المصعد الذي  جهز به البيت ، من قبل الزوجة،  وهو آخر من يعلم.

 20- اللحظات الأخيرة: آخر اللحظات لم تتجاوز الثواني القليلة، بعد أن عاد الرئيس من آخر مؤتمر قمة عربي مودعا هذه المرة، وداعا لارجعة فيه المؤتمرين العرب.. لم تستطع الزوجة الإبتعاد عن حجرة مكتب الرئيس الذي كان يتناهى إليها صوته الواهن، تتخلله نشرة أخبار إذاعة لندن.. ولما توالى حضور الدكاترة ، الواحد تلو الآخر، لم تستطع المقاومة (.. فدخلت عنده ووجدت الأطباء بجانبه يحاولون علاجه.وكنت أبكي وخرجت حتى لايراني الرئيس وأنا أبكي... وكل واحد يدخل الحجرة ولايخرج منها.. وكنت أبكي..)ص135.

 طوال هذا العمر الطويل القصير،لهذه العلاقة بين " تحية" و"جمال"، لم تستهو الزوجة المنصب المادي،أ و الرمزي، للرئيس،ولم تنقد لإغراءات السلطة متحولة-كما فعلت الكثيرات- إلى آمرة أو ناهية ، في خضم التحولات التي شهدتها البلاد وطنيا وقوميا وعالميا. كانت مكتفية بذاتها، من حيث كونها زوجة الرئيس، وما تفرضه هذه العلاقة من حقوق وواجبات.

تستمر الذكريات، عبر  ملحق الصور، الذي قربها من المتلقي ، من  زاوية الحضور والغياب. الحضور تشخصه صور قامة سامقة لم" تخفض إلا لباريها الجبينا". وبرزت شامخة في لحظات الهزيمة والإنتصار. الجسد منحوت من  جلمود الوادي  الذي انبجست منه سواعد  من صم ،وكواهل من صوان  تسامقت سدا عاليا، سال سلسبيلا في الترع والحقول وأفواه الرضع.

أما الغياب، فهو لم يكن إلا وجها ثانيا للحضور. فالصور، عادة، تستحضر الفقدان الذي يتحول إلى ركح وشخوص ووقائع، في اللحظة التي لايمكن تكرارها. كل صورة تحكي لحظة طازجة من حياة تزداد غنى كلما فتحنا "الألبوم"المنفتح بدوره على حوار كان، أو كان من الممكن أن يكون.. حوار أقرب إلى الهسيس. ولذلك، كنت ارى في الرئيس بعضا من صورة الأب الذي لم يكن يماثله في ابتسامته الدائمة، فنادرا ما كان أبي يبتسم، بل كان يبتسم كثيرا ، لكنه كان يغلف ابتسامته  بكاتم الصوت، خاصة بعد أن أصر على وضع صورته ، في الصالة، مقابل صورتي محمد الخامس ، يمينا، وصورة جمال عبدالناصر، يسارا، فوجب الإحترام، وغض البصر، حفظا للمراتب، والعين لاتعلو على الحاجب. الغياب، كان حضورا، ساخرا من استعمار لم يستطع منع ابتسامة " عبد الناصر" ،وهو يجتاح منزلنا الصغير، في خمسينيات القرن الماضي،بعد أن أخفى أبي صورة " الرئيس" ، دون أنت تختفي ابتسامته العريضة تحت بلاط سوي على عجل ،لكنه  كان وفيا للبيت وأهله.

كانت صورة الجنازة قد خرجت من رحم النيل الذي كان يحرسها بعين لاتنام.. والنيل من أنهار الجنة الستة. فهو ينبع من الماء قبل أن ينبع من الصخرا.ا. كذلك الرئيس  الذي لم يغادره النيل،  الذي أصر ،بدوره، على الرفقة الدائمة . فالنيل  لايعرف ‘إلا الشهادة والإستشهاد./.

 

هوامش

1-      تحية جمال عبد الناصر:ذكريات معه.دار الشروق.ط. 1. 2011