حول الثقافة الرقمية

عبدالرحيم مؤدن

يداية لابد من التأكيد على كون الثقافة الرقمية –بالمغنى ىالواسع- قد أصبحت ضرورة لامفر منها. ف"العولمة"- الصيغة المؤدبة لتحولات الإستعمار أو الهيمنة العالمية- الزاحفة على الحرث والنسل لا‘ ولن تنتظر أحدا. وعلى هذا الأساس  ‘ فاستعمال أساليب وطرائق هذه الثقافة يصبح فرض عين. فنحن لسنا في جزيرة معزولة ّ‘بل إننا جزء من هذا الأرخبيل المتناثر جزره  هنا وهناك‘ والمشكل لهذا الكوكب المسمى بالأرض.

على أية حال‘ فالرقمنة نمارسها اليوم بطريقة أو بأخرى.غير أن هذه الممارسة بين "عالمنا" وبين "عالمهم" يوضح الحقائق التالية:

1.الرقمنة في العالم المتقدم نتيجة منطقية لتطور موضوعي للمجتمع  في مختلف مجالاته المادية  والرمزية.وفي عالمنا  لم تعد  أن تكون هذه الممارسة تطبيقا للمثل الشائع" مرغم أخاك لايطل"‘أولا‘ ولشروط التبعية ‘ ثانيا‘ ول" الحداثوية"- وليس الحداثة- الشكلية ثالثا.

2.الرقمنة في العالم المتقدم بحث عن مزيد من الإبداع والتطور والجمال والحرية والمتعة إلى غير ذلك من المكتسبات. أما بالنسبة لعالمنا ‘فالرقمنة ‘بالرغم من أهميتها‘تصبح في عالمنا أداة لاهتبال الفرص‘ وكسب المواقع‘ واحتكار منابع ا لثروة.

3.الر قمنة في عالمهم لاتنفصل عن الحراك الإجتماعي المتجه نحو الإنسان ‘ إن لم يكن جزءا منها‘في حين تم إسقاط الرقمنة‘ في عالمنا أنزلت بالمظلات والمناطيد‘بالرغم من وجود بؤر الحراك الإجتماعي المجهضة لسبب أو لآخر.ومن ثم أصبحت  الرقمنةأداة لتركيز التخلف عوض التقدم. والأمر يشبه ‘ إلى حد بعيد‘ مرحلة إدخال المطبعة إلى المغرب أثناء القرن19.وعوض أن تكون المطبعة أداة تغيير‘ أصبحت أداة لتكريس  التخلف ‘ والفساد ‘بالمعنى الواسع‘ بعد أن اصطدمت  بالمجتمع المحافظ و النخبة المخزنية الجامدة التي كرست المطبعة  لطبع الحواشي وحواشي الحواشي ‘ عوض الإنفتاح على ما كان يمور به القرن19.من صناعة وتنوير وتحديث رأت

 فيه " النخبة الجامدة' مجرد منتوح " عقل ظلماني"ٍ[ رحلة الطاهر الفاسي إلى أنجلترا في القرن19.]وإذا كانت "النخبة" الحالية قدنادت ب"الحداثة والتحديث‘ فإن ذلك يظل حبيس الطابع الإستهلاكي ‘أداة وإنتاجا‘عوض أن يكون إبداعا وتطويرا للإنسان وحاجياته.

هذا على المستوى العام.أما على المستوى الإبداعي ‘خاصة‘ والثقافي عامة‘فإن أهم الملاحظات يمكن إبرازها كالتالي:

أ-ما زلنا ‘ لحد الآن‘ في مرحلة الإستهلاك دون الإنتاج.وللأمر مبرراته سواء تعلق ذلك بالزمن القصير الذي تم فيه استنبات العولمة‘ أو تعلق – من ناحية أخرى- بطبيعة المجتمع ذاتها الذي ما زال يترسم خطواته الأولى ‘ إلى الآن‘في هذا الميدان. يضا ف إلى ذلك طبيعة العلاقة  مع الجانب التقني المحض المجسد في الأعطاب المتكررة‘ والإنقاطاعات المتواصلة‘وبطء الإرسال‘ والإعتماد الكلى على الأجنبي.. كل ذلك يلعب دورا أساسيا فى ترسيخ الإستهلاك قبل الإبداع

ب-يجب الإعتراف‘أيضا‘ أن معظم مثقفينا وأدبائنا لم ينخرطوا‘ بعد‘ في هذه الممارسة الجديدة. والأمر قد يتعلق بأسباب ذاتية فضلا عن الأسباب الموضوعية.فالعلاقة مع النص علاقة جسدية ‘ ومرجعية مغظم كتابنا مرجعية ورقية تعكس تاريخا من القداسة والتقديس للحرف والكتابة. وبالإضافة إلى هذا وذاك‘فالكتابة على الورق مناهضة للنمطية التي تنتجها " الكتابة الرقمية" ذات الصيغة المتشا بهة.هذا الموقف " النفسي"-إذا صح التعبير- لايرفض الممارسة الرقمية ‘ بل على العكس من ذلك‘ هو في جوهره  لايرفض الإنتشار والتواصل ‘عبر القارات الخمس‘وبأسرع الوسائل‘بل إنه يرفض " التعليب"والإستنساخ ‘ فضلا عن تحويل " الممارسة الرقمية" إلى غاية ‘ عوض أن تظل وسيلة.

ج- والنقاش الذي يجب أن يفتح ‘ في هذا السياق‘ هو ما يتعلق بمحتوى ما تقدمه الثقافة الرقمية ‘ عوض الحديث عن أساليبها التي لايختلف حولها اثنان.ومع ذلك فهناك العديد من التجارب التي قدمها الكتاب المغاربة  ‘ في هذا السياق‘ تعكس نوعا من الوعي بالأداة والوظيفة.

3. غير أن ذلك لايمنع من التأكيد على ما أنجزته الثقافة الرقمية من مكاسب أهمها الحس النقدي – سلبا وإيجابا- والإنتشار الواسع‘ وكشف المسكوت عنه‘ و" ديمقراطية" المعرفة...الخ. وبقدرما ساهمت هذه الثقافة الرقمية في نشر نصوص جيدة‘ إبداعيا ومعرفيا‘ بقدر ما كانت سببا في خلق حالات عديدة من الخلط والضبابية المتمثلة في الآتي:

أ- تحول الساحة الثقافية إلى ميدان لنشر الغث والسمين.

ب- تحول بعض مستعملي هذه الوسائط إلى سلط لاتكتفي با لترويج من جهة‘ والنقد والتفسير من جهة ثانية‘ بل تمارس نوعا من تصفية الحسابات ا لصغيرة والمصالح الضيقة.

ج-عجز هذا المنتوج عن التحول إلى منتوج ثقافي يمتلك خصائصه الفكرية والجمالية الدالة على مرحلة تاريخية‘ وخصائص جمالية ‘  وهوية أجناسية. فالأسئلة  المتدتولة حاليا‘ تدور كيفية النشرووسائله‘ عوض أن تدور حول محتوى المنشور ودلالاته في التاريخ والمجتمع والوجدان. طبعا الإستثناءات موجودة ‘ في كل الأحوال‘ لكن السائد هو " الإنتماء التقني" دون مساءلة هذه " الترسانة" التقنية في علاقتها بمجتمع معين بكل محمولاته المادية والرمزية. هاهي صورة أخرى من صور " العصرية"‘أو التحديث الشكلى‘وبالمقابل صور "المعاصرة"أوروح الحداثة‘ وجوهرها العقلاني‘  وما بينهما من خلط وتضارب منذ القرن 19. إلى الآن يعكس الوضع المضطرب لهذه الثقافة.