الرحلة الباريسية

عبدالرحيم مؤدن

 

1-باريس/الوشم

في كل رحلة لابد من دليل.و"باريس" تحتاج إلى أكثر من دليل يتجاوز الكتاب والنشرة والوصلة الإشهارية، والدراسة الأكاديمية وعلامات التشوير والتفسير والتبرير.. يتجاوز كل ذلك ليتوقف عند الرحالة ذاته. ف"باريس" ليست عقلا محضا، وليست- من ناحية أخرى قلبا أو عاطفة، محضة. "باريس" هي كل ذلك وهي ليست كذلك.

والمرتحل، بين أحشائها، لاينقاد للمرئي المباشر، بل يصبح أسير  ما قيل عن   "باريس"، قولا وكتابة، فضلا عن المرسوم والمغنى والمنحوت. فمنذ ان خرجت "باريس" من رحم " السين"- وباريس هبة السين- وهي لا تكف عن التشكل في أوضاع مختلفة، وأشكال متعددة تضافر فيها الماء والحجر والدم .. والحلم.

2-حيرة الدليل

وإذا كان الدليل الباريسي، حاليا، قد أصبح متعدد الألسن، بلغات عديدة، وبصيغ - من ناحية أخرى-   مختلفة، فإن ذلك لايمنع من اللجوء إلى الأهل والعشيرة التي تصبح عمدة المرتحل في غربته، ولو كانت هذه الأخيرة سياحة، والسياحة طريق من طرق الإرتحال، والطريق طريقان: طريق المكان وطريق الزمان، طريق  الرحالة وطريق المرتحل إليه.وبدأت في تصفح الدليل الذي بين يدي، وقرأت:

فى صبيحة ذلك اليوم، من أيام 1860، وقف " إدريس  العمراوي" على إحدى ربوات "باريس"، يقلب البصر في أرجاء هذه الأرض المعمورة.( فأينما التفت وقع بصرك على مدينة أو قرية. أما البيوت فلا تحصى.) [التحفة.ص.50]

3-كل شئ في باريس

أخرجت مذكرة الجيب،وكتبت بقلم الرصاص:

العالم، يومذاك، عند  الرحالة،لا يتجاوز "دار الإسلام"،  وعاصمته القسطنطينية.

وتابعت القراءة:

( التي هي إسطنبول حرسها الله وعمرها بدوام ذكره)  [التحفة.57]

أخرجت القلم من جديد:

ولم تكن تلك الوقفة نابعة من لحظة زمنية محددة، بل كان  منبعها زمن الديمومة الذي يتعارض وزمن الأعراض الزائلة.ومن المؤكد أن الفقيه العمراوي قد استنجد في هذه اللحظات الحرجة،  بما نظمه  معاصره "الجعايدي"، فنزل ذلك على قلبه بردا وسلاما، فردد بهمس:

أباريس إن كانت على الأرض جنة&     فأنت هي المأوى  على رغم حاسد

فما تشتهيه النفس من كل رائق&             كثير بها لكنه غير خالد

4-طريق باريس

وفي الهامش كتبت التعليق التالي:  لماذا ابن خلدون دون غيره؟ لعله يجيب عن توقعات كتاب وفقهاء المرحلة، ببداية النهاية.ألم يشتعل قلب" الصفار" [ نارا لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن ترتيبهم ووضعهم كل شئ في محله مع ضعف الإسلام وانحلال أمر أهله، فما أحزمهم وما أشد استعدادهم].؟هل أصبح ابن خلدون طوق الإنقاذ؟ شماعة لتعليق العجز والفشل التاريخي في تلك المرحلة الملتبسة؟هروبا الى الأمام؟

تركت القلم جانبا، وتابعت  قراءة [التحفة]:

أصلحت من وضع برنوسي فوق كتفي، دون نسيان مسد لحيتي المضخمة بعنبر لايوجد إلا بين حنايا دروب "فاس".  وجاءت الرائحة بنسائم - وأناب "باريس"،  " القاهرة" و"فاس".(وقد رأيت في مصر القاهرة، وسلكت أكثر طرقها، ونظرت إليها من مكان عال في وسطها يستوعب النظر منه جلها فقدرت أنها أكبر من مدينة فاس بأربع مرات. وأظن أن  هذه أكبر من مصر بثلاث مرات، فتأتى على هذا أنها أكبر من فاس باثنتي عشر مرة). [م.م.ص57.

5-لكل منا "باريسه"

لايهم إذا كان نهر" الرول"- يقصد  نهر الرون- أكبر من وادي " سبو"، وإذا افتقدنا حديقة الحيوان، فكتاب" الدميري"  عن الحيوان،  يكفينا شر ذلك، و بين دفتيه  مايعجز  عن ذكره اللسان من الحيوان الأعجم، وأشجار الزيتون الممتدة، أمام  ناظري، تعادل شجرة واحدة من أشجار زيتوننا الذي سارت بذكره الركبان.شجرة واحدة تعادل أشجار العالم. و  حضرت، في هذه الأثناء، قولة شيخنا " الصفار":)( وأرض فرنسا ليست أخصب كلا كأرض المغرب).

أخرجت المذكرة، بعد أن وشمت الصفحة، بعلامة مميزة، وطويت الرحلة، وكتبت:

 هكذا ينتقل، في الرحلة، المكان – الموصوف،

topos

 من وضع المرئي المباشر(صور باريس)، إلى وضع آخر، تستحضره الذاكرة، من خلال وعى جمعي، متحولا ‘في الوقت ذاته- على حد تعبير إدوارد سعيد- إلى( طقم من الإشارات، كتلة من الخصائص...)[الإستشراق.ص.،191.).وتحولت المرئيات الأوروبية، لدى الرحالة المغاربة، في هذه الفترة، إلى رؤية محددة ترى في الذات كل شئ، وفي الآخر بعضا من هذا الشئ.

6- الماء والنار

بين الداخل والخارج، حضرت "باريس" المنفلتة من بين الأصابع،   وملمسها الناعم لايغادر الكفين.هي كل المفارقات  المتعارضة حينا، والمنسجمة حينا آخر.هي الحلال والحرام – بلاد الجن والملائكة  عند طه حسين لاحقا-

هي ( جنة النساء وجهنم الخيل) [العمراوي.ص،93).هي الملاك والشيطان،صحراء الروح، وواحة الجسد،هي بلاد الحق والمواطنة الفاعلة(.. لايطمع أحد منهم في غير ماهو له ولا يخاف على ما فيها أن ينزع منه، فعلى ذلك يبذلون مهجهم في المعارك ويلقون أنفسهم في المهالك)[ رحلة الصفار].وهي بلاد السطوة والجبروت الذي يخفي، بين طياته،بذور فنائه.

هاهو ابن خلدون يطل برأسهن من جديد.سارعت إلى التقاط رحلة العمراوي، وفتحتها على صفحة محددة،  وكأنها كانت  تنتظر كشف الغمة عن هذه الأمة.  

7-النور والظلام

قال العمراوي:( أنه ما بلغ شئ الغاية إلا ورجع، ولانال منتهى الصعود إلا اتضع، فإنهم يقولون اليوم من أشد منا قوة، ونسوا مهلك ثمود وعاد،وإرم ذات العماد. ولم يعلموا أن سطوة الله بالمرصاد، وأن أمره إذا نزل بقوم فما له من دافع ولا صاد)[الرحلة،ص.86.].

وضعت  الرحلة عن يميني، دون أن يغادرني السؤال التالي:

هل  توصل العمراوي بخبر من "أخبار السلك"- التلغراف- من صديقه'"الطاهر الفاسي" الذي  ودعه بميناء" طنجة" متجها نحو أنجلترا، بعد أن كلف- العمراوي- بمهمة دبلوماسية" بفرنسا". ؟؟العمراوي يعرف جيدا أن كل المستحدثات، عند الطاهر الفاسي، بدعة، وأن العقل ينقسم إلى( عقل ظلماني وعقل نوراني. فالظلماني به يدركون الأشياء الظلمانية، ويزيدهم ذلك توغلا في كفرهم، والنوراني به يدرك المؤمن المسائل المعنوية).

8-المفارقة المنسجمة

أخرجت المذكرة، ووضعت عنوانا بالبنط العريض، في وسط الصفحة، وكتبت:...........باريس.....

 هي العقل والسذاجة في آن واحد.  في المستوى الأول، لم يجد الرحالة أمامه  سوى التعجب بهذه الصرخات المتتابعة( فما أحزمهم وما أشد استعدادهم، وأضبط مواقيتهم).( رحلة الصفار).وفي المستوى الثاني، لم يتردد في فضح،  بحياد بارد، ما يروج في الساحة الباريسية(وقد أخبرنا ترجمان كان معنا أنه سمع امرأتين منهم تتحدثان في شأننا،فسألتها عما يأكل هؤلاء الناس، وهل أكلهم مثل أكلنا فأجابهما رجل كان يسمعهما بأنهم يأكلون الآدمي، وأن سلطاننا يهدي لهم في كل يوم امرأة يأكلونها فتعجبنا).[العمراوي,ص.140]. هي بلاد النظافة المتناهية، إلى الحد الذي لم يعثر فيه " الجعايدي"إلا على ذبابة واحدة  تختلف عن أنواع الذباب( في حانوت جزار، ما أنظفها، ما أظرفها)، وهي في الوقت ذاته بلاد الخطيئة في المعتقد الذى لو اطلعت على( سيرتهم وقوانينهم لتعجبت   منها   غاية العجب مع كفرهم وانمحاء نور الإيمان من قلوبهم، وما رأى كمن سمع)[الصفار.]

توقفت،هنيه، ورجعت إلى العنوان، وأضفت إلى باريس الجملة التالية: المفارقة المنسجمة، وتابعت الكتابة:

9-هو الذي رأى

لامس الرحالة المغربي، خاصة  في بعض نماذجه المضيئة( الطاهر الأودي/ الغسال..)

طبيعة أوروبا الجديدة، التي أصبحت تتحارب (بجحافل  العلماء والحكماء والمخترعين، وليس بجحافل الجيوش).ووقف الرحالة، عامة، مندهشا أمام العامل و" الفابريكات" ومصانع السلاح، وتخطيطات المدن،والكهرباء ووسائل الإتصال،والمتاحف والحدائق التي اعتبرها مضيعة للثروة والوقت من قبل زوار يوم الأحد(.. وهم يقصدون  هذا المحل ذلك اليوم لأنه يوم بطالة مع عدم إعجابنا بشئ مما رأينا من ذلك  لأن الماء ببلادنا أكثر، واللعب به إنما هو المزاح الذي لاطائل  تحته. فكان عندنا ذلك اليوم يوم تعب، ومثله لايوم فرجة، وندمنا على مساعدتهم في الذهاب إليه)[الرحلة.]

رأى الرحالة    كل شئ، دون أن يرى.فالمعرفة المتناسلة أمام بصر كان أسير غشاوة الظلمة،لن تنتج إلا الخبل الذي جاهده الرحالة بوسائل محدودة،من أعماق قمقم أحكم إغلاقه من قبل أكف مقبوضة لاتنبسط إلا عند الإضطرار.

ولم يخفف عني هذا الغبن سوى تصفح دلائل  الأقربين من العشيرة، مشرقا، فوجدتها عند"فرانسيس مراش"[عروسة لجميع المدن المسكونة]،و عند" المويلحي"[المدينة الفاضلة]، وعند"أحمد شوقي"[ مدينة النور]، وعند" الطهطاوي"(من أعمر مدائن الدنيا،ومن أعظم مدائن الآفرنج).

استخرت الله، وقررت الارتحال...ولكن؟طردت ما جال بخاطري، بعد أن تساءلت عن البداية التي تعد لحظة حاسمة في كل رحلة...فما بالك ب"باريس" التي لابداية لها ولانهاية أيضا...فكل نهاية من نهاياتها بداية، صفحة من صفحات الماضي، أو الحاضر.

ووراء كل زاوية من زواياها، أو ركن من أركانها تاريخ ومحكيات. وما زال باقي الوشم  تحمله الجدران وبلاطات الأرصفة، وجذوع الأشجار المعمرة،وغرغرة "السين" الهامسة.

10-   الصفة والموصوف

تطلق لقL ENTRECOTE "الضلعية" على مدينة"باريس".طبعا،هناك أسماء عديدة عرفتها "باريس"، دون أن يمنع ذلك من تميز الصفة، المشار اليها، أعلاه، ما دامت "لضلعية" تحفظ كل ماهو جميل وثمين ورهيف... ومبدعو هذه التسمية هم الجزارون الذين يعتبرون الجزارة فنا قبل أن تكون حرفة تتوارثها الأسر، وتشتهر بها الضيعات والحقول  والقرى المميزة.وتعد هذه الفئة الاجتماعية- اليوم- سلطة مؤثرة في مختلف  في مختلف الأحداث التي شهدتها "باريس".فلم يتردد هؤلاء، في اصدار بيان شديد اللهجة- تناقلته وسائل الاعلام- يرفضون فيه نعت القدافي ب" جزار ليبيا". فالجزارة مهنة نبيلة لايمارسها الجلادون.

.والوصف لايقف عند وجه الشبه الذي يجمع ما بين  الضلعية، من جهة، وبين خارطة باريس،من جهة ثانية، بل يتعدى الأمر دلالة الوضع الجغرافي نحو أبعاد أخرى ليست بعيدة عن  تقاليد الطعام التي اشتهرت بها فرنسا عامة وباريس خاصة. والطعام ب" باريس"  نوعان: طعام الجسد وطعام الروح.

11-طعام الطالبين

في المستوى الأول نجد أفانين وتنويعات لاحصر لها.وفي ذلك تنافس الطباخون والكتاب والموسوعيون ومطاعم المدن،والقرى، والأسواق العصرية والشعبية، وأكلات الصباح والمساء وما بينهما من غذاء وجلسات  الشرب والمطارحة  وما تخلل ذلك من أحاديث وأخبار ومرويات.الطعام، عند الفرنسيين، ثقافة بالمعنى " الأنثربولوجي". فإلى الآن  ما زال الفرنسيون- وأهل باريس خاصة- يعتبرون، على سبيل المثال لاالحصر،  عمل الخبازين صناعة وفنا في آن واحد. وارتفاع ثمنه لا يعود إلى نوعه، وهو أمر وارد، بل يعود، أيضا، إلى تقديس الفرنسيين لتقاليد العمل اليدوي، والجهد المبذول في صناعة  هذا المنتوج المتوارث من قبل الأسر، بأسمائها الشهيرة.لاغرابة إذا احتقل الفرنسيون ب" عيد الخبز"- وكان ذلك    أمام كنيسة نوتردام الشهيرة- ببساطة آسرة، تمازج فيها أصوات أناس بسطاء، بأصوات " الأكورديون"- وهو من أيقونات باريس- و نداءات  الخبازين تنثال عليك من كل الجهات،  بأسماء الخبز، وأنواعه، ولاتتردد الأيدي الملفوفة في القفازات الشفافة في تقديم  بعض قطع الخبز المغرية بلونها ورائحته .

الطعام ثقافة متكاملة، يمتزج فيها المادي بالرمزي إلى الحد  الذي لاتتردد فيه  المخازن الشهيرة، في إصدار النشرات الخاصة المعلنة عن الأنواع الشهيرة، والمخازن العتيقة، فضلا عن التذكير بالثراء الكمي والكيفي لهذه الأنواع.(تصل أنواع الجبن- مثلا- الى أربعمائة نوع).

أما بالنسبة لطعام الروح فلعلك ترضى.وليس من المبالغة في شئ أن تكون"باريس" جنة للناظرين والزائرين، مما دفع بشيخ أزهري وقور – مصطفى عبد الرازق- الى القول:

( هي عاصمة  الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس.وهل غير باريس للحور والولدان والجنات والنيران والصراط والميزان،والفجار والصالحين، والملائكة والشياطين؟

12-الزمن الأليف

في باريس عليك باستعمال الحواس الخمس، بل الست، دون أن تكون كافية  في تغطية ما يجب رؤيته وما لاتجب رؤيته، ايضا، مادام المرئي قد يتجاوز البصر والبصيرة.فالرؤية بهذه المدينة تتحول إلى رؤيا تحيل   إلى نص شهير، أو لقطة سينيمائية محفورة، في  الوجدان. لاوجود للوحدة في قاموس"باريس"،فلن    تترك لك الفرصة  هذه الأخيرة لكي تحس هذه الأحاسيس وأنت ب"باريس".قال الشيخ  مصطفى عبدالرازق، مرة أخرى، إنك( قد تجد للوحدة  استيحاشا حتى في مسقط رأسك، وبين قومك، أما باريس فلا وحشة فيها،لأن المعاني والذكريات والآمال والماضي والحاضر كلها في باريس كائنات متحركة تنهض بجانبك.). في كل خطوة تخطوها ب"باريس"، تجني القليل أو الكثير من هذا الطعام الذي ينتشر في كل الزوايا والأركان، في الإنسان والحيوان، في النبات والبنيان.

13- باريس: سر من لم ير

" باريس"، إذن"طبقات من النصوص التي خطها كل من مر بها، بل إنها طرس من طروس الذين مرت بخيالاتهم، أو سمعوا عنها لسبب او لآخر، كما سمع الحاج" بلعيد"  عن معرضها الدولي الشهير الذي ما زال يقام إلى اليوم ب"باب فرساي".ومن ثم  لم يتردد في  توصيفه، وهو الذي لم  تطأه قدماه، بعد أن  بلغته  عجائبه، وترددت أصداؤه على كل لسان. [ سوق عام مقّورن  ليغا تّبناون غ باريز/مقارتيد ؤرنكّي  لخبارنّس لاّن دارنغ].( قصيدة أمودون باريس).

وهذا الطرس ملك لكل الذين مروا من هنا، من "باريس". هكذا خرجت "باريس" من رحم التجربة الإنسانية بحروبها وحضاراتها وشعوبها وألوانها ولغاتها وتقاليدها.. فضاء  منفتح- مدا وجزرا- على كل    الممارسات  الإنسانية عبر الحقب والقرون، بعد أن دمغها المكان بروائحه، ووسمها بسماته.

14-مترو" العروق

يشبه أحد الكتاب الفرنسيين مداخل " الميترو" بالشرايين المقطوعة النازفة.، السابق ذكر.وهذه  الصورة البليغة ل"باريس" تلخص حركية "باريس" اليومية، في مختلف الأوقات، ليل نهار،والفصول والمواسم.

 الشرايين المقطوعة، عادة، لايتوقف نزيفها.والفارق الجوهري بين شرايين  الكائن الحي، وبين شرايين باريس استمرار دم هذه الأخيرة في التدفق ليل نهار بعد أن  يسيح هذا الدم في شرايين أخرى امتدت إلى القطار والترام والحافلة، وأخيراـ وليس آخرا- النهر السين  -وهو الشريان لأكبر- الذي ما زال يرعى باريس، اقتصاديا وسياحيا،الى اليوم.لاغرابة- اذا كانت "باريس" هبة السين. وفي رحلة الفقيد" محمد باهي" تفاصيل كثيرة عن "السين" وأدواره.(انظر:عبدالرحيم مؤذن: الرحلة البهية الى باريس السرية.دارالتوحيدي2010.). السين، اذن، ذاكرة"باريس"، العراقة والحداثة، الماضي والحاضر،الشيخ واليافع...ومن ثم، أصبح النهر بمثابة الشريان الأكبر الذي ازدادت- وتزداد- به "باريس" شبابا وجمالا،

  بعد أن توزعت على ضفتيه مشاريع عديدة، وازدانت قناطره بزهور " الجيرانيوم"، لحمراء خاصة، لتي  لاتخلو منها بلكونات ونوافذ البارسيين  في  معظم أرجاء باريس.

15-باريس وأخواتها

ولا نحصر  حركية "باريس"  في الأماكن الشهيرة، والساحات الذائعة الصيت بمآثرها وعجائبها التي سارت على كل لسان(ساحة الباستيل/ قوس النصر/ ساحة الجمهورية....) بل تصبح هذه الحركية،في مختلف المجالات، من نصيب  الفضاء الباريسي  الذي يتميز بنوع من التوازن بين حاجيات الإنسان  وبين طبيعة المكان، مختلف مكوناته الإنسانية والطبيعية وأرصدته المادية والرمزية.فمشاريع التمدين الذي خضعت لها "باريس"  منذ "هوسمان"_ من مهندسي نابليون الثالث في القر19-إلى الآن،  راعت  جانب التكامل – من جهة- بين مختلف الأنشطة المادية والإنسانية- وجانب – من جهة ثانية- الإكتفاء الذاتي للمكان ذاته.  هكذا تعايشت مختلف الممارسات التجارية والدينية والترفيهية والإدارية والإجتماعية عبر جنبات هذا الفضاء الذي اكتفى بذاته في مختلف المستويات،دون غياب لمسات الجمال التي لاغنى عنها في الحياة اليومية، سواء تعلق الأمر بالعمران،المنسجم هندسة ولونا وموقعا،أوتعلق الأمر،

- من جهة أخرى- بما يتخلله من حديقة ومطعم وكنيسة وحانة ومكتبة ومصالح إدارية متعددة.ومن ثم اكتفى ساكن وهذه الفضاءات بفضائهم  دون  الذهاب نحو( المركز) الذي لم يعد أمرا مستساغا في تجارب التمدين الحديثة، التي جعلت من كل الأمكنة مراكز مكتفية بذاتها، ومن كل  الفضاءات  محاور تنموية ذات خصوصية- وهو عنصر تنموي أيضا- مميزة.

16-المكان الثابت

ومن الطبيعي أن تأخذ حركية المكان القليل، أوالكثير من الكتلة السكانية الثابتة( سكان باريس) أو المتحركة( السياح / الزوار / الوافدون)، وما يرافق ذلك من ممارسات ومسلكيات ومعجم  وتواصل بين الداخل والخارج، بين قيم الساكنة وبين القيم الوافدة. فالفرق شاسع بين منطقة(  سان جرمان دي بري) وبين منطقة( سان دونيس/ ستراسبورغ). في الأولى   تلمس،وأنت تقترب من الساحة التي تحمل الإسم ذاته، عن قرب  نوعية العمران الذي قامت دعائمه على الإبهار والإثارة، منسحبة على البناء، ونوعية المعروضات، بأثمنتها الغريبة، فضلا عن المتاحف......

 ومحلات الديكور،والمكتبات لعديدة (مكتبة الجغرافيين القدامى والمحدثين، والمعاصرين، فضلا عن الرحالين).  وتنتشر المقاهي العريقة  على طول امتداد الشارع الأنيق مثل  مقهى الفلور الذي زاره الساسة والفنانون والفلاسفة( تروتسكي وشون آن لاي وبرودون و"بوف،"فضلا عن كامي وسارتر وجولييت جريكو وجاك بريفير...)  ورابط به بعض فلاسفةالقرن الماضي مثل سارتر)، ومقهى " ليب" الذي اختطف منه الشهيد بنبركة، وأشجار البلاتان الباسقة بظلاله المدغدغة.،السوق المركزي الحامل للإسم ذاته الذي لايختلف عن المعارض الفنية  في تقديمه للبضائع المختلفة، بطرق بديعة جمعت بين المتعة والفائدة، بين الزوايا الحميمية (المقاهي الأليفة) وغيرها من الأماكن الملائمة لكل الأذواق.

17-المكان المتحرك

أما بالنسبة للمنطقة لثانية، فالفضاء خاضع للتعدد السكاني واللغوي والإثني، بحكم  الكثافة السكانية المرتبطةبالوافدين الذين استوطنوا المكان من أتراك وعرب وأفارقة. ولعل هذا ما يفسر انتشار المقاهي والحانات وحوانيت بيع التبغ واليانصيب والمطاعم  بمأكولاتها الحريفة وتوابله الشهيرة، خاصة" الكيري"، مع التنصيص الدائم على المرجعيات الهندية والباكستانية والتركية والعربية والإفريقية.. ومن النادر أن تجد – على طول امتداد المكان مكتبة- أومالا شابه ذلك- علما أن وضع هذه الأخيرة،

 في الثقافة الفرنسية، يماثل معمارا، قائم الذات، من المعارف والمسلكيات، ومختلف أشكال التواصل. ولحد الآن، ما زالت العديد من الفضاءات تحمل أسماء المشتغلين ب" المكتبية"، كما هو شأن  الكثير من البناءات التي  ارتبطت بجهد المتنورين، أو الموسوعيين، ورواد المعرفة، كما هو شأن احدى العمارات الشهيرة، الى اليوم، بعراقتها، بمنطقة السوربون، والحاملة لاسم "ديدرو"، أثناء اشتغاله الموسوعي الذائع الصيت.

أما بالنسبة للكتلة البشرية المتحركة، فإن المكان، عادة،  يصبح وسيلة قبل أن يكون  غاية. ومعنى ذلك أن   تعامل الزائر مع الفضاءات السياحية مبعثه الرغبة في التماهي مع الآخر، واقتفاء خطواته بأساليب عديدة لاتخلو من المبالغة حينا، والحذر حينا آخر. في جادة" الشانزليزي" تنتتشر حمى الإستعراض، عبر اصطياد المتع السريعة، من خلال الآتي:

+ _ تحرك السائح داخل " مجموعة إثنية" تتجه نحو " فتح" المكان واختر اق حدوده، من خلال تحويله الى فضاء للمتعة.

+_ ولما كان المكان مسرحا للمتعة- بالمعنى الواسع-النابعة من الرغبة في اقتناء ما يمور به من أطاييب و تقليعات ومقتنيات ومشتريات، فإن ذلك شكل وسيلة للإنتساب إلى هذا الفضاء  ولوعن طريق الوهم والإيهام.(ولعل هذاما يفسر التقاط الصور التذكارية بجانب  حذاء معروض،مرصع بجماجم صغيرة من الحجر الكريم، والذي بلغ ثمنه ما يقرب من ألفي أورو/ التسابق نحو محلات العطور التي تغري الزائرين بتقديم العطور، مجانا، فلا يتردد لعديد من الزوار في تجريب الكثير من الأنواع دفعة واحدة).

18-( أتاك الربيع..)

المتداول بين الناس، عادة، عند زيارة باريس، يرتبط بالعمران والأيقونات الشهيرة المرتبطة به بشكل مباشر، أوغير مباشر. أما الحدائق وتوابعها، فقد لاتحظى باهتمام الزائر الذي قد يزورها ، عرضا،  إذا وجدها في طريقه. وبالمقابل تحظي الحدائق بأهمية خاصة لدى الفرنسيين عامة، بدءا بحديقة البيت، مرورا بحدائق  المجالس المنتخبة في المدن والساحات وفضاءات تجمع  الساكنة، وصولا إلى الحدائق المشهورة( بولون/ لوكسمبورج/ حديقة النباتات/حدائق فرساي /مونسوري  المواجهة للحي الجامعي الدولي/)، أوغير المشهورة( الباجتيل/ سو..). وهذه الحدائق لاتعرف الا فصلا واحدا-ووحيدا- هو فصل  الربيع الدائم.

الحديقة ‘ عندالبارسيين، مؤسسة قائمة الذات. ومن ثم، فالحديقة بناء متكامل يقوده جهاز إداري لايقتصر على تنفيذ القرارات الإدارية، بل يمارس، في الوقت ذاته، التربية الجمالية عن طريق  الشرح وتوجيه الزائرنحو الهدف المطلوب.والحديقة ليست مجردنباتات ومشاتل ومزروعات مختلفة، بل إنها فضاء تربوي يزخر بالمعرفة والجمال في آن واحد.فالزائر يتعرف على ما تزخر به الحديقة من محتويات مختلفة عن طريق النشرات الموضوعة تحت رهن إشارة الزائرين في أماكن استراتيجية،او عن طريق   بطائق تعريفية  حملتها نباتات الحديقة  المنتشرةفي كل الزوايا والأركان.وبالإضافة إلى ذلك تتميز الحديقة بدورها الإجتماعي الذي تجسد في أنشطة عديدة تستفيد منها الأسر طوال أيام الأسبوع بحكم توفرالحدائق على مكونات التثقيف والترفيه   تتوزع بين البرك للرؤية والصيد وممارسة  بعض أنواع الرياضة المرتبطة بالماء، وبين الأكشاك المدمجة في التأثيت الخاص بالحديقة، بين تماثيل االكتاب والفنانين والمفكرين، والأنصاب التذكارية المؤرخة لأحداث دالة،بين المطاعم ذات الوجبات الخفيفة، والمسالك والمعارج لاكتشاف أنواع النباتات والمغروسات، وبين الطرقات المسفلتة المخصصة للمشي او ممارسة رياضة العدو، بين القناطر المعلقة المكونة من مواد طبيعية لاتخرج عن  عالم الحديقة، وبين الأقواس وتكعيبات الدوالي، أو النباتات اللولبية التي التف فيها الساق بالساق، والعرائش تظلل مواقع عديدة من البساط الأخضر  الذي  انتشرت  بين جنباته زرافات العاشقين، والمتأملون، رجالا ونساء،  ينا قلون الخطو،بين  جنبات الفضاء  الهاجع  في صمت  تكاد تلمسه اليد لمسا.

19-غرا ب الألوان"

والحديقة الفرنسية تتميز باستثناء قدلانجد له مثيلا في حدائق أخرى. ويتعلق  ذلك بأسراب الغربان التي لاتتوقف عن اجتياح الحدائق طوال اليوم.

 وسمحت لنا هذه لظاهرة، بإعادة النظر في ماعرف عن الغراب من شؤم ونشر الفرقة بين الألاف والأقرباء والأصدقاء..فالعشاق  المنتشرون في الحديقة لايهزهم نعيق، أونهيق، و ثعلب"لافونتين" لم  يستبلد الغراب، بهدف الحصول على قطعة الجبن، بل  إن الثعلب أحسن صنعا بهذا الفعل، الذي  جعل من الغراب كائنا أليفا لايمل الفرنسيون من سماعه ورؤيته أيضا. في باريس لاوجود ل "غراب البين" الذي  -كماترسخ في ذاكرتنا-لاهم  له سوى النعيق،وتفريق الحبيب عن الحبيب. غراب "باريس"، غراب المحبين والعاشقين،والمرابطين بالحدائق التي تمتن الأواصر بين الألفة والألاف. قد يكون ذلك مجرد حدس ينتاب الزائر أمام جحافل الزوار المنتشين بالفضاءات الخضراء الزاهية.

20- (خفف الوطء يا صاح)

قد يستغرب زائر "باريس" لأسعار العقار الصاروخية المحاذية للمقابر.والسر في ذلك يعود إلى  ما يلف المكان من سكينة ونظام وجمال.فالمقابر" في باريس" مدينة متكاملة بطرقاتها بأسمائها وأرقامها ومصابيحها وحدائقها ومسييريها وحراسها وموظفيها. والقبور، فضلا عن أضرحة الأسر،إبداعات مبهرة، يتنافس فيها الرخام، بألوانه، والحجر، بأشكاله، والخط، بأنواعه، واللون بزهوره.وحملت شواهد  مقابر كثيرة، صور أصحابها- وكأنها التقطت البارحة- وهم  مازالوا يمارسون- كما قال الفقيد "محمد باهي"[ فضيحة الحياة].صوربلباس الزفاف،وأخرى لعازف كمان، وثالثة بابتسامة عريضة...  وبمجرد أن تضع قدميك بإحدى المقابر الباريسية، تواجهك الخرائط والأسهم والإشارات المساعدة للوصول إلى هدفك.الساكن، إذن، حسب الباريسيين، هو الباحث عن الجمال، هو الراغب في احتراف لغة الصمت التي تحتاج إلى قوة الإرادة، والإرتفاع- من جهة أخرى- عن اليومي المبتذل.لاغرابة إذا امتلك أموات " باريس" [ وضعا اعتباريا] جعلهم – على حد تعبير الفقيد محمد باهي-( يشاركون الأحياء في الفضاء الباريسي خاصة أنهم يساوون الأحياء في العدد، وينافسوهم، أيضا، في الإهتمام والرعاية البارزتين طيلة يومي الأربعاء والسبت،لأنهما يمثلان العطلة المدرسية الأسبوعية التي يأتي فيها الأهل والأقارب رفقة الأولاد والأحفاد لزيارة مثوى الأجداد).[  عبدالرحيم مؤذن: الرحلة البهية إلى باريس السرية.ص،47.].

ولاتقتصر مقابر "باريس" على ما سبق ذكره، بل إنها تضم بين أضلعها سرا عميقا لايكتشفه الزائر الا بعد تمعن وتدبر، ومعاناة أيضا، في امتداد المقابر، مستعينا بخارطة محددة تساعد الزائر على الوصول إلى هدفه.

لنترك جانبا قبر " نابليون" الذي  لايشاركه أحد في - وهو مستشفى معطوبي الحروب النابلونية الذي تحول الآن إلىLES  متحف حربي متميز- ونتقدم نحو مقبرة "الأب لاشيز"INVALIDES LA CHAISE التي تعد من أعرق المقابر الفرنسية،( افتتحت في القرن 19.)، بتجسيدها لمدينة الموتىبهضبتها المترامية الأطراف التي يرين عليها الصمت، والوقار. ومن الصدف الغريبة أن المقبرة توجد بشارع الراحة.

هنا ترقد جثامين "بروست"، "لافونتين"، " كوليت" " بول إيلوار""موسيه" "أبولينير"،أوسكار وايلد"، "زادكين"- نحات روسي توفي في1967- فضلا عن رماد "موليير"، و"شوبان"... وبجانب هؤلاء يرقد الثنائي الشهير" إيف مونتان/ سيمون سينيوري"، وتستقر، في المكان ذاته،  أيقونة الغناء الفرنسي" إديث بياف".

وفي المقبرة ذاتها، استقل أعضاء الحزب الشيوعي  الفرنسي بربوة يانعة مطلة على ممشى رئيسي تتفرع عنه ممرات صغيرة  مؤدية إلى مناطق مختلفة من المقبرة. وتجاورت شواهد الزعماء التاريخيين للحزب بتراتبية دقيقة: موريس توريز/ فالديك روشي/ جورج مارشي..وغير بعيد عن هؤلاء، اشتعل قبر، من الرخام الأسود، بشقشقة طيور مرحة لم تخطئ الهدف بعد أن توزعت على الشاهد الذي حمل اسم لمطرب الفرنسي الضاحك" هنري سالفادور".

  وإذا أردت استكمال بعض الحلقات المفقودة من تاريخ الأدب الفرنسي، فماعليك سوى زيارة مقبرة " مونبارناس"، فستجد هناك قبور" موباسان"، "سارتر" "بوفوار"، "سانت بوف"، "بودلير"، وأخيرا، وليس آخرا،  رائد الدادائية الشهير" تريستيان نزارا"...  المقبرة- الحديقة، في فرنسا حياة متجددة لاترى في الموت سوى "استراحة المحارب" الذي يعاود النهوض عند لقائه بالزائر الذي لايتردد في  محاورته  مادام النص _ الإبداع- حمال أوجه سواء و الممات./.

21-باريس الأخرى

لا يكتفي زائر باريس  ب  [ الآن]، أي بالحاضر، بل إن الزائر يحمل معه ماتيسر له من باريس الأخرى، باريس التاريخ والذاكرة، وأثناء التجوال لايتوقف الزائر عن رسم تخطيطات "باريس" التي في خاطره. من هنا  امتلكت " باريس" العريقة سحرها الخاص الذي يزداد سحرا كلما غاص في عمق التاريخ.

في فاتح ماي  الأخير، بالساحة التقليدية – ساحة الجمهورية-المفتوحة على  مطالب حقوق الإنسان من كل أنحاء الأرض،انتشت السحنات الخارجة من أتون الكمونة التي انتزع فيها العمال شرعيتهم  من الإقطاع والنبلاء ورجال الكنيسة.وقبل بداية الإستعراض الأممي كنت أتابع السحنات المتعبة، تتخللها ضحكات التحدي الدائمة التي قهرت عقودا من الأستغلال، والقهر والإهانة. ومع ذلك، لم تغب الضحكات عن الوجوه، بملامحها المشدودة، وأمارات التعب كشفت عنها الجفون المنتفخة، والشفاه المزمومة.

.وفي كل  الأحوال،كانت الشوارب الضخمة، على طريقة "بوفيه "،أحيانا،أونصدارية- نصف دائرية- على طريقة "جوركي"، أحيانا أخرى،تتقدم  الصفوف، والأحمر في كل مكان، تنتشي به  اليافطات، ومنادل الفتونة المعقودة، يسارا، و هي تشع   بحب الحياة التي فيها متسع للجميع. " التغيير ما زال ممكنا". ذلك هو شعار ذلك اليوم، ومشعل  تمثال الجمهورية ما زالت تمسك به يدالمرأة التي شاب زمنها دون أن تشيب.

الزمن زمنان، والمرتحل يحمل، عادة زمنه الخاص، وهو يدخل زمن الآخر.

  هذا من ذاك، ولن يمنعني ذلك من  الحديث عن زمن ضائع، ضيعناه  بددا.ولا أدري لماذا حضرت – في هذه اللحظة، وأنا أتابع الاستعراض-  قولة تلك المرأة- وهي تشبه إلى حد كبير امرأة تمثال الجمهورية-أثناء مخاطبتها لآخر حكام الأندلس الذي ضيع كل شئ في خضم التطاحن- والصورة واحدة- والإيثار- وليس الأثرة- وتهافت التهافت، وتبليط  الدور والمنازل بعجين المسك المدغدغ للأقدام العارية،  وتفريخ  النقابات بأرقام قياسية، ومتى كان للجسد ظلالا، وهو الجسد الأوحد والظل الواحد؟

22-باريس العتاقة

في شارع" موفتار" الذي يمتح من محيطه العريق( البانثيون/السوربون/الحي اللاتيني...الخ) يمتد الشارع- الزقاق  المرصع، بالحجر الصم، مزهوا بحوانيته الفائحة برائحة البحر،بعد أن امتلأت سلال الخوص بالمحار والسمك الطازج، وتنافس الباعة في ترصيف الزجاجات وأنواع الجبن الفرنسي، والأعشاب البرية، والفطائر والدجاج المشوي، ومصبرات كبد البط، والمربى بعلبه الأليفة المكللة بأغطية مشمعة تناوبت عليها  مربعات صغيرة توزعت بين الحمرةوالبياض، وأنواع الخبز، خاصة خبز القرى،والباعة يتوسطون مداخل الحوانيت، برؤوسهم المرفوعة باعتزاز  ما قدمت أيديهم، والأذرع  معقودة فوق  الصدور، و الشوارب الكثة  تتقدم الوجوه الطافحة بالنعمة والمآزر الممتدة إلى ما بعد الركبتين  تلمع ببياض مرآوي  يرى فيها الزائر وجهه بالتمام والكمال.

لايتوقف الشارع- الزقاق عن استرجاع الزمن عبر حوانيت  " الذاكرة" الباريسية بلوحاتها وصورها الفوتوغرافية وقبعاتها، خاصة قبعات القش الملائمة لحرارة الجو المتصاعدة، والتي خلدها " رونوار" في لوحاته الإنطباعية، خاصة لوحات النزهة والتجوال على صفحة السين، وحمالات المفاتيح التي اتخذت شكل " برج إيفل"، ومناديل العنق الرجالية- الحمراء خاصة- التي اشتهر بها" دون جوان" و" فالانتينو"، أو مناديل الرأس والنسائية،  التي حملت من "باريس" القليل، أو الكثير، نباتا وحيوانا وإنسانا وجمادا. والأحذية –الخالية من السيور- الصيفية الكتانية، ذات اللون الأزرق خاصة، بنعالها المفتولة من ضفائر القش الصناعي المتين،تتراقص أمام الأعين بإيقاع منتظم. وعلى الجانبين، انتشرت المقاهي الصغيرة المنتميةإلى كل الأجناس، والواجهات الزجاجية تعلن عن خصوصية الطعام، وتخفيضات الأسعار، ومفاجآت المكان. وبين هذه وتلك، لاتستغني الذهنية الفرنسية عن الكتاب . فالمكتبة، تحديدا، يحملها الفرنسي في"الميترو"، والحديقة، والمقهى. وبمجرد أن يستقر بمقعده بإحدى وسائل النقل، يسارع إلى إخراج الكتاب من محفظته، أو جيبه، ويفتحه عند الصفحة المعلمة  بشرائط كارتونية رقيقة -خلقت لهذا الغرض- فالفرنسي لايلوي عنق صفحة من صفحات الكتاب، مادام يماثل الكائن الحي الذي يستحق الحياة  والرعاية. فللكتب حقوقها التي لاتجادل.وما على الزائر إلا أن يتجه نحو شارع" سان ميشيل"، ليلمس، عن قرب كيفية التعامل مع الكتاب، بيعا وشراء وتبادلا، بأنواعه، وملحقاته من   شرائط موسيقية، ومقررات مدرسية وجامعية.لاغرابة إذا وجدت كتاب " دافنشي كود" الضخم ب0،20، سنتيما- والرقم لاخطأ فيه- تيسيرا للقراءة التي تأتي – عند الفرنسي- بعد الطعام.

 في الأحياء الباريسيةالعريقة، نشأت الأحلام والمبادئ والقيم والإديولوجيات.. ففي " مونبارناس"تشكلت" عاصمة البوهميين" الكبار المنتمين إلى أنحاء العالم، من رسامين ونحاتين وشعراء وروائيينن ومسرحيين، وموسيقيين، وعازفين..." بيكاسو" /"مودلياني"، أبولينير"، ماكس جاكوب"، "هنري ميلير..". وفي "مونمارتر"  التي تتنفس أشكال الرسم الزيتي- رسامي البورتريهات خاصة- تؤنسك الأزقة الهادئة، وأبواب الدور كأنها مداخل متاحف تنتظر لحظة الإفتتاح، ونقرات الأحذية فوق مربعات الصم تساير غناء المغنية الشعبية المتماهية مع "إديث بياف"، وهي تدير مقبض الأورغول بعد أن تلقمه بشرائط الورق الدائرية المنقوشة بنوتات الزمن الثلاثيني من القرن الماضي، وباليد الأخرى تنفح، بين الفينة والأخرى، الأطفال المتحلقين بحلوى "أنيس.."

23-العطارة المتنقلة

ولو رجعت القهقرى :نحو حي "باربيس" الشعبي، بكل أعاجيبه وغرائبه،  بمقدسه ومدنسه، ستجد نماذج عديدةمن المسلكيات المتكاملة،دون تعارض، او تناقض:الكنيسة – وبالمكان كنيسة"ساكري كور"،أو القلب المقدس، المطلةعلى بانوراما باريسية خلابة _و" بيجال"، الصيدلية وحوانيت الأعشاب خاصة الإفريقية منها،أدوات الماكياج التي لاتوجدإلا في متاجر "لافاييت"- بجانب لوبيرا- ومنتجات العطارة القادمة من ماوراء البحر، العيادات الحديثة، ومراكز العرافين والعرافات الذين يعالجون كل الأمراض- بما فيها مرض الحب  وتوابعه وزوابعه- بعناوينهم الإلكترونية،وأسعارهم المحددة،اليانصيب المؤسساتي، ولعبة الإحتيال الشهيرة ذات الورقات الثلات، المتحف وحوانيت البضائع البورنوغرافية، الحلقات الشعبية، والمسرح المتكامل الذي تجاوز أربعة مسارح بهذه المنطقة الشعبية،  المتاجر الحديثة الكبرى، والخضارون ببضائعهم العجائبية، المقاهي والحانات البئيسة، والكازينوهات الراقية،الطاحونة الحمراء العريقة، والتي خلدها " تولوز لوترك" في الكثير من لوحاته والمقاهي ذات الوجبات السريعة( الفاست فود)- التونسية والمغربية والتركية- التي تلبي  هذا التعدد الذي تشكل منه  نسيج المجتمع الفرنسي، تحت تأثير الضرورة، وبسبب- من جهة أخرى-  حاجيات" الميتروبول" المتزايدة التي قد تأخذ،طابع الملهاة،وأحيانا أخرى، طابع المأساة.

24-( تكاد تتقراها بلمس)

ليس من السهولة الحديث عن متاحف باريس، فهذه الأخيرة تحفة من ألفها إلى يائها. في كل ركن، أو زاوية، يوجد نصب تذكاري، أولمسة فنية تجسدت في لون، أو "صياغة" جديدة  لأمكنة وفضاءات مهملة، أو ترميم  لعلامة معمارية دالة... وتجدر الإشارة إلى  خصيصة أساسية تميزت بها المتاحف  خاصة، والمواقع الفنية عامة، تجسدت في طوبوغرافية المكان.فمعظم هذه المواقع يطل على النهر العريق، نهر السين(متحف اللوفر/ نوتردام دي باري/ متحف دورساي/ مسارح/ بعض المقاهي الأدبية/مكتبات/ دور النشر...). كل هذه المواقع تصب في نهر الفن والفنانين. والأمر لايقف عند مستوى الكم، بل يمتد إلى الكيف، وطنيا وجهويا، من  خلال  متاحف المدن ومتا حف القرى: متحف النقود، متاحف المهن والصناعات والحرف، متاحف الجيش، متاحف الدولة، ومتاحف الخاصة، متاحف فرنسا ومتاحف الإنسان( اللوفر على سبيل المثال)،متاحف تحمل أسماء كتاب وفنانين مثل "هيجو" "،  بيكاسو" " دولاكروا،"بلزاك" و" سالفادور دالي"... ومتاحف تابعة للكنائس، أو خرجت من رحم القصور الفخمة التي تحولت إلى متاحف متكاملة( قصر فرساي) أو فنادق  مميزة  تشع بمظاهر الجمال الذي أصبح ثروة وطنية يتم استثمارها اقتصاديا وسياحيا وتربويا، متاحف متخصصة مثل المتحف الوطني للفن الحديث الحامل لاسم " جورج بومبيدو"، والذي أصبح مركزا للخلق والإبداع الحديث، في المجال الصناعي،فضلا عن مكتبته العامرة.

وسأقصر الحديث، في هذا السياق، على متحف " دورساي"   والذي يضم أعظم تحف الرسم الإنطباعي في العالم- وتزامن وجودنا مع معرض   رسامي  هذه   المدرسة، خاصة رسامي القرن 19.  والأسماء التالية تؤكد على ذلك:

سيزان/ ديجا/ جوجان/ ماني/ موني/بيسارو/رونوار/ رودان/ لوتريك/ فان جوخ/ دولاكروا.. بجانب هؤلاء يتوفر المكان على نماذج عديدة منتسبة لمدارس متعددة في الرسم الزيتي الفرنسي خاصة، فضلا عن كبار رواد الرسم الإنطباعي، كما هو الشأن عنذ "ماتيس" و" براك" ، وغيرهما من  الرواد الذين عرفوا بالجرأة في الموضوعات والألوان، والتمرد، من ناحية ثانية، على القيود التقليدية في التشكيل والرؤية.

المكان، إذن- كما هو متداول عل كل لسان- " لايوجد فيه إلا الفن والضوء". هذا هوجوهر المدرسة الإنطباعية.

وللرسم الإنطباعي منزلة خاصة لدى الفرنسيين بحكم ارتباطه بالقرن 19، الذي  يعد  قرنا محوريا في تاريخ فرنسا، خاصة،وأوروبا عامة. وللتذكير، فالمتحف، في الأصل، محطة ضخمة من محطات السكك الحديدية. وسيتم   تحويله إلى" قصر للفنون الجميلة" مع بداية القرن، لتصبح قبابه، ونوافذه الزجاجية، وسواريه المصنوعة من الصلب، وقبابه، وساعته الضخمة، وممراته، ليصبح كل ذلك فضاء رائعا للفن، بكل أنماطه، رسما ونحتا، وتصويرا فوتوغرافيا، وهندسة معمارية، وتحفا نادرة.

 الفن، في "باريس" ممارسة يومية يمارسها الباريسي، بأساليب مختلفة، بدءا بسلوكه اليومي، أكلا وشربا ولباسا ومعجما، مرورا بترسيخ تقاليد الإحتفال بالجمال، عبر الأعياد والطقوس والتقاليد ومظاهر الإحتفال بالحياة التي يحبها الباريسيون إلى حد الجنون. وقد لايعني هذا الكلام أن " باريس" جنة الله في الأرض، لاأثر فيها للقبح، بكل دلالاته، بل إن ذلك يعني، من بين مايعنيه، الرغبة الملحة للباريسي- والفرنسي عامة- في تحويل كل  زاوية- ولو كانت في حجم حبة عدس- إلى مكان للمتعة والإمتاع. في تظاهرة "ماي" الأخيرة، ارتفعت الأصوات، بكل الشعارات، دون أن تمتنع الأيدي عن اقتناء زهرة بيضاء، ذات رؤوس رفيعة تمتد بها أيدي الباعة من هنود وأفارقة، في هذا اليوم الأممي.  فالباريسيون- كما هو متداول – يذرعون " باريس" مطأطئي الرؤوس (بسبب الفقر ومخلفات الكلاب) (ألان شيفر:الباريسيون .ص20). والخجل الذي يعتري الباريسي، اليوم،من خلال لامسلكيات عديدة عكسها الاعلام،

 يعود إلى تصاعد نسبة النباشين في حاويات الأزبال، من جهة، وإلى ا لتلوث المتزايد - من جهة ثانية_- الذي  نشر مظاهر الخلل في هذا المكان الجميل. ومع ذلك فالحياة جميلة في كل الأحوال،  فبمجرد أن يطل شعاع شمس  شاحب،  يتدفق الباريسيون في كل الأنحاء بعيدا عن كل الحسابات، فالحياة لا تقبل التأجيل

25-( ويأتيك بالأخبار من لم تزود)

الإعلام  ب"باريس"سلطة ما بعدها سلطة. ولاشك أن معظم التحولات السياسية والإجتماعية والثقافية، فضلا عن الجوانب النفسية، بكل أبعادها  المنعكسة على الحياة اليومية للناس، أقول كل ذلك  يتحكم فيه الإعلام.  والإعلام، ب"باريس"، لايقتصر على القنوات التقليدية المرئية والمسموعة والمكتوبة، بل إنه يتسرب عبر مسارب الحياة اليومية  للناس، وعبر مختلف   مظاهر التجمع الإنساني.

 والإعلام ينتعش في اللحظات  الحاسمة من تاريخ المجتمعات  من خلال  قضايا محورية حظيت باهتمام المجتمع:ولعل هذا ما يفسر تداول موضوع  الإنتخابات الرئاسية الفرنسية، منذ وقت مبكر، في أجهزة الإعلام المختلفة.، بوسائل عديدة توزعت بين الجد والهزل،  السياسي والسياسوي،  بين الوصف والتعليق، التفسير والتأويل،  الرفض والقبول، الذاتي والموضوعي،التمجيدي والنقدي. وأهم خصائص الإعلام ب"باريس" نذكر الآتي:

1-  الهدف المعرفي،  أي إيصال  الخبر، أو المعلومة، إلى المتلقي بكافة السبل.فالحقيقة ملك للجميع، وإخفاؤها  له مضاعفات عديدة يؤدي فيها  المتسبب في ذلك أفدح الأثمان. والفضائح، بمختلف أنماطها، تشتعل  بها، كل صباح، في  مختلف القنوات والوسائل الإعلامية، وطرق التواصل المختلفة( ملصقات/ نشرات محلية/ تظاهرات مختلفة/ مناسبات احتفالية معينة/ ..الخ).

 2- الهدف التربوي: لايستقل الإعلام عن التربية. فالمخاطب المستهدف يخضع –أثناء إرسال الخطاب-  لنوع من التعامل المرتبط بسنه  ومرجعيته الثقافية والنفسية. ومع ذلك، تحدث انفلاتات عديدة، أخلاقيا واجتماعيا ...لاتسلم من النقد بوسائل مختلفة.

3-  التخصص في الأداة ( الشكل والوسيلة)، من جهة، والمحتوى، من جهةثانية. فالإعلام الرسمي- إعلام الدولة-  تحكمه مواصفات محددة،والإعلام  الخاص- أفرادا وشركات-  يخضع، بدوره، لمواصفات معينة، شكلا ومضمونا.وفي كثير من الأحيان يتداخل الخاص بالعام، من حيث الأسهم والرأسمال. فالصحافة العريقة مثل" لوموند"، أو " لوفيغارو"،فضلا عن" ليبيراسيون"، و" لو كنار انشيني"، تخضع لشعار كبير يتجسد في "فرنسا أولا"،  دون أن يمنع ذلك من النقد، من مواقع مختلفة، سواء كانت قريبة من الدولة، أومن المعارضة أحزابا ونقابات وجمعيات وروابط..

4-  من المؤثرات الكبرى في الحياة الباريسية اليومية، الصحافة المحلية.في "باريس" وحدها،  توزع، يوميا،  أربع صحف محلية تلعب دورا كبيرا في ربط المواطن بما يجري، محليا ووطنيا، وفي - من جهة ثانية-  التأثير على "الرأي العام" تجاه قضايا محددة. ومن أهم هذه الصحف التي توزع، مع الغبش،أمام مداخل " الميترو" أذكر: عشرون دقيقة/الصباح المباشر/ الميترو... نضيف إلى ذلك  النشرات الأسبوعية  الخاصة بالرياضة، أو بالإشهار السياحي والثقافي..  فالفضائح الجنسية المتلاحقة لكبار المسؤولين الفرنسيين(مدير صندوق النقد الدولي/ كاتب الدولة في الوظيفة العمومية) أو ترويج نوع من الأدوية القاتلة .. وغيرها من الوقائع المختلفة..كل ذلك يصبح مادة صحافية للحوار والفضح والنقد، واخيرا ليس آخرا، للتعبئة  ضد " الخارجين عن القانون" الذي يخضع له الجميع رؤساء ومرؤوسين.

  5-  في الصحافة الفرنسية- وطنيا ومحليا- تتداخل الحدود بين     الإعلام والإعلان.فالإعلام  يصبح في كثير من الأحيان إعلانا، وهذا الأخير يصبح، بدوره، في  لحظات محددة،إعلاما.  يدعم ذلك سيادة الممارسة الإستهلاكية، التي تعد عصب الحياة في المجتمع الفرنسي،في الحياة اليومية أكلا وشربا ولباسا وإنتاجا في ميادين متعددة.والهاجس الإستهلاكي المغلف بملابسات معرفية، وثقافية، هو الذي يقود عملية التواصل بين المرسل والمتلقي. هكذا انتشرت الملصقات، في أنفاق الميترو،معلنة عن البضاعة الثقافية، والإستهلاكية عامة، بأساليب مختلفة، فضلا عن الفضاءات المختلفة التي تتوزع بين الإعلان والإعلام مدا وجزرا.وبالإضافة إلى هذا وذاك، انتشرت وسائل إعلامية- وإعلانية- عديدة في الشوارع والأزقة والساحات المتعددة، والمطاعم، والكنائس، والمتاجر من شاشات ضخمة،ومؤثرات سمعية وبصرية مختلفة.

 6- وبالرغم من وجود قنوات متخصصة، في ميدان من الميادين، فإن هاجس الإخبار لايغادر أصحابها في كل الأحوال.  فقناة" راديو كلاسيك" لاتتوقف فيها الموسيقى الكلاسيكية، انطلاقا من السادسة صباحا، وفي، الوقت ذاته، يتخلل هذه المعزوفات الخبر السياسي، والنكتة الدالة، والحوار الممتع والتقرير المفيد.   

26- باريس العربية

لم يرفع شعار الثورة الفرنسية الشهير، وهو ما زال حيا يرزق في العديد الفضاءات والممارسات، عبثا، بل جسد، وما يزال رمزية   المرجعية الفرنسية في الذاكرة والوجدان. قد لاتعدم مناوشة هنا، أوهناك، من قبل هذا، أوذاك، وقد تصطدم بشعارات مضحكة مثل" الزحف الاسلامي"، وشعارات أخرى " التلوث العرقي" كما حدث في فضيحة الناخب الوطني لكرة القدم الذي اتهم يرفعه لشعار" الكوطا" بعد اجتياح " اللون الأسود" للفريق الوطني الفرنسي، علما أن هذا اللون منتشر في كل المجالات والقطاعات التي قد يضطر أصحابها الاى رفعالشعار السخيف ذاته،وقد ينظر اليك أحدهم شزرا،لسبب اولآخر،أو قد يدغدغ "لفرنسي العادي"، أو المتوسط" بشعارات انتخابية تصاعدت حدتها، تدريجيا، والانتخابات الرئاسية على الأبواب، فأصبح الشغل الشاغل للإعلام الفرنسي هو الحجاب، والزواج الأبيض، والمسلمة التي أغرت أكبر مدير، في العالم  لصندوق النقد الدولي، بعد أنى تناسى هذا الاعلام تاريخه العريق في الاغراء لكل الأجناس،ولم يستعمل هذا الاعلام في حق المغريات السابقات أي نعت ديني، أو عرقي، ماعدا بالنسبة للضحية الأخير... قد تجد هذا او ذاك، لكن ذلك لايمنع من  كون قوة " باريس"، خاصة، نابعة من هذا  التعدد ثقافة ولونا وجنسا وتاريخا..وباريس ملك لهذه المرجعية الغنية التي شكتها سواعد الذين مروا بهذا المكان. والمتأمل للمعجم المتداول بهذا المكان، سيكتشف المفردات الجديدة، والصيغ المتجددة،فضلا عن  مسلكيات مختلفة انسحبت على المأكل والمشرب والملبس..

وآخر- وليس آخرا- عناصر التشكل للذهن والذائقة، ما جاءت به رياح"الربيع العربي" الذي حط رحاله، فضلا عن العوامل المحلية، ب" اليونان" و" اسبانيا" و"ايطاليا"...الخ. باريس ابنة شرعية للداخل والخارج، ومن المؤكد أن مياه "السين" امتلأت بقطرات المطر، وسيول الجبال،ورافد منابع كثيرة، وثلوج ذائبة...ولكنها، أيضا، امتلأت بعرق سواعد عديدة آتية من كل الآفاق،ومن دموع النصر والهزيمة، والأيامى والثكالى...والدموع واحدة، لا فرق  -كما قال جاك بريل-  بين دموع الكبار ودموع الصغار، بين دموع الأغنياء ودموع الفقراء...كانت الصور تتابع أمامي، وأنا أستعد للرحلة نحو "باريس" فأنا مازلت أنتظر، من جديد  الفرصة المواتية للرحيل، دون أن أغادر المدينة، أو لعلها لم تغادرني البتة..

لاأدري..