الرحلة إلى بلاد الله

عبدالرحيم مؤدن

يتجسد في كون (بلاد الله) ترادف الأرض الحرام بدون منازع. والتعميم يتمثل في أن الصياغة ذاتها (بلاد الله) تعادل أرض الله الواسعة، فكل البلاد هي بلاد الله. فأينما وليت وجهك، فثمة وجه الله. وتعكس هذه الثنائية من ناحية أخرى- إشكالية التجنيس ذاته الذي حسمه الكاتب/الرحالة باختياره للقالب الرحلي، دون تنميط، مما يقتضي طرح التساؤلات التالية:

أ‌-                 هل تندرج الرحلة أعلاه- موضوعا وشكلا- في سياق الرحلة الحجية/ الحجازية من حيث كونها نمطا رحليا من بين الأنماط الرحلية المتداولة.

ب‌-            هل تندرج الرحلة، أعلاه، في باب الرحلة الدينية عامة بحكم أن طبيعة الإرتحال نحو (بلاد الله) قد ينسحب على المزار المقدس عامة (الرحلة الزيارية) من زوايا وتكايا وأضرحة وعتبات مقدسة. ومن ثم يصبح المزار المقدس منسحبا على فضاء الولاية والزهد والمشيخة والزيارة. . وكل ما هو ( مقرون بالمقدس). ص. 25.

ت‌-            ألا يمكن اعتبار الرحلة إلى بلاد الله رحلة زيارية للبلد الحرام- والزيارة من مرادفات الطريق وأهلها يسيحون في أرض الله الواسعة- تقوم على الإستكشاف والجولان والمعرفة والتعرف والإهتداء بالشيخ. . (قل سيروا في الأرض). فالرحلة في بلاد الله وسيلة للتعرف على صنعة الصانع، فضلا عن أغراض عديدة، من خلال التعاليم والوصايا وطرق الهدي المختلفة.

ث‌-            ولما كان خطاب الرحلة مبنيا على التصريح، دون التلميح، الذي يعلن صاحبه عن نية الحج {العنوان الفرعي:موسم حج سنة1430ه الموافق ل 2009م}، فإن ذلك يجعل من المتن رحلة حجية/ حجازية تترسم خطوات الأوائل، وتؤسس، في الوقت ذاته، خطابها المميز تبعا لتجربة المرتحل.   ولايقتصر الإشكال الأجناسي على الرحلة، بل يمتد، أيضا، إلى الرحالة، سواء قبل الحج، أو أثناءه، أو بعده. ولعل هذا ما يفسر علاقة الرحالة بالرحلة، فعلا ونصا وموقفا من الذات والآخر المشارك في فعل الإرتحال.  والرحالة، بالإضافة إلى هذا وذاك، لعب دورا مركزيا في خلخلة البناء الرحلي، من خلال أسئلة الذات، من جهة، وأسئلة النص، من جهة ثانية.

نحن الآن أمام رحالة، من نوع خاص، يتأهب لتأدية فريضة الحج بما له وبما عليه، وهو بذلك يختلف عن حاج الرحلة التقليدية الذي يسير على هدي من سبقوه، الحافر على الحافر، وهو يراكم النوافل، لايخرج عن فقه المناسك، مستسلما، مسالما، قانعا، إلى حين الانتهاء من الشعيرة. الحاج في هذه الرحلة نسيج محدد يرى في الحج تطهيرا للجسد والروح، ومحفزا على المكاشفة ـ أمام الذات والآخر- والجهر بالحق، والحفاظ على أطهر مكان من ممارسات لاتمت إلى الإسلام بصلة. ولما كان مكون الرحالة ثلاثي الأقانيم: أقنوم المؤلف (الرحالة)، أقنوم السارد، فأقنوم الشخصية المتوزعة بين الورق (سردا وفعلا حكائيا)، وبين اللحم والدم (شخص بالإسم والصفة والهوية)، أقول، لما كان الأمر كذلك، فالرحلة تستمد الكثير، أو القليل، من شخصية/ شخص الرحالة الذي (التي) يخلع على الرحالة خصائص نوعية- سيأتي الحديث عنها لاحقا- في الرؤية والتشكيل.

الحج، إذن، للحاج، بعث لكيان جديد(كمن ولدته أمه)، وهذا يقتضي سمو الحاج في ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، و، بذلك، يصبح في الرحلة-وسيلة للآتي:

أ-لممارسة نوع من النقد الذاتي عن طريق الإعتراف والبوح والمكاشفة والتصريح والتلميح. وفي الرحلة القليل، أو الكثير منى ذلك، سواء قبل الحج، أو أثناءه، أو بعده. الأمثلة التالية توضح ذلك:- (في حالتي، وعلى معرفتي بنفسي، لم أكن لاشيخا وقورا ولا معصوما من الخطأ، ولا أعتبر شغفي بالدنيا انتهى) ص. 15.  ـ (ولا وقت سمعت دعوة الإستضافة إلى الحج وجدت منتهى طموحي في هذه البغية.) ص، 15. - (. . فلا يجوز لك أن تتعامل مع ما يتصل بالديني، ما هو في حكم السماوي، تعاملك التعاقدي أو الإعتباطي مع الدنيوي، شتان!9ص، 20. - ( جعلت عملتي منذ وصلت، أن الأعمال بالنيات هي الكامنة في الصدور...لكن لامناص من أن تكون مخلصة). 76/77 كان هناك فعلا قوم نشيطون في تخير الصحون. . . . وهم في غاية البشر. لاأخفي تعجبي منهم، فهم بسرعة حققوا الهبوط من العلياء إلى البسيطة، وأغبطهم، ليتني منهم، ولن أكون من أحد. إلا ماجبلت عليه، وكل لما يسر له.) ص،92. وهناك أمثلة عديدة.  

اختلاف الرحالة عن الكثير من المرافقين له، في هذه الرحلة، كان وراء نص مختلف بدوره عن الرحلة الحجية/ الحجازية، خاصة، والدينية عامة. والعزف ظل مستمرا، طوال الرحلة، من قبل رحالة مختلف عن الآخرين، أو أغلبهم على الأقل، في إيمانه العقلاني، بعيدا عن الأوهام والتبعية العمياء. وهو مختلف، أيضا، في علاقته بالمكان الذي لايعد استثمارا زائفا حوله لكثيرون إلى نياشين وألقاب وأصل تجاري، فالمكان (بلاد الله) التي لا تفرق بين القادمين إليها من كل فج عميق. وهو مختلف، مرة ثالثة، في أن الحج طهارة وتطهير تفصل بين مرحلتين: ما قبل الحج وما بعده.  هذه الحالات الثلاث تعود إلى خصيصة القلق، قلق السؤال، بأبعاده المتعلقة بسؤال الهوية في عمقه الأنطولوجي الذي لم يمنع الرحالة/ الحاج من التساؤل في آخر سطر من سطور الرحلة. (وهل أنالذي عاد هو أنا؟من أنا؟ من أكون؟) ص،97. وقلق السؤال لدى الرحالة، كان وراء بناء الرحلة، وهو لا يمل من طرح السؤال تلو السؤال على الذات و الآخر، في كل المراحل التي واكبت الحج- قبل الحج- أو أثناءه، وبعده أيضا.

قبل الحج:

ولايتردد الرحالة في الكشف عن لحظات القلق التي انتابته، قبل الذهاب إلى الحج، موزعا بين الذهاب أو عدم الذهاب إلى المكان الأقدس، بين تلبية الدعوة، أو عدم تلبيتها مخافة سوء التأويل من قبل المتذاكين، بين حمله لصفة الحاج، وبين رفضه لها بعد ابتذالها (ص. 16)، بين حبه للحياة والشغف بمفاتنها، وبين السلوك الجديد الذي تفرضه مرحلة ما بعد الحج.

وجعل الرحالة لكل محطة من المحطات السابقة على الحج، عنوانا دالا مقتبسا من قصيدة الخيام الشهيرة (سمعت صوتا هاتفا في السحر/ الرباعيات) بظلاله الموحية بلحظات محددة تتوزع بين الظلمة والنور، النوم واليقظة، الموت  والحياة، الوصف و السردا، لمقدس والمدنس، المونولوج المنقول عبر مواقف محددة، والحوار غير المباشر الذي يقوم على التفسير والدحض والتفنيد والتأويل. فالمحطات الرحلية المجسدة في عناوين محددة (سمعت صوتا هاتفا/الطريق إلى الله/ حجاج للبيع) تعكس وضعية القلق المستشرية في ذات الرحالة التي جبلت على التمرد وحب الحياة ورفض تعاليم القطيع. فالحج شعيرة دينية تقوم- كما سبقت الإشارة- على التطهر من أدران الذات، ومن أدران’ الآخر’، أيضا، المتسربة إلى هذه الذات بالكلام والنظرة والحكم المسبق ورواسب التخلف والبدع المستشرية.
أثناء الحج:

لاتفارق النزعة النقدية الرحالة عبر ملاحظات عديدة انسحبت على ركاب الطائرة ذكورا (الجار الجزائري في الطائرة)، وإناثا (ونساء مليحات من وجوههن المكشوفة يخطرن بين صفوف الدرجة الأولى بعباءاتهن الحريرية السوداء، كما لو أنهن في صالون لعرض الأزياء، وعطر فاغم منهن يضوع في ارجاء المكان، كن يشددننا علىى الدنيا، والحال أن السحاب الذي نخترق، والبقاع التي نشد إليها الرحال مقصدها ثواب الآخرة، أو عذابها الأليم.) ص. 24.

في هذا المقطع ترتفع حدة النبرة النقدية، سواء تعلق الأمر بالداخل (الذات) أو بالخارج (العالم)، الدنيا أو الآخرة، الظاهر أو الباطن، المرئي او المسموع، الراي والرأي المضاد.

والرحالة يعلن على الملأ قناعاته، دون لف أو دوران، مركزا على مختلف المظاهر التي تتوزع بين السلب والإيجاب، فالحج مطهر للروح والجسد، كما سبقت الإشارة، في حين يصر الكثيرون على ممارسة مسلكيات عديدة لاتمت إلى الحج بصلة. منهم (حجاج الخمسة نجوم ص، 50) وهم طراز استثنائي (من الحجيج رأيت بأم العين ما يذهب إليهم من طعام..)ص، 53، ويخصص لهم (حيز مستقل لهم يؤدون فيه المناسك، لايختلطون بخلق الله العظيم 9ص، 53، ومنهم تلك السيدة القادمة- رفقة زوجها- من الولايات المتحدة الأمريكية التي (أمضت نصف حجها، أو يزيد خلف هاتفها المتنقل، بينا زوجها المصون أصبعه على زر كاميرا التصوير لا تتزحزح، لم يترك وجها ولامعلما متاحا إلا صوره، فلله ضره) ص، 55 ومنها تحول بلاد الله( التي حلت فيها ضيوفا-أولايسمى هؤلاء ضيوف الرحمان؟إلى مزابل متنقلة، تعشش وسطها القاذورات، رغم كل جهود عمال النظافة) ص، 50.
بعد الحج:

في هذا القسم يعود الرحالة إلى الدنيا (عائدا إلى الفندق في جدة، طويت الألبسة التقليدية، وارتديت كسوة عصرية، ونزلت البهو، ارتشفت قهوة إكسبريس، أتصفح معها جريدة ‘ الشرق الأوسطأعادتني إلى الحروب والصراعات وحركة البورصة…) ص. 93.

وينهي الرحالة هذا القسم بتوصيف للذات هو أقرب إلى البوح الممتزج ب(مونولوج) خاص يستمد قوته من نزهة اعترافية يسترجع فيها الرحالة ما مر به والذي أصبح يلازمه في الحل والترحال، بل إن منامه (لم يعد مناما، ومثله صحوي الذي ليس هو الصحو) ص، 96.}

عود على بدء

حافظ الرحالة، في رحلته الحجية، على مراحل أداء فريضة الحج كما هو وارد في الأثر. وكان كل عنوان من عناوين الرحلة يشكل محطة من محطات أداء الشعيرة، أو المناسك، بمختلف مراحلها، وجزئياتها. يبدأ النزول ب (جدة)، و يتخذ الرحالة قراره للقيام بحج التمتع، أي أداء العمرة، قبل أداء الحج، والوصول إلى مكة، والقيام بطواف الإفاضة سبعة أشواط-حول الكعبة المشرفة، متبوعا بالسعي بين الصفا والمروة سبعا… الخ. ثم يبدأ الحج الرسمي بالدخول إلى منى ‘كل الحج جله في منى’، والصلاة بها- ظهرا وعصرا ومغربا وعشاء- والمبيت بها، وأداء صلاة الفجر، ثم رمي الجمرات، و وصولا إلى’ عرفات الله يا خير زائر)- وهو ركن من أركان الحج لايصح الحج إلا به- والوقوف بها، ثم ممارسة الهدى، أو الأضحية، لترمى الجمرات، من جديد، ثم قراره ترك ‘طواف الإفاضة’ وجمعه مع ‘طواف الوداع-أيام التشريق- وأدائه للمنسك السابق عليها، رغبة في ممارسة معاناة حقيقية في هذا المكان الأطهر بهدف كسر ( قوقعة الرفاه الذي أنا فيه) ص، 64، وهو يتجه نحو البيت الحرام، ثم الكعبة المشرفة، ليتمكن من الطواف بمشقة شديدة، ةثم العودة أخيرا إلى منى’، وانتظار منتصف الليل، للدخول في اليوم الثالث من التشريق، وإنجاز ما تبقى من المناسك الأخيرة، خاصة طواف الوداع بالبيت العتيق، ليكون هذا الطواف آخر عهد بالبيت الحرام امتثالا لقوله عليه السلام (لاينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت). التزام الرحالة-عن طريق السرد الخطي- بالمراحل الحجية، كما جاءت في الأثر، لم يمنعه من حفر خط مواز للرحلة الحجية، تجسد في الرحلة الحكائية المتوازية، والمتقاطعة، مع الرحلة الأولى. واستطاعت هذه الرحلة الموازية أن تخلخل البناء النصي مخترقة المسار الخطي للرحلة الذي أصبح خطا عموديا وأفقيا- يمتلئ بالبؤر الحكائية، أحيانا، أو، أحيانا أخرى، بالأوضاع المختلفة(بورتريهات/استرجاعات/ وقائع محددة، / توصيفات..) التي تجسدت في الأساليب التالية:

1-أسلوب الإعتراف الذي غلف شعرا ونثرا- مقاطع عديدة من الرحلة كشفت عن هاجس إيماني متين (ها أنت تركب طائرة خدام الحرمين… لايعرف أنه ينقل إنسانا ابتلى عمرا كاملا بالصبوات، متبتلا في محراب عشق تذوب لتهجيته حروف الكلمات، كلما أوغل في سبيل الدنيا آوته شغاف صلوات صوفية، وأذكار هامسة تتلوها أطياف مائسة…) الرحلة. 22. وساهم أسلوب البوح في ممارسة تعرية مزدوجة ان انصبت على الذات والآخر في آن واحد. فتعرية الذات تسمح بخلق كائن ‘جديد’يستعد للقاء ربه بما له وبما عليه. وتعرية الآخر تمكن السارد من الإلمام بمظاهر الحج وملابساته المختلفة.

2- الأسلوب النقدي الذي لاتكاد تخلو منه صفحة من صفحات الرحلة. والرحالة يمارس نقده من موقع محاربة المنكر (ولو باللسان) بدءا بالإستعدادات الغريبة المصاحبة للحج(ص، 21) مرورا بمظاهر عديدة انسحبت على أداء المناسك وعلى الأكل والشرب والملبس، ( ص37، 24، 38)وصولا إلى اللحظات الأخيرة من الممارسة الحجية. (ص، 93)

3- يغلب على سرد الرحلة ضمير المتكلم من الصفحة الأولى( قضيت يومين من شهر نونبر..) إلى آخر صفحة من صفحاتها (ها أنت عدت بجسدي القليل..) في سياق تقديم تجربة خاصة عاشها السارد طوال ففترة الحج. غير أن ضمير المتكلم المفرد يظل طوال الرحلة- في حوار لايفتر مع ضمير المتكلم الجمع تحقيقا للآتي:

أ الجمع بين الشخص والشخصية، بين الشاهد والحاكي. وما يراه الشخص قد لاتراه الشخصية، كما أن الشاهد المشارك للآخرين، يتحين الفرصة الملائمة للتعبير عن موقفه من المرئي (أما حين تركنا عرفة، فقد رأيت أكوام الأزبال عالية ربما غطت على الدعوات المرفوعة إلى السماء من قبل هؤلاء المسلمين الغرباء، أبوا إلا تدنيس هذا المقام بنفاياتهم..) ص، 61.

ب- الإصرار على التميز الذاتي من خلال منظاره الشخصي الذي لا يخلو من نسبية، لكنه في الوقت ذاته يظل السبيل الأمثل لتقديم هذه التجربة التي توزعت بين الشعر والنثر. ف(كل ما أستطيع هوما رصدته من منظاري، يبقى منظاري الشخصي، المقترن بمعتقدي وإحساسي) ص، 45. والمنظور ذاته يبرز شعرا في لحظات شفافة يتسنم فيها الرحالة مراقي الملكوت: كنت ظمآنا، ما أزال، أنا الآن هنا، مسراي من منى ومعراجي (إلى أين؟) عطشي نار، ياماءه اعتقني، يا الماء!

4- الأسلوب التعليمي الذي يلازم الخطاب الرحلي، عادة، بحكم ارتباطه بمتلق يجهل المروي، أو يمتلك معرفة محدودة عنه تقتضي الشرح والتأويل، أو، من جهة ثالثة، الرغبة في تصحيح ما يجب تصحيحه من مواقف وأحكام سائدة. في الرحلة لايتردد الرحالة في السير على خطوات الأوائل( فقرات من وثيقة الإرشاد إفادة لغير العارف، ص. 42)/كتاب الشيخ الفزان/’ شرح مناسك الحج والعمرة على ضوء الكتاب والسنة:

للشيخ صالح بن فوزان الفوزان. . ص. 29/30.

عبر تقديم المراحل الحجية (فقه المناسك)، غير أن ذلك لم يمنعه من تحوله إلى دليل لايتردد في وصف طوبوغرافية المكان الذي خضع للعديد من المتغيرات، مما دفع بالرحالة إلى استعمال ضمير المخاطب وهو ينتقل بين مكان وآخر: (إذا جئت مكة، وقبل أن تنزل تحت أول نفق يفضي إلى مركزها، در من أول منحرف صاعد إلى اليمين، أعلاه ستصب سيارتك في شارع يقود إلى حي العزيزية الجديد.. ) ص،42.
والتعليمية، أيضا، دعمت الحس النقدي الذي استفاد من التراكم المعرفي للرحالة، تصحيحا وتوضيحا وتثمينا.

5-لم تخل الرحلة من الموقف الطريف سردا ووصفا. فالروح الساخرة تتخلل الرحلة في مواقع عديدة، دون أن تتحول إلى قدح أو قذف أو هجاء، بل تظل مرابطة داخل دائرة المتعة والترويح عن النفس خلال مواقف محددة. فهي أحيانا تقوم على المفارقة (كانت أفواج القادمين لرمي الجمار لاتتوقف، من موقعي أراها تتوالى كالسيل العرم الذي جرف قسما من جدة، فيما خلفي حجاج نهمون لا يكفون يملأون الصحون) ص. 51.

وهي أحيانا أخرى تستند إلى المبالغة بهدف الإثارة وشد الإهتمام(هالني حجم أطباق بعض الضيوف، وأصناف ما تجلبه النسوة من طعام كأنهن يستعددن لغزوة بدر) ص. 38.

وقد تتحول، احيانا أخرى، إلى أداة نقدية تنصب على ما تراه خارجا عن المألو (… فيما تأخر غدونا نحن، جراء من سيسببون لنا مغصا منتظما طيلة مراحل اللقاء اختلط عليهم الحج برحلة سياخية مرفهة، فغبقوا يبطؤوننا كل مرة في تهافتهم بيم موائد الطعام، وأي بضاعة في الطريق، واحيانا في تعبد مفتعل)ص، 40.

6- ابتعدت الرحلة عن الأسلوب الوظيفية (اللغة العارية) التي تعد حجر الزاوية فيى المتن والرحلي المراهن على التواصل بين السارد والمتلقي غير العارف بالمرئي. في (الرحلة إلى بلاد الله) مستويات من الأدبية تتوزع بين السرد القصصي والصياغة الشعرية، بين المشهدية والطابع الساخر، بين السجالية والإستبطان، بين الحكي الخطي لمراحل السفر واللحظة التبئيرية للموقف او الصورة أو النموذج الدال، بين اللغة المعيارية والمعجم الخاص للرحالة. وفي كثير من الأحيان، كان الرحالة ينتصر لشخصية السارد معلنا، تصريحا وتلميحا، عن هويته السردية، منوعا في الأساليب والصيغ والمواقف.

بعودتنا إلى المتن الرحلي، يضع القارئ يده على على نص يطرح إشكالية مزدوجة: إشكالية الرحلة وإشكالية الرحالة. في المستوى الأول يتمرد النص على جنسه من حيث كونه رحلة حجية/ حجازية مفارقة للرحلة التقليدية التي اهتمت بتقديم بتقديم المناسك بالدرجة الأولى، في حين اهتمت الرحلة الحالية بتقديم التجربة الإنسانية، في قوتها وضعفها، أثناء إنجاز المشاعر الحجية. ومن ثم لم يتردد الرحالة وهذا هو المستوى الثاني- في الجهر بقناعاته، دون زيف أو بهتان. ولعل هذا ما يفسر طبيعة اختيار العنوان الدال على طبيعة الإرتحال ذاته.

إنها رحلة اكتشاف الله في الذات الإنسانية، قبل أن تكون رحلة إنجاز النوافل، أو الركن الخامس من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلا. والمكان ذاته-أرض الأنبياء ص84- معلق ( بين الأعلى والأسفل، الممتد خارج الأزمنة ص. 85. ) وهو يخترق الذات المشرعة على المابين’، بين الحقيقة والمجاز على حد تعبير الكاتب. (ص. 85.) واستطاعت الصياغة الشعرية أن تفي بالمطلوب من خلال صدى صوت الأنا الهائمة في الملكوت:

كنت منهم، ذبت فيهم، تحللت بلا ذنب من كل الآثام

لم أعد أحتاج إلى صوتي،

شعاع الأبيض، غلالته، الهديل وريش اليمام،

ناب عن حبي، لما استوى على العرش، خرس الكلام.

كنت ظمآنا، ما أزال، أنا الآن هنا، مسراي من منى=،

ومعراجي(إلى أين؟) عطشي نار، ياماءه اعتقني، ياالماء! ص. 46.

إن المكان، في الرحلة، ليس مجرد موضوع للإدراك، بل هو الإدراك ذاته، حينما يتحول إلى ذات وهوية وتاريخ. (وأي مكان آخر في بلاد الله هذه يهفو إليه الفؤاد، فليعلموا أنها له، لكل من تطلع لرب الكعبة، وعشق نبيه الكريم، لهم بها حق مذ انطلقت منها دعوة الدين الحنيف) ص. 86.

الرحالة، إذن، يتقرى المكان بروحه، قبل أن يتقراه بحواسه، منتهيا إلى صورة ثابتة لازمته في اليقظة والمنام. تلك هي صورة البياض الذي اتخذ دلالات عديدة جمعت بين الموت والحياة، البعث والفناء، المحدود والمطلق، الكفن والشهادة، المحسوس واللامحسوس (صورة بيضاء مطلقة، هي للقيامة، والموت والزوال، هي للانتقال في حالة من الرهبة البيضاء، انتقال إلى عالم مطلق، تلجه بلا مخيط، والمخيط رمز الدنيوي، خيط الإرتباط بالمادي) ص. 97

*
أحمد المديني: الرحلة إلى بلاد الله. من المعارف الجديدة. منشورات فكر. الرباط. 2010.