مصر تودع صلاح عيسى صحافياً رائداً

وكاتباً في طليعة «المشاغبين»

سيد محمود

ودعت الثقافة المصرية يوم 25 ديسمبر 2017 الكاتب صــلاح عيسى عن عمر ناهز 78 سنة بعدما وافتــــه المنــــية مســـاء أول مــــن أمــــس عقب غيبوبة دامت خمسة ايام، إثر أزمة رئوية حادة. ولقي خبر رحيل عيسى الذي يوصف بأنه «آخر أسطوات الصــحافة المصرية»؛ اهتماماً واسعاً فــــي وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي نظراً لتنوع اهتماماته، وارتبـــاطها بمختلف مجالات العمل العــــام، وزاد من تأثيره كونه اعتبر كتاباته الصحافية دائماً نوعاً من «المشاغبات»، ولذلك لم تكن محل رضا سواء من رجال السلطــة من «العسكر» أو معارضيها من «المثقفين». وكأن حياته انطوت على مفارقة لخّصها في عنوان كتابه الأشهر «مثقفون وعسكر» (1983) وقد جرّت عليه الكتابة متاعب كثيرة واجهها برحابة وبنبرة ساخرة لم تفارقه أبداً.

وبينما عاش عيسى عمره كله بين «طليعة المناضلين»؛ اتهمه الخصوم بمواءمة السلطة والوقوف الى يمينها في سنواته الأخيرة وهي لم تخل من بعض «التكريس» مع توليه رئاسة تحرير صحيفة «القاهرة» التي تصدر عن وزارة الثقافة، حتى توليه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للصحافة في أعقاب إطاحة حكم جماعة «الإخوان المسلمين» في منتصف العام؛ وهو المنصب الذي اختفى في تعديلات قانون الصحافة العام الماضي.

وتعرض عيسى لأولى تجاربه في الاعتقال السياسي ضمن مجموعة من المبدعين في تنظيم يساري صغير اسمه «وحدة الشيوعيين»، ضمّ إلى جواره جمال الغيطاني وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب ويحيى الطاهر عبدالله ومحمد إبراهيم مبروك وخليل كلفت وصبري حافظ وإبراهيم فتحي، وتم إطلاقهم بعد توسط الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر عشية زيارته القاهرة قبل هزيمة حزيران (يونيو) 1967.

وانطلق عيسى في مسيرته من عبارة أثيرة لمكسيم غوركي يقول فيها: «جئتُ إلى الدنيا لأعترض»؛ وبفضلها بنى أسطورته ككاتب ملهم لأجيال عدة وجدت فيه الكاتب «المثال» منذ ارتباطه بحركة الطلاب في سبعينات القرن الماضي.

جاءت شهرته الصحافية بسبب مقاله «مستقبل الديموقراطية مصر»، الذي نشره في مجلة «الكاتب» القاهري عام 1974 وانتقد فيه ممارسات نظام عبدالناصر، ما أدى إلى تغيير هيئة تحرير المجلة ثم إغلاقها ومعها غالبية المنابر الصحافية الثقافية.

وتكرر اعتقاله خلال حكم السادات، أولاً بسبب معارضته اتفاق «كامب ديفيد» عام 1977 وثانياً في أيلول (سبتمبر) 1981 ضمن حملة «خريف الغضب»، حيث وجد نفسه في زنزانة واحدة مع الصحافي محمد حسنين هيكل الذي بدأ يبني اسمه على الخلاف معه، والسياسي الوفدي البارز فؤاد سراج الدين الذي قدم إليه الكثير من أسرار تجربته السياسية بفضل إعجاب لازَم عيسى بشخصية زعيم الوفد مصطفى النحاس.

استفاد عيسى من تجارب السجن لمصلحة الكتابة، ففي التجربة الأخيرة شرع في كتابة «محاكمة سراج الدين»، وهو كتاب لم يكتمل. وفي التجربة الأولى بدأ تأليف كتابه الأول «الثورة العرابية» ونشره عام 1972. وبفضل الأثر الواسع الذي تركه هذا الكتاب واصل عيسى مساهماته في الكتابة التاريخية عبر التزام منهجي واضح يقوم على التحري والتدقيق والفحص، إلا أنه تحرّر من الطابع الأكاديمي الجاف وسعى الى بناء سرديات تركز على دراما الأحداث والشخصيات، وهي سمة طغت على مؤلفاته البارزة ومنها «حكايات من دفتر الوطن».

ومضى صاحب «تباريح جريح» في الطريق ذاته الذي سبقه إليه علمان من أعلام الصحافة هما أحمد بهاء الدين ومحمد عودة، ومثلهما أيضاً أبدى التزاماً واضحاً بالخط العروبي القومي في توليفة ذات نبرة ماركسية لافتة، واحتوت مسيرته على مساهمة واضحة في إبراز الحق العربي في فلسطين عبر مؤلفات عدة. وتورط عيسى أكثر مع التاريخ وصاغه في سرديات شعبية رشيقة؛ حقّقها كـ «مشاهد» ضمن أفلام «معدة للعرض»، وقد تحوّل بعضها إلى أعمال درامية تلفزيونية حققت نجاحاً كبيراً. وألحّ عليه البعض ليكتب سيرة ذاتية خالصة تؤرخ لتجربته منذ ميلاده في قرية «بشلا»، القريبة من مدينة المنصورة في شمال مصر، مروراً بظروف دراسته الخدمة الاجتماعية ثم العمل في الصحافة ضمن الجيل الثاني من محرري جريدة «الجمهورية» التي عرفت بجريدة ثورة تموز (يوليو) حتى تفرّغه للعمل في صحيفة «الأهالي» التي تمثل منبر اليسار المصري.

إلا أن عيسى رأى أن سيرته موزعة في مؤلفاته (23 كتاباً) وتكشف بوضوح عن انحياز بالغ إلى الفقراء إلى جانب إيمان بفكرة «الحرية»، واعتبر الصحافة منصة نضالية هدفها تحسين شروط العيش الإنساني، لكنه لم يتغافل أبداً عن «الجوانب المهنية» وكان من أبرز القامات التي واجهت محاولات النيل من حريتها من موقعه النقابي، وعدّ طه حسين مثلاً أعلى من بين كل مفكري عصره الذين أثروا فيه.

ومثلما تجاهل كتابة سيرته الذاتيه لم يتمكن الراحل من استعادة شغفه بالقصة القصيرة، حين قدم مجموعة «جنرالات بلا جنود»، وبقيت روايته «مجموعة شهادات ووثائق لخدمة زماننا»، وحيدةً؛ لا يغيب فيها ولعه بقيمة «التوثيق». ومن كتبه البارزة ايضاً «دستور في صندوق القمامة» و «رجال ريا وسكينة».

صلاح عيسى استراحة «مشاغب«
مشاهد كثيرة طافت بذهنى عندما تلقيت نبأ وفاة الكاتب الكبير صلاح عيسى أمس الأول لكنى تذكرت اول ما تذكرت صورتى وانا على اعتاب دراستى الجامعية حين كنت بصحبة والدى نزور أحد زملائه بالعمل وكان نقابيا تعرض للفصل من وظيفته.
ومن شرفة بيت صغير تطل على ميدان السيدة زينب بقيت ارقب العالم بملل حتى لمحت كتابا على طاولة فى ركن مهمل ولم يكن إلا كتاب «حكايات من مصر» فى النسخة التى كانت معدة للفتيان وما ان بدأت قراءته حتى اندمجت تماما وقد لاحظ صاحب البيت هذا التورط فأصر مجاملا على أن اخذ الكتاب معى كهدية لأكمل قراءته على مهل لكنى انتهيت من قراءته كاملا فى المترو قبل أن اصل إلى بيتنا فى حلوان.
وبفضل شغفى بالكتاب وبكتاب آخر لا يقل جمالا هو كتاب «أيام لها تاريخ» لأحمد بهاء الدين حسمت ترددى وقررت دراسة التاريخ وتوقعت ان تعتمد دراستى على كتب شبيهة لكن ظنى قد خاب.
وبالمصادفة تعرفت على زميلى سيد خلف طالب قسم الجغرافيا الذى كان يكبرنى بعام ويقرأ جريدة (الأهالى) بانتظام لأجل اسمين فقط هما ناجى جورج وصلاح عيسى وتحت تأثير صداقته داومت على قراءة الجريدة التى علمتنى الكثير أيام تألقها التى لا تنسى ومنها عرفنا ان صلاح عيسى أصدر كتابا عنوانه «مثقفون وعسكر» (1986)، لا أعرف كيف وصل الينا لأن صاحبى قام بتجليده بورق جرائد ليحافظ على اناقته التى كانت فى الظاهر والباطن.
لا أذكر من فينا كان صاحب الكتاب من فرط ما تبادلنا قراءته لكن تأثيره بقى حيا إلى اليوم، ولا اعتقد أن كتابا صنع بنا ما صنع هذا الكتاب الكبير فقد اعتبرنا ما فيه «تعاليم» و«وصايا» ينبغى اتباعها وبفضله عرفنا الاسم وحفظناه وتتبعنا خطواته كما يفعل محققو الأثر، كنا «مريدين» لكاتب عرفنا مبكرا أنه «شيخ طريقة».
لفت نظرنا صلاح عيسى بأسلوبية فذة وفريدة، لأن بنية الكتاب قامت على مقالات لم تكن قصيرة كتلك التى نعرفها ولا طويلة مدججة بنبرة اكاديمية جافة أو رؤى نظرية تصيب القارئ بالصداع وانما كانت أقرب إلى «سرديات قصصية» هدفها العبرة والمتعة وهذا واحد من دروس صلاح عيسى الكثيرة التى لم يتخلَ عنها ابدا، فهو على خلاف الكثير من الكتاب لم يكن يكتب بنبرة متجهمة مهما كانت جدية الموضوع الذى يطرحه.
تشعر أنه يبتسم وراء كل فقرة يكتبها، وعبر مسيرته تمكن من خلق أسلوب يتمتع إلى جانب الرصانة بكثير من الأناقة والرشاقة والعمق والخفة بالمعنى الجمالى.
وحين بدأت العمل بالصحافة كان هو «مصدرى المفضل» بعد دقيقة واحدة من أى اتصال معه كنت أرى الموضوع الذى أرغب فى كتابته فهو يعطى الخطة والمسار والدليل ويقلب الأوراق كلها ولذلك كان كل اتصال معه «بيان على معلم» وكذلك كانت حياته واضحة لم يخف انحيازاته فى أى من مراحلها.
تعامل مع كل خلاف برحابة نادرة واتساع افق حقيقى وبلغ مبكرا «سنوات الغفران» التى يستطيع من يبلغها أن يستوعب ويقفز فوق تناقضات كثيرة لاحقته.
وعلى الرغم من ان «مشاغباته» الصحفية جرت عليه معارك كثيرة وحصرته فى السنوات الأخيرة فى الثنائية التى صاغها هو مبكرا فى عنوان (مثقفون وعسكر) إلا أن ما قدمه لمهنة الصحافة أكبر بكثير من هذا الاختزال المخل وما حصده فى نهاية الرحلة أقل بكثير مما يستحق.