العزيز صلاح عيسى

أحمد الخميسي

أينما وليت وجهى، أجدني أعود إلى صلاح عيسى، وإلى وحشة فراقه التي لم تترك سوى الأعشاب الجافة والهشيم على امتداد القلب. تلقيت نبأ رحيله وأنا داخل كنيسة مار مرقس أتلقى العزاء في رحيل العظيمة ثريا شاكر، والدة أخي حسام حبشي ووالدتي بالعشرة. وحطت علىّ الوحشة كالصقيع.
تعرفت إلى صلاح عام ١٩٦٥، أو قبل أو بعد ذلك بعام. كان يدرس مع أحد أقاربنا بمعهد الخدمة الاجتماعية في جاردن سيتي، ولما كان منزلنا قريبًا من المعهد، اعتاد صلاح أن يأتي برفقة قريبنا ذلك بعد انتهاء الدراسة، فيستريح قليلًا ويثرثر ويشرب الشاي عندنا مع أدباء شباب ممن كانوا يترددون على منزلنا.
أحببت صلاح من اللحظة الأولى بلفظه الريفي، الذى يكاد لا يسمع، وضحكته التي تظهر لك أنك أمام فلاح بسيط وعميق، ذكى وساخر وعامر النفس بالغفران. فيما بعد بدأنا نزور صلاح في بيته، وكان يقع بجوارنا في السيدة زينب. في بيته رأيت للمرة الأولى على جدران شقته صور مكرم عبيد، وسعد زغلول، وأحمد عرابي. وكان صلاح عيسى أول من لفت نظري، أنا وجمال الغيطاني إلى أن من لا يعرف تاريخ مصر لا يستطيع أن يحبها أو يفتديها. وصلاح عيسى هو الذى فتح للغيطاني أبواب المقريزي، وابن إياس، والتاريخ المملوكي، الذى ألهم الغيطاني الكثير من رواياته فيما بعد. وكان صلاح من أوائل من احتضنوا الحركة الأدبية وأدباءها في الستينيات. نشر لي وللكثيرين قصصنا في مجلة «الحرية» البيروتية.
في تلك المرحلة كانت الستينيات، لحظة خاصة في تاريخ مصر وحياة المثقفين، فقد كان البحث يدور فيها عن حل في مواجهة نظام وطني، لكنه غير ديمقراطي، يقوم بالتصنيع ويعتقل، يحارب الاستعمار ويصادر النشاط السياسي. في تلك السنوات، حين كانت مجرد كلمة عابرة غير محسوبة في التليفون كفيلة بإلقاء الإنسان في السجن، انهمك صلاح عيسى في النشاط السياسي بعنفوان وآمال كبار. وسرعان ما طالته يد الاعتقال عام ١٩٦٦ مع آخرين بتهمة تشكيل حزب.
خرج صلاح من اعتقال دام ستة أشهر، كما كان قويًا ومتفائلًا. كف عن كتابة قصصه القصيرة، التي بدأ بها طريقه لكنه تفرغ تمامًا لعشقه الكبير: الثورة العرابية وزعيمها والفلاحين، فأصدر أهم ما كتب في ذلك الموضوع. فيما بعد تم اعتقالي أنا وصلاح عيسى وزميل آخر في المظاهرات الطلابية فبراير ١٩٦٨. وظللنا معًا في معتقل طرة نحو عامين داخل زنزانة واحدة في البداية، ثم معًا في عنبر واحد بعد أن زاد عدد المعتقلين اليساريين. لا أذكر بالضبط أي قرار كان عبدالناصر قد اتخذه حينذاك، بحيث ارتأى البعض ضرورة إصدار بيان تأييدًا لعبدالناصر، لكن قلة قليلة - ونحن داخل المعتقل - وقفت ضد إصدار البيان، من بينهم أنا وصلاح.
وكنا ننطلق من أننا إذا أصدرنا بيانًا، ونحن مكتوفو الأيدي داخل الزنازين، فسوف تفهم على أنها استرضاء للسلطة وليس اقتناعًا بموقف. كان صلاح شجاعًا وجميلًا وقويًا، وهو يعلن رفضه التوقيع على البيان، وهو يعلم تمام العلم تبعة ذلك الرفض. وكان صلاح يشيع التفاؤل بيننا بضحكاته وإنسانيته في الأماسي حين نجتمع حول البُرش المحشو قشًا، لنتذكر فيلمًا، أو نستمع لقصة كتبها زميل. أذكر مرة شعرنا بأن ضباط المعتقل في طريقهم إلى العنبر لتكديرنا، وكانت الأقلام والأوراق من الممنوعات، فأسرع الجميع يخفى أوراقه في دورة المياه القائمة داخل العنبر في نهايته. وعندما انتهت هجمة التكدير تراخينا نريح أعصابنا، ودخل بعضنا دورة المياه. وكان معنا زميل يكتب قصصًا قصيرة يستحيل فهمها أو احتمالها، وإذا بذلك الزميل يخرج من دورة المياه صارخًا: «قصصي القصيرة! إبداع عمرى كله ضاع!«.
سأله صلاح باهتمام: «خير.. ماذا حدث؟»، فقال ملتاعًا: «أخفيت القصص كلها في دورة المياه ساعة الهجمة، فتبول عليها الزملاء دون قصد بعد انتهاء التكدير»!، فرسم صلاح على وجهه أمارات من يستهول الخسارة الأدبية وهو يهمس لي: «القصص المناسبة في المكان المناسب»! لازمت البساطة صلاح عيسى في كل ما فعله. كان يكتب ليس لكى يتفاخر بما يعرفه، بل ليصل إلى الناس، كان ينتقد، فلا تشعر أبدًا بضغينة أو كره تجاه ما ينتقده أو من ينتقده، وكان مخترع أبواب وصفحات ثقافية وفكاهية ومجلات تلمح فيها كلها تلك السخرية الخفيفة الجميلة والقدرة على رواية التاريخ في قصص ممتعة وقدرته غير المحدودة على التسامح والغفران.
أسس وشارك في إنشاء وإدارة وتحرير مجلات: «الكتاب»، و«الثقافة الوطنية» و«الأهالى»، و«اليسار»، و«الصحفيون»، وكان قبل وفاته رئيس تحرير القاهرة. ترك العديد من الكتب المهمة، التي ستبقى ما بقيت ثقافة مصرية: «الثورة العرابية»، و«البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة»، و«مثقفون وعسكر»، و«دستور في صندوق القمامة» وغيرها. هذا هو صلاح عيسى العزيز، الذى أعرفه، والذى أظل أصون له المحبة الصادقة. الكاتب الفلاح الوافد من قرية «بشلا» مركز ميت غمر دقهلية، الذى قدم سنوات من عمره للسجون، وسنوات من عصارة روحه للثورة العرابية وتاريخ مصر، ثم رحل تاركًا على امتداد القلب وحشة، وخلاء متراميًا من الهشيم.