مشكلة جماعة الإخوان المسلمين، هي أنها تأسست انطلاقا يوتوبيا -أي مدينة فاضلة- رجعية، وتولت فكرتها في أعقاب إعلان «مصطفي كامل أتاتورك» إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924، إذ كان مؤسسها «حسن البنا» أحد الشبان الذين نشطوا داخل اللجان التي تأسست آنذاك في مصر، وفي غيرها من البلاد الإسلامية لنقل الخلافة إلى بلد إسلامي غير تركيا .. ولكن علماء المسلمين الذين احتشدوا لهذا الغرض في «مؤتمر الخلافة» الذي انعقد في القاهرة فشلوا في العثور على هذا البلد، إذ كان كل منهم مكلفا بالسعي إلى نقل الخلافة إلى بلده دون غيرها، ولف شال عمامتها على تاج الملك أو السلطان الذي يحكمها دون غيره من التيجان!
لكن حلم إعادة الخلافة لم يغادر عقل وقلب «حسن أفندي البنا» -مدرس اللغة العربية والدين والخط في مدرسة الاسماعيلية الابتدائية- فشرع منذ عام 1928، في تنفيذه، ولكن بأسلوب مختلف .. فبدأ بتجميع المسلمين وحشدهم وتنظيمم حول أبسط أولويات دينهم، بهدف تكوين (الفرد المسلم) ليؤسسه أسرة مسلمة، تكون الخلفية الأولى في تكوين «المجتمع المسلم»، ولأنه كان يؤمن بأن الذي أضعف المسلمين وفتت دولتهم الموحدة، وأنهي الخلافة ومكن أعداءهم منهم، هو الخلافات الفقهية التي شتتهم إلى فرق ومذاهب، فقد حرص على أن يظل باب الاجتهاد، الذي أغلق منذ القرن الرابع الهجري، مغلقا، وأحكم وضع المتاريس خلفه. ولأنه كان منظما موهوبا، فقد ظل على امتداد الأعوام العشرين التي قاد فيها الجماعة يعمل بلا كلل على حشد الأنصار وتنظيم صفوفهم، لتحقيق حلم إعادة المجد الإسلامي كما كان في عصر النبوة والخلافة الراشدة، من دون أن يتنبه إلى أن عصر النبوة قد انتهي، وأن الخلافة الراشدة، كانت اجتهادا بشريا لم يرد عنه نص في قرآن أو سنة، وأن حشد الناس لإعادة تخليق هذا الحلم، يتطلب فتح باب الاجتهاد الإسلامي، لتحديث الحلم، بما يوائم تغيرات الزمان الذي لم يعد فيه أنبياء ولا خلفاء راشدون ولا صحابة مهديون ومهتدون.
ولأنه لم يكن فقيهًا أو مجتهدًا بل كان مجرد منظم عبقري، فقد اكتفي بالشعارات العامة، ولم يترك لجماعته تراثا فقهيا سوى رسائله القصيرة، وما كان يلقيه من خطب في «حديث الثلاثاء». وفي سنواته الأخيرة، وأمام التحديات الفكرية والفقهية التي واجهت الجماعة من خارجها، وأثارت الخلافات داخلها، وعد أنصاره بأن يتفرغ بصياغة رؤية جديدة تكون أساسا لنشاطها. ولكن الزمن لم يمهله .. ورحل من دون أن يفعل، بعد أن بنى جماعة ذات تنظيم حديدي، تقوم على الطاعة المطلقة، لكنه غادر الدنيا قبل أن يبني لها رأسا.
وكان ذلك ما فعله خلفاؤه، الذين أعادوا إحياء تنظيمه بالحماس نفسه، وبالكفاءة ذاتها، حتى أصبح أقوى مما كان عليه في عهد المرشد المؤسس، ولأن أحدا منهم لم يكن فقيها أو مجتهدا، ولأن حرصهم على بقاء التنظيم، كان أكثر من حرصهم على الإسلام نفسه، فقد وضعوا مزيدا من المتاريس خلف باب الاجتهاد المغلق. وكانت النتيجة أن تضخمت عضلات التنظيم على حساب رأسه، واتسعت عضويته على حساب عقله.
والذين يقرأون تاريخ الإخوان المسلمين، يعرفون أن معظم الانشقاقات التي وقعت فيها، وانتهت بتأسيس جماعات إسلامية خرجت من عباءتها أو كانت صدى لدعوتها، أو أنشئت في مواجهتها بدأت بأفراد اكتشفوا أن لهم رءوسا تفكر، فبدأوا يجتهدون في البحث عن معنى محدد لشعار «الإسلام هو الحل». وهو الشعار الذي قامت على أساسه الجماعة وإن لم تتم صياغته إلا عام 1978 بعد نصف قرن من تأسيسها ــ بعد أن عجزوا عن أن يجدوا له ترجمة محددة، في برامج تثقيف الأعضاء وفي برامجها وحركتها السياسية!
مشكلة الجماعة ــ كما قلت أكثر من مرة ــ إنها تنظيم ضخم بلا رؤية، وحشد مترهل بلا رأس، وعضلات متورمة بلا عقل، لأنها لم تحاول في أي يوم من الأيام، أن تجتهد لكي توائم بين الأفكار الإسلامية، وبين ضرورات الدولة المدنية، وهي الصيغة التي توصلت إليها البشرية، بعد قرون من العذاب، فقد فيه مئات الملايين من البشر حياتهم بسبب الحروب الدينية وبسبب استحلال البعض للقتل باسم الله.
ولو أن الجماعة كانت قد بدأت من حيث انتهي «جمال الدين الأفغاني» و«محمد عبده» وطورت أفكار مدرسة التنوير الإسلامية، لكانت قد وضعت مشروعا إسلاميا عصريا يحتفظ لها بمكان على الخريطة السياسية للوطن وللأمة في المستقبل، سوف يتقبله الآخرون في الوطن انطلاقا من أن «الجماعة وضعم» .. أما و«الجماعة لم يضعوا» .. فإن مصيرها، لن يختلف عن مصير المنظمات التي قامت على قاعدة جسد بلا رأس .. وعضلات بلا عقل!
والله أعلم..