ترى الباحثة الإيطالية أن ردود أفعال المثقفين الإيطاليين على قضية تأثير الثقافة العربية والإسلامية على إنتاج دانتي اتسمت باللوم في البداية، ثم بالصمت، وبعد ظهور ترجمة رسالة بلاثيوس الذي يثبت فيه التشابهات الكبيرة بين رحلة دانتي في عالم الآخرة وقصة الإسراء والمعراج اتسمت بالاعتراف والبحث في تأثير الثقافة العربية على أعمال دانتي.

كيف يرى الإيطاليون تأثر دانتي بالثقافة الإسلامية

ماريانّا ماسّـا

 

دانتي والكوميديا الإلهية: السياق التاريخي:
يعدّ دانتي أبًا للغة الإيطالية، فهو أول من ألّف كتابًا بلغة غير اللاتينية. حيث إن حوالي ٨٠٪ من المفردات التي استخدمها في (الكوميديا الإلهية) ما زالت تُستخدم في اللغة الإيطالية حتى اليوم، كما أن الكثير من التعبيرات التي ابتدعها أصبحت شائعة في اللغة الإيطالية، مثل تعبير "البلد الجميل" (il Bel Paese) الذي يدل على إيطاليا.

 ويدعم هذه الفكرة ما ذكره كاظم جهاد - أحد مترجمي (الكوميديا الإلهية) إلى العربية - في مقدمة ترجمته: "لم تتغير اللغة الإيطالية كثيرًا منذ عهد دانتي الذي ساهم في خلقها بابتعاده عن اللاتينية لصالح العامية التي صارت فصحى بلاده، نوعًا ما كما فرض القرآن لهجة قريش على باقي لهجات العربية" [كاظم جهاد ص ٩].

وُلد دانتي عام 1265م في فلورنسا، في حقبة مرَّت فيها الحضارة الأوروبية بتغيرات جذرية مع خروجها من العصور الوسطى، مما أدى إلى تأثر إنتاج دانتي الأدبي تبعًا للظروف السياسية التي كانت تمر بها إيطاليا. ويقول حسن عثمان في مقدمة ترجمته للـ(كوميديا الإلهية): "إنّ فلورنسا في عصر دانتي كانت "سابقة على الثورة الفرنسية"، حيث أقام حكامها دستورًا يدافع عن الديموقراطية - كما عُرفت في ذلك العصر - وأصدرت ما يشبه إعلانًا لحقوق الإنسان ... وأعلنت أنّ الحرية حقٌّ طبيعي للإنسان". وكان دانتي مؤمنًا بحق الإنسان في الحرية - خاصة حرية البحث عن العلم والمعرفة - كما يتضح من صور طالبي العلم وباحثي المعرفة التي تظهر في الكوميديا الإلهية.

حينئذ كانت إيطاليا منقسمة بين حكومات مختلفة وتحت صراعات مستمرة في الداخل والخارج، وكانت فلورنسا بالتحديد تعاني من الانقسام العميق بين الجيلين، أنصار سلطة الإمبراطور على البابا، والجويلف (أنصار سلطة البابا على الإمبراطور) وهو "الحزب" الذي انتمى إليه دانتي، وهو ما يتفق مع رؤيته بأن المرشد الروحي والديني هو الأهم في حياة الإنسان، فهو من يمتلك الرؤية الشاملة لحياة الإنسان وما بعدها، ورأى دانتي أن على الإمبراطور دائمًا أن يتبع آراء البابا في الشؤون الدينية والروحية. ولكن تدخل البابوية تجاوز حدود مهمتها الدينية والروحية وانشغلت في الصراعات السياسية وفي شؤون الدولة، مما أدى إلى انقسام حركة الجويلف إلى "الجويلف البيض" الذين يريدون الحد من تدخل البابا في السياسة، و"الجويلف السود" الذين لا يريدون الحد من سلطة البابا. وعندما فاز حزب الجويلف السود حكموا على دانتي بالمنفى، أو الإعدام إن بقي الشاعر في فلورنسا. فقام الشاعر بالتنقُّل بين المدن الإيطالية وتقديم خدماته إلى الحكام.

ويرى النقاد أنّ منفاه كان أحد الأسباب الرئيسة التي دفعته لكتابة (الكوميديا الإلهية)، فهي مليئة بالرسائل الأخلاقية والقيم الإنسانية، وكأن الشاعر أراد استخدام الأدب لتأديب الشعب الذي حكم عليه ظلمًا. ثم أنّنا نجد في الكوميديا الإلهية الكثير من الشخصيات السياسية التي كرهها دانتي أو أحبها.

كتب دانتي عمله الأعظم (الكوميديا الإلهية) بين عامي ١٣٠٠م و١٣٢٠م، وتوفي عام ١٣٢١م في مدينة رافينا - عقب إصابته بالملاريا - ودُفِن فيها، ولم يتم إعادة جثمانه إلى فلورنسا حتى اليوم.

شخصيات الثقافة العربية والإسلامية في الكوميديا الإلهية:
"الكوميديا الإلهية" هي قصة رحلة دانتي في العالم الآخر وتنقسم إلى ثلاثة أقسام، الجحيم والمطهر والفردوس، وفي كل قسم ثلاث وثلاثون أنشودة، تضاف إليها أنشودة في مدخل الجحيم، فتصبح الأناشيد مئة، ومجموع أبياتها ١٤,٢٣٣ بيتًا. والجحيم ينقسم إلى مدخل وتسع حلقات، أما المطهر فهو ينقسم إلى تسعة أفاريز والفردوس الأرضي، ثم ينقسم الفردوس السماوي إلى تسع سماوات وسماء السماوات.

العنصر الإسلامي الأكثر وضوحًا في الكوميديا الإلهية هو شخصية النبي محمد (ص) الذي يضعه دانتي في كتاب "الجحيم" (الأنشودة الثامنة والعشرين، الأبيات من ٢٢ إلى ٤٢) في الحلقة الثامنة والخندق التاسع، حيث وضع دانتي باذري الفِتَن ومثيري الشقاق وعذابهم انشقاق أجسامهم، خاصة منطقتي الوجه والفم اللتين خرج منهما الكلام المثير للشقاق. ويعتبر دانتي أن النبي محمد (ص) هو أول من أثار شقاق المسيحيين وجعلهم يعتنقون دينًا آخرًا. ويضع دانتي أيضًا علي بن أبي طالب (ر) في نفس المكان مع النبي محمد (ص)، لأن عليًا قام بإثارة الشقاق بين المسلمين إلى سنة وشيعة.

ولا بد أن نرى هذا التصور في سياقه التاريخي والجغرافي لأنه عائد إلى المعرفة الأوروبية عن الإسلام في العصور الوسطى، وهي معرفة مرتبطة بالأيديولوجية الصليبية التي اعتمدت على المعتقدات الدينية المسيحية لتوسيع أراضي الإمبراطورية. وفي عصر دانتي لم تكن أوروبا قد اكتشفت بعد ملامحَ الثورة الأخلاقية والروحية والاجتماعية التي قام بها النبي محمد (ص)، والإنجازات الحضارية التي حققها باسم الإسلام. أما في زمن دانتي فكانت المعرفة بالإسلام في أوروبا معرفة "مفلترة" عبر عدسة أوروبية، وما كان يعرفه دانتي وأهل عصره عن الإسلام كان مصدره روايات المثقفين الأوروبيين التي جاءت تلبيةً لاحتياجات الصراع دون معرفة حقيقية عائدة إلى قراءة القرآن والمراجع عن طبيعة دين الإسلام الحقيقية. وإذا نظرنا إلى سياق دانتي التاريخي سنجد أن آراءه موضوعية، وأن دانتي لم يكن ضد الإسلام كدين، بل هو ضد شخصيات أقاموا الفتنة. وعلى سبيل المثال وتأكيدًا على موضوعية دانتي نرى في جحيمه (الأنشودة التاسعة عشرة) أيضًا شخصيات كاثوليكية في غاية الأهمية، مثل البابا الكاثوليكي نيقولا الثالث - الذي أصدر على دانتي الحكم بإحراقه حيًا إذا ما وقع في يد الحكومة - وعذاب هذا البابا هو أن يُدفن حيث تكون رأسه إلى الأسفل وقدماه تحرقها النيران.

وفي الأنشودة الرابعة من الجحيم يلتقي دانتي أيضًا بابن سينا وابن رشد (الأبيات 143-144) وصلاح الدين الأيوبي (الأبيات من ١٠٦ إلى ١٢٠ و ١٢٩) الذين يضعهم دانتي في "اللمبو"، أي المنطقة الحدودية السابقة للجحيم، وهي المنطقة المخصصة لعظماء التاريخ الذين قاموا بأفعال عظيمة دون أن يعتنقوا المسيحية - وبينهم أيضًا الأطفال الذين ماتوا قبل أن ينالوا التعميد - وعذابهم ليس معاناة جسدية أبدية، بل هو الشوق الأبدي إلى رؤية الله.

واختيار دانتي لهذا العذاب الناعم دليل على مدى إعجابه بالفلاسفة العرب المسلمين القدماء.

التشابه بين الكوميديا الإلهية وقصة الإسراء والمعراج:
وجد الباحثون عناصر تشابه كثيرة بين الكوميديا الإلهية وقصة الإسراء والمعراج، لاسيما في البناء الهندسي للجحيم والمطهر والفردوس، والتقسيم إلى دوائر ووجود الكهوف، هذا بالإضافة إلى الكثير من الصورالمتشابهة، خاصة في طرق عذاب المذنبين.

رحلة محمد (ص) إلى عالم الآخرة مذكورة في القرآن في سورة الإسراء: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَاۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴿١﴾" ومنها تطورت القصة في الحكايات الشفهية الشعبية، حيث رُوي أن محمدًا (ص) سافر من مكة إلى القدس على ظَهْر البُراق، ثم انتقل لرحلته في عالم الآخرة. وتحكي أن رحلة محمد بدأت من أسفل جبل عالٍ يصعب تسلُّقه، وبالرغم من ذلك يدعو الملَك جبريل محمدًا للصعود، وأثناء السير يشاهد محمد عذاب أرواح الكافرين، ويشرح مرشده جبريل الأسباب التي أودت بهم لهذه الحالة، حتى يصلا إلى حديقة خضراء جميلة يقطنها بعض الأطفال المؤمنين السعداء، ثم يوجِّه محمد نظره إلى الأعلى ويرى عرش الرب فوقه.

ومن الوهلة الأولى نلاحظ في هذا الملخص البسيط بعض التشابهات مع الكوميديا الإلهية، فدانتي أيضًا بدأ رحلته من أسفل جبل، ثم صعد إلى الأعلى والتقى بمرشده الأول، الشاعر اللاتيني فرجيل.

ولاحظ الكثير من الباحثين التشابهات الشكلية بين قصة الإسراء والمعراج والكوميديا الإلهية، وأهم ما جاء في هذا الموضوع كتاب آسيم بلاثيوس (أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية) وكتاب صلاح فضل (تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي). وارتكز تحليل صلاح فضل على الصور المشتركة بين القصتين. وحتى نفهم طبيعة التشابهات نذكر صورة تأتي في الفصل السادس والخمسين، قصة الإسراء والمعراج:

"وتسمى الأرض الثالثة (أرقى) وقد ملأها الله بحيوانات (طاطاس) وهي عظيمة مثل الجبال، خُلقت جميعها من نار وتراب ممتزجين، رهيبة أشد سوادًا من الليل الحالك، يحيط بها الضباب من كل جانب، وبكل حيوان سِم أقوى وأشد اشتعالاً من نار الجحيم، فإذا أطلقه الله على العُصاة المذنبين انتزعهم وطرحهم على الأرض بشدة، ثم فتح أفواههم وصب فيها السم الذي يذيبهم كما تذيب النار الشمع." [ترجمة صلاح فضل، ص. ٢٥٧]

وفي جحيم دانتي، الأنشودة الخامسة والعشرين، الأبيات من ٤٩ إلى ٦١:

"وبينما أبقيتُ أهدابي مرفوعةً إليهما،

وَثَبَتْ زاحفةٌ بستّ أقدامٍ أمام أحدَهما،

وعقدت نفسها على جسمه.

وأمسكت بطنَه بقدميها الوسطيين،

وبالأماميتين قبضت الذراعين ثم أنشبت أسنانها في كلا الخدين،

... لم يتعانق لَبلابٌ وشجرةٌ أبدًا، كما لفَّ الوحش الرهيب أعضاءه حول أعضاء الآخر.

والتصقا كما لو كانا من شمعٍ ساخن وامتزج لونهما، فلم يَبْدُ هذا ولا ذاك على ما كان." [ترجمة حسن عثمان]

وهنا نرى تشابهات في بعض العناصر، مثل وجود الأفاعي والسم والذوبان مثل الشمع. وقد لاحظت الكاتبة والناقدة الإيطالية ماريا كورتي هذا التشابه [كورتي ص. ٦٨] في تسعينات القرن الماضي، أما الناقد المصري صلاح فضل قد لاحظه في بداية الثمانينات، وهذا لأن قضية تأثير الثقافة الإسلامية على الكوميديا الإلهية قد انتشرت في الأوساط العربية قبل أن تنتشر في الأوساط الإيطالية، فعلى سبيل المثال تمت ترجمة بحث آسيم بلاثيوس - الذي ذكرناه من قبل - إلى الإيطالية عام ١٩٩٤م، أما ترجمته العربية صدرت عام ١٩٨٠م.

وإلى جانب قصة الإسراء والمعراج، وجد النقاد من مختلف الجنسيات أن هناك عناصر تشابه بين الكوميديا الإلهية وأعمال أخرى من التراث الإسلامي، مثل (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري ومنظومة الشاعر الفارسي السنائي (سير العباد إلى المعاد) و(الفتوحات المكية) لابن عربي.

ردود أفعال النقاد الإيطاليين:
أول من أدرك تأثير الثقافة الإسلامية على إنتاج دانتي كان العالم غويدو فرناني Guido Vernani، من الرهبنة الكاثوليكية الدومينيكانية، وهو معاصر لدانتي. ففي عام ١٣٢٨م بعد أن اطلع الراهب فيرناني على كتاب دانتي (في المَلَكية) قام باتهامه بالرشدية، فأُحرق كتاب الشاعر دانتي (في المَلَكية) علانية في ساحة مدينة بولونيا بناء على طلب البابا يوحنا الثاني والعشرين. وكان ذلك نتيجةً لرفض الكنيسة الكاثوليكية نظرية ابن رشد الخاصة بعقل شاملٍ وسامٍ (ممكن)، وهي الفرضية التي كتب عنها القديس توما الأكويني في رسالته (في وحدة العقل، خلافًا للرُشديين) عام ١٢٨٠م.

وبالرغم من ذلك، وبعد ظهور وانتشار ودارسة الكوميديا الإلهية في الأوساط الإيطالية، كان الاعتقاد السائد أن الفلسفة الأكوينية هي المصدر الفلسفي السائد في الكوميديا الإلهية.

وأول من قدم دراسة نقدية حول احتمالية تأثير فلسفة ابن رشد على إنتاج دانتي كان الفيلسوف الإيطالي المعاصر برونو ناردي Bruno Nardi في مقاله الذي نشره في جزأين بين عامي ١٩١١م و١٩١٢م، في مجلة الفلسفة التابعة للجامعة الكاثوليكية بميلانو عن دار نشر Vita e Pensiero.

 وتنطلق فكرته من وجود شخصية سيجييه البرابانتي في فردوس دانتي إلى جانب "توما الأكويني". وكان سيجييه أستاذًا في باريس، وهو من الزعماء المدافعين عن فلسفة ابن رشد، واتهمته الكنيسة بالهرطقة عام ١٢٧٧م، ثم هرب إلى إيطاليا، حيث توفى عام ١٢٨٤م. فكيف لدانتي الكاثوليكي أن يضع مهرطقًا في الفردوس بجانب القديسين مثل توما الأكويني وأغسطين؟ بحث ناردي عن مبرر لهذا الموقف، ففتح بذلك باب التفكير في مصادر فلسفة دانتي، والتي كانت تُعتبر حينذاك مقتصرة على الفلسفة الأكوينية، وأجرى ناردي مقارنة دقيقة بين مؤلفات دانتي وكتابات غيره من فلاسفة مدرسة الأفلاطونية المحدثة، ونظريات ابن رشد وابن سينا، وتبين من بحث ناردي أنّ خلفية دانتي الفلسفية تصل إلى آفاق أبعد من الفلسفة الأكوينية، إذ اشتملت رؤية دانتي على نظريات المفكرين القدماء والمعاصرين له بغض النظر عن عقيدتهم.  وكانت نظرية ناردي إحدى مصادر القسيس الإسباني آسيم بلاثيوس الذي كتب في كتابه الشهير - والذي ذكرناه من قبل - أن "النقاط الأساسية من فلسفة دانتي التي بيّن ناردي أنها نابعة من أصول عربية، فتتعلق بعلم الكونيات وعلم النفس، وبخيرية الله. ولقد بيّن ناردي أنّ هذه الأفكار التي أوردها دانتي، رغم ورودها جزئيًا في المأثورات التي تركها القديس أغسطين، مستقاة أساسًا من فلسفة العرب الأفلاطونية المُحدَثة، وعلى الأخص من نظريات الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد" [بلاثيوس ٢٤٩].

وفي ١٩١٩م صدر كتاب آسيم بلاثيوس بعنوان Escatologìa Musulmana en la Divina Comedia  (أثر الإسلام في الكوميدايا الإلهية)، والذي يثبت فيه التشابهات الكبيرة بين رحلة دانتي في عالم الآخرة ورحلة النبي محمد (ص) في قصة الإسراء والمعراج وغيرها من أعمال المفكرين الإسلاميين - مثل ابن عربي - لإنكار "الادعاء بأنّ الكوميديا الإلهية نسيج وحدها في الأدب على الإطلاق، بحيث يمكن القول بلا تحفظ أنّ عملًا مثله لم تنتجه القرائح في أي عصر من عصور التاريخ"، كما جاء في الموسوعة البريطانية طبعة سنة ١٩٢٩م، أو أنها بعبارة أخرى من ابتكار وإبداع الشاعر الفلورنسي وحده.

يعرض بلاثيوس بعض الوثائق التي تثبت الاتصال بين الإسلام وأوروبا في القرون الوسطى، كما يوضح طرق انتقال النماذج الإسلامية إلى أوروبا، ثم يتحدث عن شخصية برونيتو لاتيني، وهو أديب موسوعي المعرفة، ومعلم دانتي وصديقه. ألّف برونيتو منظومات شعرية مثل (الكنز) و(الكنز الصغير)، وهناك دراسات تشير إلى أنه قد اطّلع على بعض المصادر عن حياة النبي محمد (ص) وعناصر أخرى من الثقافة العربية الإسلامية، أو على الأقل استمع إليها ليستوحي منها أفكاره. ويقول بلاثيوس إنّ برونيتو قد نقل قصة حياة محمد شفهيًا إلى تلميذه دانتي. وشغل برونيتو لاتيني منصبًا يسمح له بأن يحصل على معرفة مباشرة بالثقافة العربية، وذلك عندما أصبح سنة ١٢٦٠م سفيرًا لفلورنسا لدى بلاط ألفونسو الحكيم، راعي مدرسة الترجمة الشهيرة في طليطلة. [بلاثيوس ٢٤٣].

أثرت أفكار بلاثيوس بدورها على المستشرق الإيطالي إنريكو تشيرولي - الذي عمل مع الجيش الإيطالي في إفريقيا الشرقية في عصر الفاشية والحملات الاستعمارية الإيطالية في إفريقيا - وكانت لديه معرفة قوية باللغة العربية والثقافة الإسلامية. وتطرّق تشيرولي إلى قضية تأثير الفكر الإسلامي على الكوميديا الإلهية قاصدًا ترويج فكرته عن "وحدة الحضارة المتوسطية"، والتي كان يريد أن يثبتها من خلال دراسة العلاقات والتبادل الفكري بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الأوروبية في العصور الوسطى.

في عام ١٩٤٩م نشر كل من الإيطالي إنريكو تشيرولي والإسباني مونوث ساندينو الترجمات اللاتينية والفرنسية والقشتالية لوثيقة (معراج محمد) التي تم العثور عليها في مخطوطات موثقة في أكسفورد وباريس ومكتبة الفاتيكان. وتم اعتبار هذه الوثائق أدلة حاسمة على تأثير التراث الإسلامي على دانتي بسبب التشابهات والعناصر المشتركة بينها وبين الكوميديا الإلهية.

وعرف العالم من هذه الوثائق أنّ ملك إسبانيا ألفونسو العاشر (العالم) قد أمر طبيبًا يهوديًا يعمل في بلاطه - ويدعى "إبراهيم الحكيم" - بترجمة قصة المعراج الإسلامية من العربية إلى الإسبانية القشتالية عام ١٢٦٣م، وأنَّ هذه الترجمة كانت أصلًا لترجمة أخرى إلى اللاتينية والفرنسية قام بها مترجم وموثق إيطالي كان يعمل في نفس البلاط، وهو بونا فينتورا دا سيينا في العام التالي 1264م، قبل ميلاد دانتي بسنة واحدة. وسيينا هي مدينة قريبة جدًا من فلورنسا.

وأثبت المستشرق الإيطالي تشيرولي أن أجزاء من هذه الترجمات قد دخلت في كثير من مجموعات المخطوطات التي انتشرت في أوروبا عامة وإيطاليا خاصة في الفترة التي كان دانتي نشيطًا فيها، وأنّ بعضها محفوظ في مكتبة الفاتيكان حتى الآن، وأنَّ تلك المخطوطات كانت كفيلة بشيوع قصة الإسراء والمعراج في جميع الأوساط الثقافية الأوروبية في عهد دانتي [صلاح فضل، ٤١].

وبالرغم من أن أفكار تشيرولي قد حازت على ترحيب بعض المثقفين والمستشرقين الإيطاليين، مثل جورجو ليفي دي لا فيدا وأومبيرتو بوسكو، إلا أنَّ القضية حافظت على حساسيتها الشديدة بين الأوساط الثقافية الإيطالية. وبعد إصدار كتاب آخر لتشيرولي عن الموضوع نفسه عام ١٩٧٢م، ساد الصمت حول الموضوع لمدة عشرين عامًا. وربما كان سبب ذلك الصمت عدم هو تقبُّل النقاد الإيطاليين أن يكون الشاعر الإيطالي الأعظم قد استوحى أفكاره من الثقافة العربية الإسلامية.

وطرح فرانشيسكو جابرييلي - وهو من أبرز المستشرقين الإيطاليين - رأيًا محايدًا عن القضية في كتابه (دانتي والإسلام) الصادر عام ١٩٧٠م، حيث كتب أنّ استناد دانتي على أفكار إسلامية لا يقلل من القيمة الأدبية لعمله، لأنّ عظمة دانتي في الأساس تنبع من الإبداع الشعري والجمالي للكوميديا الإلهية، أما مصادر المادة فليس لها أي تأثير جمالي على المنظومة الشعرية، تمامًا كما أن جودة الرخام الخام لا تؤثر على شكل التمثال [جابرييلي، ص. ٤٠].

في ١٩٩١م صدرت الترجمة الإيطالية لقصة الإسراء المعراج، والتي قام بها الشاعر الإيطالي روبيرتو روسي تيستا، وعندها عاد المثقفون الإيطاليون إلى القضية، فكتب كارلو ساكوني - أستاذ اللغة الفارسية - مؤيدًا لأفكار فرانشيسكو جابرييلي في مقدمته للترجمة الإيطالية لقصة الإسراء المعراج:

"إنّ النقاد الإيطاليين لم يتناولوا القضية على نحو موضوعي، لأن فكرة أنّ الشاعر الإيطالي الأعظم قد استوحى بعض أفكاره من الثقافة الإسلامية كانت صادمة إلى حد كبير."

ولم تظهر ترجمة كتاب بلاثيوس في المشهد الثقافي الإيطالي إلا في ١٩٩٤م - أي بعد ثلاثة وثمانين عام من إصدارها في إسبانيا. وفي تلك الفترة ظهرت نظرية أخرى حول القضية طرحتها الكاتبة والناقدة وأستاذة علم العلامات (السيميوطيقا) الإيطالية ماريا كورتي، والتي تقسم طرق نقل الثقافة بين الأمم إلى ثلاثة مستويات:

  • "المستوى الأول هو مستوى تداخل الأحاديث interdiscursivity، وهو مفهوم طرحه الناقد الروسي باختين ويدل على دخول عناصر من تراث ثقافي إلى تراث آخر حتى تنتشر تلك العناصر في الثقافة العامة التي انتقلت إليها وتثبت وجودها في الحديث العام، ولكن يستحيل إيجاد المصدر الأصلي لتلك الأفكار.
  • المستوى الثاني هو مستوى التناص intertextuality، وهو نقل نموذج بنيوي لنص معين من ثقافة إلى أخرى، وربما نُقل ذلك النموذج من خلال ملخص أو ترجمة للنص الأصلي، أو من خلال الحكي الشفهي إلى مؤلف النص المنقول إليه ذلك النموذج.
  • النقل المباشر: حيث يقوم مؤلف ما بكتابة نص يشبه تمامًا نصًا آخر ينتمي إلى ثقافة أخرى، وهذا يتطلب إيجاد أدلة ملموسة، أي إيجاد النص الأصلي الذي تعود إليه تلك الأفكار التي تم نقلها" [كورتي، ص. ٥٨].

وأيدت ماريا كورتي أفكار بلاثيوس وتشيرولي، لأنّ نقل الأفكار والعناصر الثقافية من العرب والإسلام إلى الحضارات الأوروبية كانت ظاهرة منتشرة جدًّا في زمن دانتي، وبناءً على أبحاث بلاثيوس وغيرها من الأبحاث، توفر ماريا كورتي في دراساتها أمثلة لنقل عناصر من الثقافة الإسلامية إلى أعمال دانتي على المستويات الثلاثة التي تذكرها في دراستها.

وهناك مثال جدير بالذكر لتداخل الأحاديث - وهو المستوى الأول interdiscursivity. في قصة عوليس الواردة في الأنشودة السادسة والعشرين من الجحيم، أبيات ١٠٦-١٠٩:

"كنت أنا ورفاقي شيوخًا بطاءً، حينما بلغنا ذلك الممر الضيق،

حيث اتخذ هرقل علامتيه،

كي لا يسير الإنسان قُدمًا: وتركت إلى اليمين أشبيلية، وفي الجانب

الآخر كنت قد خلّفتُ سبتة." [ترجمة حسن عثمان، ص. ٣٤٩-٣٥٠]

يتخيل دانتي أنّ بطل ملحمة هوميروس قد تجاوز أعمدة هرقل - المفترض أنها عند مضيق جبل طارق - بالرغم من أنّ الآلهة منعت البشر من تجاوزه، وغرقت سفينة عوليس، فمات هو ورفاقه، لأنّ شوق عوليس إلى معرفة ما بعد المضيق من دنيا وبشر وفضوله المفرط وسوء استخدامه لنعمة العقل كان أقوى من روابط عوليس الأسرية وإيمانه ودينه، وتحدى عوليس القوانين الإلهية مما أودى به إلى الموت ثم إلى الجحيم.

وتشير ماريا كورتي أنّ فكرة منع تجاوز أعمدة هرقل لم تكن واردة في القصص والروايات من التراث اللاتيني والإغريقي، بل تقول إنها وجدت مثل هذا المنع في تاريخ دمار طروادة للإيطالي جويدو ديلي كولوني (القرن الثالث عشر)، وأنّ جويدو يشير إلى هذا الحاجز فيكتب أنّ اسمه "صافي" باللغة الشرقية، أي العربية.

ثم وجدت ماريا كورتي الإشارة نفسها في قصيدة بعنوان (البحر الحنون Mare Amoroso) يعود تاريخها إلى القرن الثاني، تقول:

"وليتني أبحرت دون توقف

حتى أرى نفسي أتجاوز تلك الذراع المسماة (صافي)

والمكتوب على يدها (ممنوع المرور)

لأن من يتجاوز ذلك المكان لا يعود" [كورتي، ص، ٥٩]

ومن الجدير بالذكر أن ماريا كورتي تشير في مقالها أن فكرة منع المرور بأعمدة هرقل تأتي من كتب الجغرافيين العرب، وفي إشارتها لا تذكر ماريا كورتي أسماء مؤلفين عرب  بل  تشير إلى مرجع فرنسيRecherches sur l’histoire et la littérature de l’Espagne pendant le moyen âge، (أبحاث عن التاريخ والأدب في الأندلس) للكاتب Reinhart Peter Anne Dozy  والصادر عام ١٨٨١م. وتضيف ماريا كورتي في هوامش بحثها إنها وجدت في هذا المرجع وصف تمثال النبي محمد (ص) الواقع عند مضيق جبل طارق، وهو تمثال رجل بذقن طويلة وعباءة طويلة، رافعًا يده إلى الأمام لمنع مرور المضيق إلى المحيط [كورتي، ص. ٧٤، هامش ٨]. وعند اطلاعنا على المرجع الفرنسي المشار إليه وجدنا بالفعل هذا الوصف، ولكن لم يذكر فيه اسم محمد. ثم بحثنا في أحد المراجع العربية التي أشار إليها المؤرخ الفرنسي دوزي (المجلد الثاني، الملحق XXXV) - وهو (تقويم البلدان) لأبي الفداء - فلم نجد فيها ذكر لتمثال النبي محمد في الحدود الشرقية للأندلس، أما في الترجمة الفرنسية المشار إليها في ملحق كتاب دوزي - وهي ترجمة جوزيف توسان رينو ١٨٤٨م - فيوجد هامش يتحدث عن (صنم قادش) الواقع في الحدود الشرقية للأندلس. وعند المقارنة بين هذه الترجمة وبين أصلها العربي[1] يتضح أنه في هذه الترجمة الفرنسية يتم ذكر جزيرة قادس، بالسين، وفق النطق اللاتيني، دون ذكر صنم قادش [ص. ١٩٠]. وفي الصفحات الأولى من مرجع عربي آخر يذكره دوزي باستمرار في كتابه عن تاريخ وأدب الأندلس - وهو (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) ١١٥٤م للإدريسي - يوجد وصف نقطة بداية العالم، كما عُرف حينذاك:

"إن هذا الإقليم الأول مبدؤه من جهة المغرب من البحر الغربي المسمى ببحر الظلمات وهو البحر الذي لا يعلم ما خلفه وفيه هناك جزيرتين تسميان بالخالدات ومن هذه الجزائر بدأ بطليموس يأخذ الطول والعرض وهاتان الجزيرتان فما يذكر في كل واحدة منهما صورة من نحاس تشير بيدها إلى خلف وهذه الأصنام فيما يذكر ستة أحدها صنم قادس التي بغربي الأندلس ولا يعلم أحد شيئًا من المعمور خلفها" [ص. ١٧].

ولا ذكر هنا لتمثال النبي في مضيق جبل طارق، بل لصنم قادس. وتبقى مسألة المراجع العربية التي تشير إلى تمثال محمد المشار إليه في مقال كورتي مفتوحةً وتحتاج إلى مزيد من البحث للتأكيد من مصدرها.

وبالرغم من عدم اليقين عما إذا كان ذلك التمثال للنبي محمد، تبقى لدينا الأدلة التي تشير أن الإدريسي نقل معلومات واقعية عن وجود تمثال صنم قادش في المكان الذي تذكره المصادر الغربية على أنه موقع أعمدة هرقل الأسطورية، وتبين أن يد التمثال تشير إلى الخلف، لمنع المرور بمضيق جبل طارق. ومن هذا العنصر العربي - ألا وهو فكرة منع المرور بحدود العالم الغربية - تأتي فكرة غرق سفينة عوليس الذي لم يستطع السيطرة على فضوله بالمعرفة، وأبحر "فيما وراء الشمس"، مشتاقًا لاختراق الآفاق، كما فعل الإدريسي من قبله في نزهته الكتابية.

وجعل عوليس مجاديفه أجنحة في هذا "الطيران المجنون" (il folle volo) بحثًا عما منعه الآلهة من أن يبحث عنه. وتُعد صورة الطيران المجنون من أحلى صور الكوميديا الإلهية ومن أروع ما جاء في الأدب الإيطالي من أبيات شعرية ما زالت تتردد على ألسنة الإيطاليين حتى يومنا هذا، وهي الأبيات التي يوجهها عوليس إلى رفاقه لتشجيعهم على الإبحار إلى ما بعد مضيق جبل طارق:

(١١٢) قلتُ: "أيها الإخوان الذين وصلتهم إلى الغرب، خلال مئة ألف

من المخاطر، إنكم لن تريدوا، في هذه اللحظة القصيرة

(١١٥) من يقظة الحواس المتبقية لنا، منع اختبارنا العالم الخالي من البشر

فيما وراء الشمس.

(١١٨) ارْعَوا أصلكم؛ إنكم لم تُخلقوا لتعيشوا كالوحوش، ولكن لتبتغوا الفضل والمعرفة". [ترجمة حسن عثمان، ص. ٣٥٠].

ومن الأمثلة الأخرى التي تقدمها ماريا كورتي أيضًا عنصر النور الفردوسي الذي يعمي الإنسان، وكذلك نقل حس البصر من العين إلى القلب عند رؤية الله. وعلى سبيل المثال في الجزء الـ١٢٥ من كتاب الإسراء، عندما يرى النبي محمد الله، يقول النبي إن الله نزع من عينيه القدرة على الرؤية وأعطى قلبه إياها، لأن القلب قادر على رؤية الله، أما العين فلا.

ونقرأ في فردوس دانتي (الأنشودة الثالثة والثلاثين، الأبيات من ٥٢ إلى ٦٣):

"إذ أن بصري حينما أضحى صافيًا، أخذ يتغلغل رويدًا رويدًا في شعاع النور الأسمى، الذي هو النور الحق في ذاته،

ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، صارت مشاهدتي أعظم من كلامنا،

الذي يعجز أمام هذه الرؤية، كما تعجز ذاكرتنا أمام عظمة مثلها،

كذلك الذي يرى في حلمه شيئًا، وتتبقى من بعد حلمه إثارة مما أحس به، ولا تستعيد ذاكرته سائر ما رآه،

هكذا أصبحت، إذ كادت تخونني رؤيتي تمامًا، وإن كانت لا تزال تقطر في قلبي تلك البهجة التي نبعتْ منها" [ترجمة حسن عثمان].

وطورت ماريا كورتي حديثها النقدي عن تأثير الثقافة الإسلامية على دانتي في منشورات أخرى، منها مقدمة الجحيم الصادر عن دار نشر بومبياني في ٢٠١٣م، وكتابها عن دانتي والثقافة الإسلامية الصادر عن دار نشر جوڤانس في ٢٠١٥م.

ومن المثقفين الإيطاليين الذين اهتموا بقضية دانتي والثقافة العربية والإسلامية في الآونة الأخيرة المستشرق الراحل ماسيمو كامبانيني الخبير في الفلسفة الإسلامية. وفي كتابه الصادر عام ٢٠١٩م (دانتي والإسلام)، يتطرق كامبانيني على المشوار الفلسفي الذي اتبعه دانتي ويشرح علاقته بالفلسفة الإسلامية، لأن المؤلف يرى أن الفلسفة هي مفتاح قراءة تأثير الثقافة الإسلامية على دانتي. وبهذا يريد كامبانيني أن يلقي الضوء على مدى اعتماد دانتي على الثقافة العربية والإسلامية. ويقول إنه لابد من قراءة هذا الكتاب في سياق "نسيان الإسلام من قبل الغرب" وهو التصرف الفكري السائد في أوروبا منذ قرون. ويرفض كامبانيني فكرة "صراع الحضرات" كما أصدرها بيرنارد لويس أولًا، ثم هانتينجتون من بعده، ويلاحظ أن للإسلام والمسيحية واليهودية جذور ومسارات ثقافية مشتركة وأن هذه الأديان الثلاثة تتمثل في حضارة واحدة، ألا وهي حضارة البحر المتوسط، وفي هذه النقطة يشبه فكر كامبانيني فكر إنريكو تشيرولّي. ويكرس كامبانيني الفصل الأول من كتابه إلى تداول الترجمات العربية في الأوساط الأوروبية في بداية الألفية الثانية الميلادية، ولا سيما الأعمال التي نقلت الفلسفة الإغريقية إلى أوروبا. أما في الفصل الثاني يصف كامبانيني مراحل تطور فكر دانتي الفلسفي مقسمًا إياه إلى ثلاثة مراحل. وفي الفصل الثالث يعرض المؤلف التراث العربي والإسلامي المنتشر في أوروبا في عصر دانتي والذي شكّل البيئة الثقافية التي ترعرع دانتي فيها. وفي هذا السياق يلاحظ كامبانيني التشابه بين عمل ابن حزم الأعظم (طوق الحمامة) وأساس مدرسة "الأسلوب الجديد" (stil novo) وهي المدرسة الشعرية التي ينتمني دانتي إليها. ثم يذكر كامبانيني تطور ردود أفعال بعض النقاد على قضية تأثير الثقافة العربية الإسلامية على دانتي. وفي الفصل الأخير يوضح كامبانيني أنه بالرغم من وجود عناصر عربية وإسلامية في فكر دانتي وإنتاجه الأدبي، إلا أنه اعتمد عليها فقط في الأمور المتعلقة بالفلسفة وعلم الكون، أما رؤيته الدينية واللاهوتية فهي خاصة به ومنفصلة عن الثقافة الإسلامية.

الخاتمة:
جاءت ردود أفعال المثقفين الإيطاليين على قضية تأثير الثقافة العربية والإسلامية على إنتاج دانتي على مراحل؛ حيث اتسمت باللوم في البداية، كما رأينا في اتهامات الراهب جويدو ڤيرناني في ١٣٢٨م. ثم بالصمت، فعندما ظهرت مقالة برونو ناردي (١٩١١-١٩١٢م) وبعدها رسالة بلاثيوس (١٩١٩م) وكتاب تشيرولّي عن قصة المعراج (١٩٤٩م) لم يعلق على القضية إلا بضعة مستشرقين مثل فرانشيشكو جابرييلي وأومبيرتو ليڤي ديلا ڤيدا. ثم تأخرت ردود الأفعال بعد ذلك، فلم تظهر ترجمة رسالة بلاثيوس إلا في ١٩٩٤م. وأخيرًا - وبعد ظهور هذه الترجمة - اتسمت ردود أفعال النقاد الإيطاليين بالاعتراف والاهتمام بالبحث في أنواع تأثير الثقافة العربية الإسلامية على أعمال دانتي، وأبرز ما جاء في هذه المرحلة دراسات ماريا كورتي وماسّيمو كامبانيني.

وعبّر المفكر والكاتب الإيطالي الكبير أمبيرتو إيكو عن رأيه في هذه القضية في مقال نُشر في جريدة ليسبريسو عام ٢٠١٤م، فقال: "عندما ينتابنا القلق من الحركات الإسلامية المتطرفة نميل إلى نسيان كل ما ربط الثقافة الغربية بالثقافة الإسلامية الثرية جدًا والمتقدمة على مدار القرون الماضية".

ويجوز القول بأن بعض العناصر التي استوحاها دانتي من الثقافة العربية والإسلامية جعلت الكثير من صور الكوميديا الإلهية تلمع بشكل أقوى، مما أثّر على عقول القراء على مدار القرون ليتذكروا عذاب المذنبين ونِعَم الفردوس، وبالتالي تدفعهم تلك الصور إلى الاقتداء بالنماذج البشرية الحسنة وإلى الالتزام بالقيم الكاثوليكية التي ألقى دانتي الضوء عليها في شعره.

 

المراجع:

أبو الفداء، (١٨٦٠) تقويم البلدان، دار الطباعة السلطانية بباريس.

الإدريسي، ( ٢٠٠٢)، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة

دانتي ألغييري، (٢٠٠٢) الكوميديا الإلهية، كاظم جهاد، ترجمة: كاظم جهاد، اليونسكو.

دانتي أليجييري، (١٩٥٩) الكوميديا الإلهية، الجحيم، ترجمة حسن عثمان، دار المعارف.

صلاح فضل، (١٩٨٦)، تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي، دار الشروق.

فرانسيسكو غابريلي:  ضوء جديد على دانتي والإسلام. ترجمة: موسى الخوزي، مجلة "التراث العربي"، العدد ٤١، عام ١٩٩٠.

ميجيل آسيم بلاثيوس، (١٩٧٠) أثر الإسلام في الكوميديا الإلهية، ترجمة جلال مظهر، مكتبة الخانجة بالقاهرة. 

Alighieri, D., & Garavelli, B. (1993). La commedia: Inferno Bompiani.

Abu-'l-Fidāʾ Ismāʿīl Ibn-ʿAlī, Reinaud, J. T., & Guyard, S. (1848). Géographie d'aboulféda. Paris: Impr. Royale. Retrieved from http://mdz-nbn-resolving.de/urn:nbn:de:bvb:12-bsb10218877-9

Campanini, M. (2018). Dante e l'Islam. Roma: Studium. Retrieved from http://digital.casalini.it/9788838247927

Cerulli, E. (1949). Il Libro della Scala e la questione delle fonti arabo-spagnole della Divina Commedia. Città del Vaticano: Biblioteca apostolica vaticana. Retrieved from http://digital.casalini.it/8821004538

Corti, M. (2020). Dante and Islamic culture. Dante and Islam (pp. 45-64). New York, USA: Fordham University Press.

Dozy, R. P. A. (1860). Recherches sur l'histoire et la littérature de l'Espagne pendant le moyen âge. Vol. 2, Brill.Top of FormBottom of Form

Nardi, B. (1911). Sigieri di Brabante nella Divina Commedia e le fonti della filosofia di Dante. Rivista di filosofia neoscolastica, 3(2), 187-195. Retrieved from https://www.jstor.org/stable/43064850

Nardi, B. (1912). Sigieri di Brabante nella Divina Commedia e le fonti della filosofia di Dante. (Continuazione). Rivista di filosofia neoscolastica, 4(2), 225-239. Retrieved from https://www.jstor.org/stable/43069595

Saccone, C., & Rossi Testa, R. (1997). Il Libro della Scala di Maometto. Milano: SE.

 

 

[1]  النسخة التي طُبعت في المطبعة الملكية بباريس وهي معتمدة على المخطوطات العربية الأصلية المحفوظة في المكتبة الملكية بباريس.