يرسم لنا القاص السوداني حياة القرية وعلاقة الحفيد بالجد بصوت ومخيلة طفلٍ يصحب جده إلى الحقول فيأخذه على أجنحة الحكايات وأساطير القرية والنيل والجفاف والفيضان وأضحية النهر البشرية في بنية قصة آسرة تعيد مجد القرية والعلاقات الإنسانية الحميمة المثقلة بالحنين والمحبة والشجن.

عام الصَّوت

عمر الحويج

كنت: أنا وجَدِّي، دائماً ما يتركنا أهل القرية وراءهم، فكنا آخر من يغادر حقله، ويتوجّه إلى بيته: الناس تقول عن جدي أن "حركتُه ثقيلة": ولكنه يضحك منهم ساخراً، ويهمس في أذني قائلاً: إنهم لا يحبون الأرض، بما فيه الكفاية، فكنت أنا أحتفظ برأيي، لأني لو أخبرته به، لمنعني من الذهاب معه إلى الحقل، رغم أنه يعرف أن في هذا موتي كرجل مستقبلاً.. حسب آرائه في مثل هذه الأمور. فكنت أنا أكثر من يلاحظ جدي، فهو من النوع الذي يراجع عمله أكثر من مرة.. لدرجة التكرار الممل، بالنسبة لي: إذا دَقّ الطّوْرِيّة على الأرض، ليفتح مجرىً جديداً للمياه، فهو بعد مدّة وجيزة، يكون خلالها قد أنجز عملاً، ثم آخر، فيعود ليكفي طوريته ساحباً بها الطين الذي أزاحه في البداية ليسدّ به المجرى الجديد الذي فتحه. وهكذا تجده أيضاً يقوم بأعمال لا لزوم لها، دائماً.. في نظري.. يفتعلها افتعالاً.. فهو إمّا "يكبُر" الأعشاب التي ماتت، قبل أوانها، حتى ولو لم توجد!!، أو يصرخ في جاره الذي يتحايل، لتصل المياه إلى حقلنا.. قطرة، قطرة.. "مثل تلك التي يسكبها -عبد القيوم- في عيون ابنتك، التي تستكثر عليها خطف مشوار إلى البندر من أجل العلاج"، يصرخ فيه جدي. مع ملاحظة أن الصراخ عند جدي عمل قائم بذاته.

والحق أقول: أن جدي يحبّ الأرض أكثر من الآخرين، لا يفوقه إلا حبه للنهر.. صانع تلك الأرض. هذه حقيقة، كنت دائماً مقتنعاً بها، ولكنه أبداً لم يكن مبرراً لتأخرنا حتى مغيب الشمس، حيث يلفّ الصمت كل ما حولنا. ورغم أن جدي يكون معي في تلك اللحظات، أكثر تلطُّفاً من عادته، ويحاول أن يسلّيني، فيحكي لي قصصاً وحكاوي نقطع بها وحشة الطريق من الحقل إلى البيت، إلا أنني -رغم ذلك- كنت أخاف. نعم: جدي حينما تكون الدنيا صباحاً، فهو في مواجهة الناس، خير من يحميني، أما وسط هذا المجهول، هذا الليل الذي أسمع فيه الكثير، وأرى فيه الأكثر، من التخيُّلات المرعبة.. فهو قطعاً لن يحميني -على الأقل- من خيالي.

و.. ذلك اليوم، تأخرنا فيه، أكثر من الأيام السابقة، ولماذا لا نتأخر، وبقرتنا -الوحيدة- حلفت برأس أبيها. الذي حتماً لم يكن من ممتلكات جدي.. ذلك لأن جدي، منذ أن ماتت عنه زوجته، وجئت أنا وأمي لنعيش معه، بعد أن تركنا أبي وسافر للصعيد، ولم نعد نعرف عنه شيئاً: قلت، جدي.. لم يملك غير ثلاث بقرات على التوالي، باع الأولى.. لعجزها، واشترى بثمنها الثانية.. التي ماتت. ثم عشنا زمنا طويلاً، قاسيا حتى استطاع جدي أن يشتري هذه الأخيرة. وذلك واضح، لأن ثمن البقرة الذي أصلاً هو ثابت.. يتحول إلى عدم في حالة الموت.. موت البقرة أو الثمن. قلت، إن البقرة حلفت أن لا تقوم من رقدتها، وظلّ جدي بجانبها، يمسك بها تارة من رأسها، غارزاً أصابعه العشر في فجوة حنكها، وتارة يرفعها من مؤخرتها.. وهي مع كل ذلك ثابتة، ثبوت حجر الطاحون المكوّم أمام بيت العمدة، لا تريد حراكاً، ما بَرَاهَا الليلة.. كنت أسمعه يردّد ذلك في ضعف، وخوف.. جعلاني أحاول -بيدي الصغيرتين- أن أساعده، ولكن دون جدوى. فلجأت إلى التخفيف عنه بقولي.. إنها ربما، أكلت كثيراً، فرمقني بنظرة قاسية، وكأنه يلومني على فشلي في المساعدة اليدوية. ولكن رغم ذلك رأيته خفية يبحث عن بطنها، للتأكد عما إذا كانت فعلا ممتلئة. وأخيراً وكأنها كانت تغيظنا، وقفت بقوة، يحسدها عليها ثور ود الجليل الذي يؤجره صاحبه ليدير سواقي الآخرين. بعدها أقفل جدي عليها الزريبة، وهو يبتسم مربتاً عليها.. راضياً على ما يبدو عن مداعبتها الخشنة، مما جعلني أعقد مقارنة: لو كنت أنا فاعل تلك المداعبة حتى لو لم تكن خشنة.. ودون شعور، تحسست أذني وكأنه فعلاً، قد تمت معاقبتي. وهكذا وجدنا أنفسنا وحدنا، والليل قد دخل علينا، لا نرى شيئاً. ولكن قد ترانا الأشياء الأخرى!!، هكذا يبدأ خوفي. وقبل أن أذهب بعيداً في مثل هذا التفكير. جاء جدي بالحمار، وحملني أنا أولاً، وأجلسني في مؤخرته العارية، مما كان يسبب لي دائماً شعوراً بالاضطهاد، يجعلني أبكي داخلي. واعتلى جدي السرج المملوء بربطة كبيرة من القش (عليقة) للحمار يتسلى بها طيلة الليل، أو هكذا المفروض، ولكني أشك في ذلك، لأنني أبداً، لم يحدث أن وجدت لها بقايا في الصباح، مما يجعلني أميل إلى أنه يلتهمها في سويعات قليلة.. وحجب عني، ظهر جدي البقية الباقية من مظاهر العالم المرئي الذي كنت أتعلق به، ذلك حينما يركبني ظهر الحمار، ويكون هو لم يركب بعد، أرى وقد أصبحتُ عالياً، أضواء فوانيس الحلة من البعيد متفرّقة على بعد المسافات.. التي تكون بين البيت والحقل، فكنت أبدأ في تحديد مواقعها، تلك لناس بت الشورة.. والأخرى لناس أحمد ود الدهب، ومما يساعدني على تحديد المواقع.. الرتينة، ذات الضوء الأبيض الناصع، واللامع التي تتوسط حلتنا، وكنت أعرف أن هذا دكان الكتيابي، وقبل مواصلة هذا العمل المسلّي، يكون جدي قد حجب عني ذلك العالم المضيء، وتركني للظلام، ولخيالي الذي يرهقني.. والذي يحيرني، بما يجسمه في رأسي من أشباح.. وأشياء أخرى، والتي لا وجود لها في هذا المكان فقط -لأن هذا ما أتأكد منه في النهار- وإنما هي ليست موجودةً أصلاً إلا في الحجاوي والقصص، التي كنت أسمعها من جدي. وعلى ذكر جدي، الذي أكون قد نسيته تماماً وأنا أعيش ذلك الخوف، وكعادته حينما يريد أن يبدأ معي الحديث سائلاً، عما إذا كنت قد صليت الأوقات الخمسة. وكنت دائماً ما ابتسم، وهذا ما يخفف عني بعض الشيء.. فأولاً كنت أصلي معه الأوقات الأربعة، ويكون هو عارفاً لهذه الحقيقة، وثانياً يكون الوقت الخامس.. هو نفسه لم يؤديه.. لأن العشاء، لم يحن بعد.. ولكنني كنت أصارح نفسي بأنني أحبه.. أحب جدي غاية الحب.. بدءاً من تلك اللحظة.. والتفت إليّ دون أن ينتظر إجابتي، وعادته أن يبدأ في حجوته أو حكايته رأساً، ويظلّ يتكلم ويتكلم، أو منتقلاً إلى غيرها، إذا ما انتهت ولم نصل بيوتنا بعد. ولكن في ذلك اليوم بالذات، خالف جدي عادته تلك، وسألني مرة أخرى.. ولكنه، سؤال جعلني أرتعد خوفاً.. هل حدث أن سمعت الصوت؟؟.. وتصوّروا، خوفي.. فأنا كنت في النهار، أظن -بل متأكد- من أن الأشياء والأشباح والأصوات، هي مجرد تخيلات يعكسها لي خيالي المتعب، من تلك الحجاوى التي كنت متأكداً، أنها حدثت في زمان غير زماننا هذا. ولكن سؤال جدي أكد لي أنها ربما تكون حقيقية.. ولم أجبه، بل شبكت يدَيّ حول خصره، واحتضنته بقوة، دافناً رأسي في ظهره، وكأنى أحاول أن أغوص داخله، بحثاً عن الأمان.. ولكنه واصل: إن لم تسمعه حتى الآن -وهذا ما لن يُغفَر لك- فسوف تسمعه من بعد ذلك. فهذا الصوت، سمعه كل من عاش في هذه "القرية" ولكن لا أحد يخاف منه.. كل الناس هنا، تحب هذا الصوت. قال هذا، بعد أن أزاح قليلاً قبضة يدي من على بطنه، وكأني أحسستُ به يقول لي: أن لا تخاف أنت أيضاً، ولكنني فكرت، ربما ضايقته فعلاً، قبضتي التي كانت حتماً قوية.. ترون، أني قد استبعدت الفرض الأول، لأني، كنت أعرف أنه لا يفترض خوفي.. أو هذا ما أعتقده أنا، حيث دائماً ما يضعني في مواقف يقول إنها تجعل مني رجلاً لا يخاف أبداً.. كان ذلك قبل أن تولد أنت.. جدي يواصل.. وقبل أن تولد أمك.. وربما حتى قبل أن أولد أنا.. يواصل أيضاً.. لا أحد يعرف متى، ولكن الكل يقول قبل أن يولد هو: كانت هنا امرأة، ترك لها زوجها طفلاً واحداً بعد موته.. فكانت تزرع حقلها وحدها، وترفض المساعدة من الجميع، كانت صابرة، متحملة لكل المعاناة.. ممنِّية النفس بأن الابن غداً يصير رجلاً يحمل عنها عبء مشقة الحياة، لترتاح هي بقية عمرها. كانت تحبه كثيراً، تحمله معها الحقل، وتأتي به آخر النهار لا يراها الناس إلا وهو على كتفها: حتى وهي تعمل. ثم جاء عام لم يَفِض فيه "البَحَر" بل بدأت مياهه تجف، حتى أصبح الناس يقطعون شاطئيه، سيراً على الأقدام دون أن تبتل حتى.. ركبهم. وحتى قواديس السواقي، كانت تعود من دورتها فارغة، إلا من بعض حبات الرمل. فركب الناسَ هَمٌّ ثقيل.. وانتظر الناس طويلاً، ولكن "البَحَر" ظلّ في عناده.. وبدأ المخزون يَشِحّ، قليلاً.. قليلاً، حتى تلاشى تماماً. وبدأ الجوع، يفعل فعله في الناس، وأكثرهم تأثُّراً به، تلك المرأة وابنها.. حيث لم يكن لديها مخزون أصلاً.. فعاشت، وابنها على عطايا الناس.. ولكنهم لم يستطيعوا مواصلة العطاء، فهم مثلها، فقد جاء اليوم الذي يحتاجون فيه لمن يعطيهم.. وبدأ ابنها يضمر، حتى غدا عظاماً، لا يسترها جلد، إلى أن مات بين يديها.. ولكن حينما تفرق الناس بعد دفنه، ولم تشرق شمس اليوم التالي.. حتى وجد الناس أن "البَحَر" قد امتلأ وفاض.. ولم تغب شمس ذات اليوم، حتى كانت البيوت تعوم في مياهه الوفيرة. ولم تستطع، بعضها ثباتاً أمام جريانه الكاسح، حتى تهدمت وترك الناس يومها "القرية" وابتنوا عششا فوق الجبل، خوفاً من ملاحقته لهم. ولم يعودوا إلى بيوتهم، إلا بعد أن جفت الأرض. عادوا وهم كلهم بِشْر وسعادة، بخيرات هذا العام، الذي عوضهم حرمان الزمن الأليم. ولكن حين أفاق الناس من دهشتهم، وفرحتهم.. افتقدوا "تلك المرأة" وتوجهوا للبحث عنها، وطال بحثهم... دون جدوى.. وحينما يئسوا، قالوا.. ربما حملها "البَحَر" معه.. أو حملت نفسها إلى "البَحَر" حزناً على وليدها الوحيد.. ، ثم مع مرور الأيام تناسوا أمْرها.. وأمْر وجودها معهم، رغم أنهم لم يستطيعوا نسيان، عدم وجودها.. حتى جاء العام الجديد، وكانوا يتخوّفون من حدوث مأساة العام السابق، وبدأت الأيام تَمُرّ و"البَحَر ".. ساكن لا يريد حراكاً.. فانطبع على وجوههم، الألم.. والذعر.. بل هاجر بعضهم هرباً من الموت.. القادم، وبقي الذين لم يستطيعوا الهرب.. والذين لا يرغبونه، حتى استيقظ الناس ذات ليلة.. على صوت يشقّ صمت القرية.. فأُضيئت الفوانيس، وأرهف الناس السمع.. وبدأ بعضهم يتبيّن الصوت.. بل أكّد أكثرهم أنه لتلك المرأة، التي مات وحيدها وضاعت هي، ولم يجدوا لها أثراً.. وظلوا هكذا حتى الصباح.. يحاولون معرفة، ما تردده المرأة.. دون جدوى.

وما إن أشرقت شمس اليوم الثاني، حتى فوجئوا بـ"البَحَر" على بعد خطوات منهم. وكان يومها عيداً عظيماً في القرية. وبدأ يتردد بين الناس أن ذلك الصوت، هو الذي أتى لهم بالبَحَر. وتأكد الناس من هذا، في الأعوام التي تلت عام الصوت. كما سمّاه الناس.. فقد أصبح لا يأتي -وهو أصلاً لا يتأخر عن المجيء منذ ذلك العام- إلا في الليلة التي تعقب سماعهم، لذلك الصوت. ولكن الشيء الذي لم يتبينه الناس حتى الآن، هو ما تردده تلك المرأة. فالناس تعرف أن المرأة، تصيح بكلمات متقطعة.. سريعة.. ولكن ما هي هذه الكلمات؟، و.. ماذا تعنى؟؟.. هذا ما لا يعرفه أحد.. وفي كل عام، يأتي أحدهم ليقول للناس، أنه عرف ما تقوله المرأة.. وما هي إلا بضعة أيام، حتى يحمل "البَحَر" هذا القائل.. ولا يجدون له أثراً.. وهكذا، يظل "البَحَر" يحمل واحداً منهم كل عام.. ورغم ذلك يظل الناس يحبون ذلك الصوت.. ويظلون، يحاولون تفسيره.. دون جدوى.

وفي ذلك اليوم، أنهى جدي قصته أو حجوته.. لا أدري ما أسميها، قبل أن نصل بيوتنا، وانتظرته أن يبدأ واحدة جديدة، ولكنه صمت، صمتاً ثقيلاً.. فازددت خوفا على خوفي.. ولا شيء غير وقع أقدام حمارنا على الأرض المزروعة.. وتضخّم، في أذني صوت وقع أقدام الحمار.. وملأ الصوت رأسي.. وبدأ خيالي المتعب يعمل من جديد، وتخيلت أن وقع الأقدام تردد كلاماً، فجدي لم يقل لي من أين يأتي الصوت.. وبدأت تَتَرَاصّ في ذهني، معاني الصوت.. "يا بَحَر النِّيل.. يا بَحَر النّيل" وكنت حينها أعرف اسم "بَحَرْنا" ولكن ليس من جدي، وإنما.. من السنة الوحيدة في المدرسة. التي أخرجني منها جدي، لعدم جدواها.. كما قال.. ونسيت نفسي، وبدأت أوقع تلك الكلمات، مع ضربات الأقدام، على الأرض المزروعة. وفجأة صرخت، وقد ملأت رأسي فكرة الموت.. وصحت، جدي: لقد سمعت الصوت!!.. وقبل أن أسمع رد جدي.. تذكرت أن هذا العام، زرعنا أرضنا، حتى حيشان البيوت. وشعرت بالخجل من خوفي.. ولدهشتي ضحك جدي.. وقال: ولكن رغم ذلك ستحبه.