محاولة أولية لتحليل نفسي ـ معرفي لتبريرات الصهيونية لجرائمها وانعكاسها عند التيار العربي المتصهين

إنهم يبررون الجريمة!

محمد شاويش

 

مقدمة:
يهدف هذا المقال إلى وضع نقاط في خطة أولية لدراسة لاحقة للميكانيزمات Mechanisms (وقد عرّبت بكلمة "الأواليات" ولن أستخدمها هنا آسفاً لقلة شيوع الكلمة المعرّبة) التي تستخدم من جهة أولى (أصلية) لتبرير جرائم العنصرية الصهيونية ربيبة العنصرية الإمبريالية الغربية ومن جهة أخرى (انعكاسية) لتبرير الانهزامية العربية. الصديق فارس البحرة قام بمحاولة رائدة لتقديم أفكار أولية لتحليل نفسي لظاهرة الانهزامية العربية مستفيداً من خبرته النظرية والعملية في التحليل النفسي بصفته طبيباً نفسياً (مقال " غزة والتنين ـ العقلية الانهزامية من وجهة نظر نفسية" ـ جريدة "الأخبار" اللبنانية 5/ 1/ 2009). وما دفعه لهذه المحاولة التحليلية هو "أصوات ناشزة تعتبر ما يحدث أمراً جرّت نفسها إليه حماس وكان بإمكانها ان تتجنبه". وما يلفت انتباهه هو صدور مثل هذه الآراء عن مواطنين عاديين ليس لهم انتماءات سياسية محددة ولا ارتباطات بأية جهات حكومية. وهو لا ينكر دور الإعلام الموجه ولكنه يبحث في السؤال عن المرتكزات النفسية التي تجعل هذا الإعلام قابلاً للتأثير. " ما نقاط استناد مثل هذه الأجهزة الإعلامية في الوعي واللاوعي العربيين حتى تلقى أذناً صاغية لدى البعض؟".

أنا سأحاول الخروج من الإطار التحليلي النفسي إلى إطار أوسع سأطلق عليه اسم "التحليل المعرفي ـ النفسي"، ذلك أنه لا يخص فقط ميكانيزمات نفسية دفاعية فردية الطابع لا شعورية، بل يخص أيضاً استعمالاً لآليات مزدوجة: آلية معرفية تتعامل مع إعطاء المراد تزييف وعيه معلومات خاطئة وتصوراً زائفاً عن الواقع، وآلية نفسية تجعل من الممكن أن تنجح هذه الآلية المعرفية فيقر الفرد بصحة ما أعطي له من تصورات خاطئة ويقاوم محاولة تصحيحها (وهذا الفرد نراه بسرعة فائقة يتبنى أفكاراً معينة حتى بدون براهين أو محاكمات عقلية كافية ويرفض أفكاراً أخرى بدون اهتمام بما قد يكون يدعمها من براهين ووقائع). سأبدأ المقال أولاً بمناقشة لما جاء في مقال الصديق البحرة المذكور أعلاه ثم أنتقل لمقترحاتي الموسعة لإطار البحث المأمول.

أولاً: في التحليل النفسي للعقلية الانهزامية في مقال " غزة والتنين ـ العقلية الانهزامية من وجهة نظر نفسية":
يبحث الكاتب في الأسئلة التالية:

1 ـ ما هو التفسير النفسي لاحتقار هؤلاء للإنسان العادي غير المثقف واتهامه بالشعبوية والغوغائية؟ (وأول ناتج لهذا الاحتقار من الناحية النفسية هو شعور هؤلاء أنهم نخبة).

2 ـ ما الأسباب اللاشعورية للخوف من الخطر الفارسي والشيعي مع محدودية التجارب الواقعية التي تبرره في مقابل إنكارهم للخطر الصهيوني مع كثرة ما يبرره ويجعله قابلاً للتصديق؟

لنبدأ بالسؤال الثاني: لماذا يخاف هؤلاء من إيران ولا يخافون من "إسرائيل"، مع أن تراثنا المسيحي والإسلامي عامر في رأي الكاتب بالخوف من اليهود؟ يرى الكاتب أن مفتاح التحليل هنا هو أن هؤلاء ينطلقون من رعب من الصهيونية. الكاتب يعطي هؤلاء الحق في نقدهم للعنتريات العربية، غير أن أهل هذه العنتريات كانوا ينطلقون نفسياً من الرعب من "إسرائيل" ليتوصلوا عبر الميكانيزم الدفاعي المعروف في التحليل النفسي باسم "الإنكار" Denial إلى إنكار خوفهم عبر التغطية عليه بالتغني بالأمجاد وادعاء القوة، (ولعل الميكانيزم الأقرب هنا في رأيي هو ما يسمى في الأدبيات النفسية "التشكيل العكسي" Reaction Formation) أما هؤلاء الجدد فلا ينكرون رعبهم فحسب بل ينكرون التهديد "الإسرئيلي" للإنسان والمجتمع العربيين "عندما يطلب أولئك الأشخاص أن لا نتكلم عن إسرائيل بل عن الأنظمة والخطر الإيراني والأصولي، هم مثل الطفل الذي يريد ليّ الحقائق التي تؤرّقه، فيطلب من أهله مثلاً أن يقولوا له إنهم لن يموتوا". حيث أن خوف هؤلاء من "إسرائيل" هو أكبر من أن يواجهوا به أنفسهم فإنهم يستبدلونه بمخاوف مشابهة أقل بعثاً للرعب مثل الطفل الذي يستبدل بالخوف من الحيوانات المنزلية خوفه الأصلي من أبيه (وهو كما يرى القارئ التحليل الفرويدي الشهير لرهاب الحيوانات عند الأطفال، ولفرويد عنها تحليل معروف هو معالجته لخوف الطفل "هانز الصغير" من الحصان). والميكانيزم الدفاعي هنا هو المعروف في الأدب التحليلي باسم "النقل" Displacement.
ويصل الكاتب في النهاية إلى السؤال الأول عن احتقار هذه المجموعة للإنسان العادي ومعايير الجماعة فيرى أن هذا الاحتقار دلالته اللاشعورية هي "قتل الأب بالمعنى الفرويدي والذي من تمثلاته الرمزية معارضة ما هو عام في محاولة لإيجاد الشخصي والخاص والمختلف ومعارضة الجماعة التي تمثل قيم الأب، لكننا نجد المعارضة هنا بشكلها المرضي لا بصيغتها المصعّدة الابداعية الخلّاقة. فهذه المعارضة لاتقوم بإيجاد صيغ جديدة تستوعب القديمة هضماً وتتجاوزها إلى آفاق أرحب، وإنما معارضة بسيطة بالقلب للضد، والاستسلام المازوخي للمذمّة الجماعية، وتشفّ بالذات وبالرموز الأبوية التي تتهدد منزلتها الأخطار الخارجية، يعاوض عن ذلك مجرد الشعور بالتميز والاختلاف من جهة، وتحقيق وظيفة الهروب من مواجهة الخطر الحقيقي المهدد والداهم من الجهة الأخرى".

ويمكن في اعتقادي إضافة ميكانيزمات دفاعية هنا لهذا التحليل فالمازوخية المشاهدة عند هؤلاء والتشفي بهجاء الذات وشتمها )إن أردنا استبعاد الفرضية الفرويدية الشهيرة عن دافع التدمير الذاتي الذي يرمز له برب الموت عند الإغريق ثاناتوس Thanatos وهو الواقف عكس دافع الحياة "إيروس" Eros، واستبعاد هذا التحليل الجاهز مما يحبذه كل باحث رصين، لأنه يلغي سلفاً كل تحليل اجتماعي تاريخي ملموس لهذه الظاهرة نشوءاً وتطوراً) يمكن ردها في اعتقادي إلى ميكانيزم دفاعي آخر هو التماهي Identification وبالذات حالة خاصة من حالاته وهي التماهي مع المعتدي، فوظيفة هذا الميكانيزم تحرير الفرد من القلق من التهديد الذي يشكله المعتدي عبر تقمص شخصيته.
أما "الشعور بالتمايز والاختلاف" فهو، وفقاً لنظريتي عن "الاستلاب والشخصية المستلبة" التي شرحتها في كتاب "حول الحب والاستلاب" الذي صدر عام 1995 في بيروت عن دار الكنوز الأدبية، فهو حل استلابي للأزمة الاستلابية الطبقية يتم عبر النبذ الاستيهامي للذات الطبقية الحقيقية والاندماج الاستيهامي مع الذات الطبقية للمرجع الاستلابي. وللقارئ إن شاء أن يعود لهذا التحليل في ذلك الكتاب، علماً أن هذا التحليل مستخدم أيضاً في كتابي "نحو ثقافة تأصيلية" الصادر عن دار نينوى ـ دمشق عام 2007.

يبقى اعتراض طفيف على ما ذكره الكاتب من أن الخوف من اليهود له تاريخ عريق في تراثنا، فحيث أن كلمة "التراث" في الاستعمال الشائع تخص كل مضمون تاريخنا الإسلامي والعربي، نقول إن معظم فترات هذا التاريخ لم يكن فيها هذا الخوف من اليهود فقد كانوا شأنهم شأن أديان أخرى يعاملون عندنا وفقاً للمعاملة المعروفة لأهل الذمة بدون أي أثر من آثار هذا الخوف حديث العهد، فكره اليهود ليس له تاريخ عريق في تراثنا، وإن كانت هذه الفكرة شائعة جداً في عصرنا، ومن المفيد وغير المبحوث إلى الآن (فيما أعلم على الأقل) تتبع نشوء هذا الموقف من اليهود الذي ذكره الكاتب، وقد يتضح أنه ليس أقدم من القرن التاسع عشر في دمشق (حيث يرد لأول مرة اتهام لليهود بارتكاب جريمة شنعاء في دمشق، وأنا شخصياً أشك في صحة وقوعها) وليس أقدم من عام 1948 في مصر والبلاد العربية الأخرى، حيث كان قيام الكيان الصهيوني مقدمة لعداء لليهود ساهمت الصهيونية في تشجيعه بوسائل صناعية وصلت لحد تفجير الكنس بهدف تهجير اليهود، كما هو معلوم مثلاً في العراق وفي مصر (وللقارئ أن يراجع وقائغ فضيحة "نافون" الشهيرة).

ثانياً: نقاط أولية في تحليل معرفي ـ نفسي للتبرير الصهيوني للجريمة:
ثمة تلاق بل تطابق كبير في "المنطق" بين الخطاب الصهيوني الذي يقود في النهاية لتبرير الجرائم بحق كل محاولة مقاومة أو ممانعة عربية أو إسلامية، والخطاب "العربي المعتدل" الذي يشمل أبواق الأنظمة السائرة في الركب الأمريكي الصهيوني المباشرين مع "مثقفين" مستقلين ظاهرياً أو فعلياً من ذوي المزاج "اللبرالي الجديد" كما يسمي نفسه، ولكاتب هذه السطور رأي في عدم صحة هذه التسمية شرحه في أماكن أخرى. ومع هؤلاء شرائح اجتماعية محددة في المجتمع العربي تتفاعل مع هذا الخطاب، بل قد تنتج بعض مكوناته أحياناً بصورة عفوية مستقلة عن الحلف الثلاثي الذي ذكرته للتو: الصهيونية "المعتدلين العرب" المثقفين "اللبراليين الجدد".

في هذا المقال سأذكر ثلاثة ميكانيزمات هي عند المعتدي تستعمل بوعي لتبرير العدوان، ولكنها تصبح "ميكانيزمات دفاعية" بالمعنى التحليلي النفسي (أي هي لا شعورية) في حالة الانهزامي العربي.

1 ـ الشخصنة:
حين يريد الإمبريالي أو الصهيوني أن يستعمل القوة لتحقيق هدف سياسي له (مثل الاستيلاء على بلد ذي أهمية استراتيجية كالعراق، أو ضرب حركة تتعارض سياستها مع أهدافه مثل حزب الله أو حماس الآن) فإنه يخفي هدفه الحقيقي و"يشخصن" العدو، وهذه الشخصنة ليست بعيدة عن ميكانيزم شهدناه كثيراً هو ميكانيزم "الشيطنة"، وقد استعمل في سياقات أخرى حتى خارج المعسكر الإمبريالي الصهيوني. وكمثال على هذه الأخيرة سأذكر نموذج شيطنة تروتسكي والتروتسكية عند التيار الشيوعي الستاليني، فبدعاية مكثفة تتبع مبدأ التكرار مع مبدأ القمع الجسدي، سيمتنع من يستقبل الدعاية عن كل محاولة حتى بينه وبين نفسه لمناقشة صحة الحكم السلبي المراد له القبول به (واندماج هذين المكونين: الدعاية المكررة مع التخويف بالإيذاء الجسدي، ابتداء بالسجن وانتهاء بالقتل، يحوّل الموضوع إلى نوع من المحرم (التابو) الذي يمتنع معه الضحية الذي يتوجه إليه هذا الفعل عن مناقشة الحكم النافي لحق الوجود عند من شيطن بهذا الاسم، فأي معارضة للحزب الشيوعي الحاكم يكفي عندها وصفها بالتروتسكية ليتوقف كل نقاش في أطروحاتها، بل تتوقف كل محاولة لمعرفة ما تقوله بالفعل).

في العراق مثلاً كان المراد الحقيقي عند أمريكا الاستيلاء على العراق لأسباب كثيرة، ولكن الطريق لذلك استلزم شيطنة شخصية الرئيس العراقي السابق، بحيث صار من الممتنع تذكر تاريخ ظهور هذه الشخصية وعلاقاتها المعقدة مع أمريكا وحلفائها (مثلاً العلاقات التحالفية) ومن الممتنع أيضاً مقارنتها بشخصيات أخرى (على الأقل لتبين إن كانت هي حقاً تقف على رأس سلم الأولويات في قائمة من يجدر بالبشر أن يتخلصوا منهم!). بعد هذا يتم اختزال الهجوم على بلد كامل إعلامياً بأنه هجوم على شخص واحد، أو مؤسسة سياسية واحدة، فالحصار الذي يقضي على مليون طفل عراقي مثلاً هو "حصار لصدام" أو "لنظام صدام" أو بأحسن الحالات "للنظام العراقي" والحصار الذي يقضي على ألوف الأطفال والمرضى في غزة هو "حصار لحماس"، وكذلك موت الألوف أو الملايين في هجوم عسكري شرس سيتم تقديمه على أنه هجوم على شخص أو منظمة أو نظام، على شر مطلق ليس فيه أي جانب خير، معزول عن كل بعد اجتماعي أو مشروعية أو صفة سياسية أو فكرية قد تعطيها بعض المشروعية في الوجود.

وللشخصنة نتائج في غاية الخطورة:
أ ـ
بسبب الشخصنة يتم قبول الجرائم ذاتها التي ارتكبها الشخص المادي (دكتاتور أو زعيم) أو المعنوي (منظمة) إذا ارتكبها شخص آخر(مادي أو معنوي). إن الشخصنة بطبيعتها تتبنى أكثر أشكال النزعة الاسمية تطرفاً.

مثلا كان من تبريرات ضرورة القضاء على صدام أنه أباد الأكراد في حلبجة بأسلحة كيماوية محرمة دولياً، ولكننا وجدنا الأطراف نفسها تبيح لأمريكا إبادة الفالوجا مثلاً بأسلحة محرمة أيضاً دولياً، فكأن الاعتراض كان أن المجرم اسمه صدام، وأن البلد المرتكبة بحقها الجريمة اسمها حلبجة، وأن السلاح المستخدم كان اسمه غاز الخردل، فإذا ارتكبت جريمة في بلد اسمها الفالوجا، وكان اسم المجرم بوش، وكان السلاح المستخدم اسمه الفوسفور الأبيض فإن الجريمة تصبح معقولة ومقبولة بل مطلوبة!

ومن أعجب الأمور أن بعض من أنكر على صدام استعمال الأسلحة الكيماوية (وهو كاتب كويتي) طالب الآن "إسرائيل" بإبادة غزة بالسلاح الكيماوي! وقد قامت المعارضة العراقية السابقة بالتشهير بالنظام العراقي السابق لحربه على إيران، وهي نفسها الآن تطالب أمريكا و "إسرائيل" أيضاً بشن حرب لا هوادة فيها على إيران ذاتها التي لم يتغير نظامها السياسي ولا توجهاتها منذ ذلك الوقت إلى الآن!.

ب ـ تقود الشخصنة إلى فقدان القدرة على النقد الذاتي، فما دامت الجريمة جريمة لأن الشخص (س) بالتحديد هو الذي ارتكبها، فإننا نحن لا يمكن بالتعريف، ووفقاً لقانون الهوية الأرسطي (الذي يمنع شخصين مختلفين أن يكون لهما الهوية نفسها) أن نرتكب شيئاً مماثلاً طالما أننا لسنا (س) بل (ع) أو (ص)!.

ج ـ بسبب الشخصنة يتم النظر إلى الجرائم التي ارتكبت على أنها فريدة من نوعها في التاريخ يستحيل تكرارها، مما يعرقل محاولة فهم السياقات الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية والثقافية إلى آخره التي جعلتها ممكنة، وهو ما يقود بدوره عملياً إلى أن تظل إمكانية تكرار الجريمة نفسها قائمة.

د ـ عبر الشخصنة تقطع كل رابطة للموضوع الذي تستهدفه الجريمة مع مجتمعه وتعد كل أهدافه شريرة وغير مشروعة، حتى لو كانت بعض هذه الأهداف هي في حقيقتها أهداف للمجتمع كله أو لغالبيته العظمى، فقد يكون نظام ما دكتاتورياً، ولكن بعض ما يقوم به في السياق التاريخي يعبر عن تطلعات اجتماعية مشروعة للمجتمع كله (من الأمثلة على ذلك النظام الناصري الذي وصفه البريطانيون عند تأميم القناة عام 1956 بأنه نظام فاشي، وقد "ذكّر" أنطوني إيدن العالم في ذلك الوقت بما جره على العالم التغاضي عن هتلر وموسوليني مطالباً بعدم "تكرار الخطأ نفسه" مع عبد الناصر!).

2 ـ تحميل الضحية المسؤولية:
هنا أيضاً نحن إزاء سيرورة مزدوجة، واحدة مصدرها الجلاد والثانية مصدرها بيئة الضحية ومجتمعها. من جهة الجلاد فهو يدعي أن الضحية هي المذنبة في الجريمة (مثلاً لأن غزة تطلق الصواريخ، ولأن حماس تندس بين النساء والأطفال في مدرسة الأونروا) وبالتالي يتملص هو من المسؤولية. لكن من جهة المجتمع الذي يكون هو ضحية للجريمة فإن الميكانيزم الذي يدفع شرائح معينة فيه لقبول فرضية مسؤولية الضحية عن الجريمة مختلف، ولكنه متكامل في الفعل العملي مع دوافع المجرم الأصلي، ويقود عملياً إلى قبوله بالتحالف الذيلي مع المجرم الخارجي، ما دامت الضحية هي المسؤولة عما جرى لها!).

بعض العرب وجدوا أنفسهم أمام أخ لهم اقتلع من أرضه وسلب من دياره وممتلكاته هو الفلسطيني مما وضعهم في حالة تدعو بنفسها بدون حاجة إلى كلام لبذل جهد كبير لنصرته، وفي ذلك ما فيه من خسارة مادية وضياع للهدوء وخروج من حالة الراحة وتحد للإمكانيات ينفر منه الإنسان عادة ولا يقترب منه إلا مضطراً، فماذا يفعل العربي إن كان أخذ بخيار الاحتفاظ بحالة الهدوء والراحة مهما كلف الثمن؟ أنسب حل له أن يدعي أن الفلسطيني مثلاً هو الذي باع أرضه. ومن المذهل في هذا المثال أن هذا الادعاء، الباطل ليس فقط تاريخياً ووثائقياً بل هو باطل لكل من عنده أبسط قواعد التفكير السليم، يشيع بين أوساط شعبية عربية (وسمعناه في آخر أمثلته من سياسي لبناني، منتم للمعارضة الوطنية للمفارقة وليس للمحسوبين تقليدياً على المحور الأمريكي الصهيوني!)، وفي المقابل لم تخترع الصهيونية هذه الكذبة ولم تقل بها قط فهي اختراع عربي خالص، فالصهيونية جلبت مبررات كثيرة لاغتصاب فلسطين لم يكن من بينها أن الفلسطينيين باعوا أرضهم! (وهي طبعاً لا تستطيع ادعاء ذلك لاحتفاظ غالبية الفلسطينيين بصكوك ملكيتهم بل بمفاتيح دورهم كما هو معلوم).

وفي حالة حرب تموز وحالة جريمة غزة الأخيرة التي بدأت في ديسمبر 2008 وضع هذا الصنف من العرب المسؤولية على ضحايا العدوان.

ومن الممكن هنا أن نعد شكلين من أشكال تحميل الضحية العدوان:

أ ـ القول إن الضحية مذنبة لأنها قدمت الذريعة للجاني.
وهو كما يعلم القارئ حالة العدوانين في لبنان وغزة.

ب ـ القول إن الأكثرية خائنة لأن الأقلية خائنة!
وهو شيء قد يستغربه المرء لكنه واقع في حالة الفلسطينيين، فمن المألوف أن تسمع في الشارع العربي من يقول إن الفلسطينيين هم أنفسهم من يدل الطائرات الصهيونية على أهدافها. وتستعمل ظاهرة وجود الأقلية التي هي العملاء للقول إن الجميع عملاء! أي أن العميل الذي دل الطائرة على هدفها لا يختلف عن القتيل الذي دل العميل الطائرة عليه لتقتله! صحيح أن الناظر لهذه الحجة سيرى بداهة تناقضها المنطقي، لكننا لسنا هنا إزاء محاكمة منطقية بل نحن نكاد نكون إزاء عرض عصابي لا تنفع فيه المحاكمات المنطقية لأن جذره الذي يستمد منه الطاقة كامن في اللاشعور(من أشكاله "المقبولة" أكثر في الجرائد المعتدلة تبرير ما يجري للفلسطينيين بأنهم كلهم لا تهمهم إلا السلطة التي يتصارعون عليها!).

3 ـ الإنكار التام لاستقلالية الضحية وعدها أداة لقوة تحركها وتستعملها لتنفيذ أجندة خارجية:
هذا الميكانيزم قديم، فما من ثورة تحرر منذ ما يقارب القرن من الزمان إلا زعم أعداؤها أن من قام بها هو مجرد عميل مأجور لدولة خارجية (كانت في العادة الاتحاد السوفيتي وهي الآن عندنا إيران وأحياناً سوريا). بإنكار الاستقلالية على المعارضة أو الثورة تريد القوة المستفيدة من القمع نزع المشروعية عن الحركة المعنية بإنكار أي سياق داخلي لها. وأما في السياق الداخلي فمن يستعمل الحجة يريد أن يبرر تقاعسه وتخاذله عن الوقوف إلى جانب المطالب العادلة للحركات المعنية أو في وجه المضطهد لها أو الذي تسبب ظلمه واضطهاده في قيامها.

خاتمة:
حاولت في هذا المقال أن أقدم خطاطة أولية لدراسة الميكانيزمات الدعائية التي تبرر الجرائم بحق المجتمعات والشعوب. وهذه الميكانيزمات ذات طابع مزدوج نفسي ومعرفي. وهي تقوم بدورين مختلفين متكاملين واحد عند المستفيد الأصلي الذي هو المجرم والثاني عند التابع المحلي المنصاع له لأسباب مختلفة.


كاتب وباحث فلسطيني ـ برلين