مفتتح الملف

سعيد الكفراوي .. ختام مرحلة

ص. ح.

 

يوشك رحيل سعيد الكفراوي أن يكون ختام مرحلة كانت القاهرة فيها – وقت وفوده مع إطلاله الجيل الذي ينتمي إليه ورحل عدد كبير من أعلامه قبله – عاصمة للأبداع الأدبي والثقافي. يغمر إشعاعها العالم العربي كله، ويلعب فيها المثقف دورا بارزا في حياة مجتمعه، ويحظى مثقفوها برأسمال رمزي كبير في عالمهم العربي الكبير. وكان آخر جيل عاش بعض حراك تلك المرحلة مثقفي جيل الأربعينيات والخمسينيات من يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي وحتى صلاح عبد الصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي – إلى جانب من بقي فاعلا من أجيال سابقة عليهم. ثم أخذت هذه المرحلة تعاني من الأفول، تحت وقع ضربات حكم العسكر المتلاحقة، وتضييق الخناق المستمر على الحريات.

وقد تلقى هذا الجيل في بواكير وفوده إلى الساحة الأدبية ضربة الهزيمة المصمية. وعانت الأجيال التالية له من وطأة انتصار الهزيمة – حسب تعبير محمد عفيفي مطر – بصلح السادات المنفرد مع العدو الصهيوني، وبتهميش دور مصر في عالمها العربي، والإفريقي من ورائه. والغريب في الأمر أن بدايات تبلور ملامح هذا الجيل كانت نوعا من رد الفعل على تلك الهزيمة،[1] وقد اكتشف هذا الجيل، وصاغ في كتاباته السابقة علي وقوعها، أجنتها وهي تتخلق في رحم واقع يعاني من سطوة القهر والاستبداد. وقد حاول أعلام هذا الجيل – كل بطريقته إذ نجد إن كلا منهم شيخ طريقة خاصة به في الإبداع والكتابة[2] – أن يحافظوا على جذوة الأدب حية ومتوهجة، وأن يردوا بالكتابة في مختلف مجالاتها الإبداعية منها والنقدية على ما يدور في الواقع حولهم من تردي وفساد.

ولم يكن ردهم بالكتابة مباشرا، ولا حتى إشكاليا، لأنهم حرصوا على استقلال الكتابة وتلبية شروطها الإبداعية الصعبة. وعلى تنمية الميراث الأدبي المصري والعربي في أبهى إنجازاته ومواصلة مسيرته إلى آفاق جديدة. وهذا ربما هو السر في اختلافهم وإن وحدتهم حساسية أعرض تتعلق بمضمرات الكتابة وقواعد إحالتها المختلفة لما يدور خارجها. في هذا السياق العريض لتجربة هذا الجيل الثرية قدم سعيد الكفراوي ضمن مجموعة أوسع ممن يعرفون بكتاب «المحلة»[3] - نسبة إلى مدينة المحلة الكبرى أكبر المدن الصناعية في دلتا مصر وإن جاءوا في حقيقة الأمر من مختلف القرى المحيطة بها – إسهامه المتميز في كتابة القصة القصيرة التي أخلص لها طوال مسيرته الإبداعية. وشارك كتاب المحلة، فيما يمكن دعوته بالقاسم المشترك بينهم، سواء في الشعر أو في مختلف فنون السرد القصصي، وهو إثراء تجربة الكتابة عن القرية المصرية بحق.

حيث تشكل رواية عبدالحكيم قاسم (أيام الإنسان السبعة) نقلة سردية في الكتابة الروائية عن القرية المصرية،[4] وأضيف لها هنا روايتيه القصيرتين (المهدي) و(طرف من خبر الآخرة). كما تشكل قصص سعيد الكفراوي عنها نقلة مماثلة في مجال القصة القصيرة التي أخلص لها طوال مسيرته القصصية الممتدة لأكثر من نصف قرن من الكتابة الإبداعية. فلا يستطيع أحد أن يقرأ قصصه دون أن تنهض من بين سطورها حياة القرية المصرية، حيّة، متألقة، تضج فيها الشخصيات الإنسانية متوهجة بالحياة والمشاعر والصبوات. تسبح في ملكوت ريفي من نوع خاص يمتد تيار ثقافته التحتية الثرية بالروافد المتعددة من زمن الفراعنة حتى الآن، وقد تضافرت فيه التواريخ والقيم والأساطير وترسخت. ملكوت ينأى عن كل ما وفد على القرية المصرية في زمن زحف الإسلامجية والوهابية والهوان من كهنوت، وينفضه عنه كما ينفض الفلاح بحركة عفوية عن ثوبه الغبار. مكتفيا بإيمانه العميق الذي هضم كل ما مر عليه من أديان وعقائد، وصاغ منها جوهر الدين وسماحته.

إن أجمل ما نجحت قصص سعيد الكفراوي في اقتناصه إلى جانب إنسان القرية المترع بالحياة والقادر على استخلاص رحيقها كالنحل من كل ما يتيحه عالمها المتقشف من رغبوت، هو زمنها السرمدي الذي يقاس فيه الوقت بالشهور القبطية التي تحدد مواعيد الزرع والحصاد، وبدورة الحياة حينما تطلب البهايم العُشر، أو تُدرّ الضروع اللبن، أو بخيالات المقادير المبهمة حينما تضرب الغجرية الرمل، وتشوف الودع، وتبين الزين والشين جميعا. وإلى جانب هذا كله علاقة إنسان القرية الحميمة بحيواناتها. ففي القصة التي تفتتح مختارات هذا الملف مثلا «الجمل يا عبدالمولى الجمل» يتخلق الجدل فيها بين مخاوف الصبي من جرم الجمل الضخم، وكيفية تعامل نسوة القرية، وأطفالها مع تلك المخاوف، ودفع أبوه له إلى أن يقبض على الخزام وأن يثبت مكانه في مواجهة الجمل حتى يسيطر عليه، وفي ذروة المواجهة ينجح في أن ينخّخه فيبرك الجمل ويقوم، أكثر من مرة وفق لأوامره. وينفض عبدالمولى عن نفسه كل المخاوف في لحظة المواجهة الحاسمة.

أما في «زبيدة والوحش» فإن الكفراوي ينسج برهافة وحساسية تفاصيل العلاقة الغنية والمعقدة بين الفحل «الطلوقة» الذي لا تخلو منه أي قرية مصرية، وزبيدة المطلقة التي عادت لبيت أخيها، ولاتزال مليئة بالرغبة مترعة بالشبق والحياة. في كتابة شعرية جميلة منذ المشهد الافتتاحي الذي يدس فيه الفحل خطمه في صدرها المكتنز الوفير، وهي تضحك، بينما تطوق عنقه بالخرزة الزرقاء المباركة، والحجاب الحارس، والعظمة البيضاء، والجرس الصغير الذي يصلصل كلما اهتز رأس البهيم. ينسح لنا النص تفاصيل الحياة الحسية للبهايم والبشر وكأن كلّ منهم يكمّل الآخر في وحدة سرمدية منذ زمن القرية الفرعوني القديم. إننا هنا بإزاء واقعية سحرية مصرية خالصة يتناغم فيها النص الأول برهافة وإيقاع فريد من النص الثاني في القصة والذي تتدفق فيه اللغة جملة واحدة لا تقطّعها الفواصل. هكذا يخوض بنا الكاتب في مناطق أقرب إلى التابو، يعمرها جسد زبيدة العفي المترع بالحياة في واقع متقشف، ولكنه لا يضن بها على أحد.

وإذا كان كل من عرف سعيد الكفراوي يصفه بأنه يخترع الحكايات، أو يدرك كم كانت حياته امتداد لحكاياته أو بالأحرى لكتاباته، فإن ذلك بسبب قدرته على أن يعيد خلق عالم القرية الغافي فينا. فينهض من قلب التجارب المتراكمة والمنسية حيا متوهجا، وقد نفض عنه الغبار، ويعيش في وجدان قارئه. لقد استيقظت علاقتي بجدي في داخلي – مثلا – وأنا أقرأ «تلة الملائكة» وكأنه كان معنا يجمع بلمسات حكايته المكثفة وضربات قلمه الماهرة كل تفاصيلها، دون أن يجهز على غيرها من التفاصيل التي لم يتركها، بل يترك لها أن تتوالد، وأن تتواشح مع ما يرويه من حكايات. وقد امتزجت تفاصيل علاقة الصبي بالجد في تشابكاتها وعذوبتها المغايرة لعلاقته بأبيه، مع عالم الغجر الذي كان دائما يحوّم حول القرى المصرية كخطر وغواية لا فكاك منها في آن.

وإذا كان جل كتاب جيل الستينات الذين حافظوا على استقلالهم، وعلى جذوة الكتابة الحرة الجسورة الأبية قد عانوا كثيرا من التهميش، ولم يتبوأوا ما كانوا جديرين به من مكانة، فإن معاناة سعيد الكفراوي من نفس الأمر كانت أكبر بسبب سفره المبكر، وقد دعّه المناخ الطارد للعمل في السعودية. وهو الأمر الذي أخر نشر مجموعته الأولى حتى عام 1985 مع أنه بدأ الكتابة في الستينيات – راجع مقاله عن زيارته ليحي حقي في (المجلة) – ككثيرين من أبناء جيله، ونشر قصصه في (المجلة) قبل أن يتركها يحيى حقي عام 1970. وقد أخرت غيبته في السعودية صدور مجموعته الأولى (مدينة الموت الجميل) حتى عام 1985، ثم تتابعت مجموعاته القصصية (زبيدة والوحش) 1988، و(سدرة المنتهى) 1989، و(بيت للعابرين) 1993، و(مجرى العيون) 1994، و(دوائرالحنين) 1997، و(البغدادية) 2004. وهي المجموعات التي تركت بصمته الباقية على فن القصة القصيرة في مصر.

ص. ح.

 

 

[1]. كان منبرها التي تبلورت فيه هو مجلة 68.

[2]. ربما تكون هذه أفضل طريقة لوصف إنجازهم الأدبي برغم أن الكثيرين يضعونهم في سلة واحدة باسم جيل الستينيات. فشعر أمل دنقل يشق طريقا مغايرا لذلك الذي حفره شعر محمد عفيفي مطر. وسرد عبدالحكيم قاسم يتميز بلغته الآسرة واستراتيجياته النصية المغايرة لتلك التي يتسم بها سرد يحيى الطاهر عبدالله أو بهاء طاهر. وطريقة صنع الله إبراهيم في الكتابة تختلف كلية عن تلك التي يكتب بها إبراهيم أصلان أو محمد البساطي أو خيري شلبي، ونقد فاروق عبدالقادر يختلف منهجيا وإجرائيا عن نقد سامي خشبة ... وهكذا.

[3]. مثل الشاعرين محمد صالح وفريد أبوسعدة والقصاصين عبدالحكيم قاسم وجار النبي الحلو وسعيد الكفراوي، والنقادين نصر حامد أبوزيد وجابر عصفور وغيرهم.

[4] . راجع في هذا المجال كتاب عبدالمحسن طه بدر (الروائي والأرض)، القاهرة، دار المعارف، 1971، الذي يعتبرها ذروة تطور الكتابة الروائية عن القرية المصرية.