وهج الأثر

قراءة في قصص سعيد الكفراوي

نور الدين درموش

 

تقصد مقالتي هذه إنجاز قراءة لمجموعة قصصية، تمثل عندي، رغم البعد النسبي لزمن صدورها («كشك الموسيقى»، للقاص المصري سعيد الكفراوي، دار الفنك، 1997) نصا متلاحما، معبرا عن الكيفية التي ينبغي أن تتبلور بها صيغة المجموعة القصصية، والرؤية المشتركة، المولدة فيها، والموحية بظلالها، من قصة إلى أخرى. وهي تبني عوالم وبؤرا متجاذبة، ينبني بها النص جماليا في ما هو يؤسس في الآن معناه، بتؤدة وتأمل وعمق هادئ. بذا تصبح هذه المجموعة قابلة للامتداد، ونموذجا للتعلم، وهو مطلوب دائما في هذا الفن الماكر والعسير. فن يعتبر الكفراوي أحد بناته المجددين في أدبنا القصصي المعاصر، ذهب به إلى تخوم الشعرية والسحر والصفاء.

سننطلق في قراءة هذه المجموعة من افتراض أولي، يقود مقاربتنا للعديد من قصصها الحافلة بالإثارة والغرابة. بوسعنا أن نقرأ أي نص أدبي من خلال منظورين اثنين: منظور علاقته ب ‹موضوعه›، أي منظور علاقة النص بالعالم الذي يقوم بتشييده، حيث ينصب الاهتمام أكثر على كيفيات وطرائق بناء العالم النصي، لغة ودلالة وترميزا وتزمينا وتفضية .. وغيرها؛ ثم منظور انعكاس النص على ذاته، يقودنا، أساسا، إلى محاولة التعرف على ‹الصورة› التي يبثها النص عن ذاته، وعلى الخيارات الجمالية والإثيقية التي يصدر عنها وهو يقوم ببناء عالمه، أو حين يشرع في رسم ملامحه الفارقة. لا ينفصل المنظوران ووجود أحدهما مشترط بثانيه، ومن ثم فلكي نتعرف مثلا عن معنى القصة عند سعيد الكفراوي، وعن خياراته الجمالية، وانحيازاته الإثيقية، نقترح رصد ذلك، انطلاقا من المستويات التالية:
1
. محفل الكتابة:
ثمة قصص في المجموعة تشف بشكل موارب عن محفل كتابتها، من خلال عرضها لشخوص يحيل فعلهم وانشغالهم على ما تريد الكتابة القصصية ذاتها القيام به. نتخذ قصة قصاص الأثر لإبراز ذلك. تحكي هذه القصة عن شخصية غريبة الأطوار، يستهويها جمع آثار الماضي ومراكمة علاماته العتيقة. وهي من هذه الزاوية، تماثل غيرها من شخوص القصص الأخرى، المنجذب أغلبها لحياة القدم والعتاقة. ثم إن انشغالها هذا يبدو مقترنا بانشغال محفل الكتابة ذاته (كاتب القصص). إذ هي، شأن هذا المحفل، ‹قصاص›، وانشغالها بالأثر، يميزها، وفق قولها، عن محافل أخرى تشغلها أشكال أخرى من الكتابة (‹كاتب السيرة، والمؤرخ الكذاب›)؛ لذلك تصدر هذه الشخصية عن وعي حاد بوجوب البحث عن شيء مغاير›، تميز به فعلها عن غيره:» فمنذ أن ارتفع نجم اللوطي، والجزار، ومالك العقار، وراقصة الملهى، وكاتب السيرة والمؤرخ الكذاب في سماء الوطن السعيد، تأكدت من تغير الأحوال، وقلت في نفسي ‹انتبه عليك بالبحث عن الشيء المغاير›.

فبم يتميز قصاص الأثر نفسه عن غيره؟ وتبعا لتبادل الانعكاس بين قصاص الأثر ومحفل الكتابة، ما الذي يتميز به هذا الأخير نفسه عن غيره من محافل الكتابة الأخرى المفترضة؟ يكمن التمايز في ما يقوله قصاص الأثر عن نفسه:› تضحي بزمنك الذي أنت فيه، وتفتح قلبك لتحادث السنين› (ص 77). كما يكمن في اختياره الإقامة وسط أمكنة مأهولة بأنفاس:›زمن محبوس، مختلطة برائحة أشياء حية لا تندثر› (ص 78) ما يعني أن محفل الكتابة، يفتح القصص لمحادثة السنين، وتحرير (الزمن المحبوس)، والعمل على إيقاد الشرارة الحية الكامنة في الآثار والإشارات والأماكن الفائحة بالعتاقة والقدم. وإنه لأمر دال أن الكتابة تنشغل بالزمن المحبوس، بدل الزمن الضائع، لأنها لا تعتبر الزمن الماضي، قد مضى أو ضاع، وإنما هو حبيس، أسير العلامات والإشارات والأمكنة والوجوه .. الخ.: « قلت له لا شيء يضيع وأن ما يبدو ميتا هو حي بدرجة مروعة›. ثم ‹ومنذ عرفت أنه لا يدوم سوى وجه الله، تأكدت أيضا أن لا شيء يضيع» ص78.
نجد هذا التصور لدور الكتابة القصصية ماثلا، بالتنويع أو بالمغايرة، في قصة ‹رفة جفن› نعتبرها تمثيلا لمرمى الكتابة في ‹كشك الموسيقى›. تضع القصة القارئ في فضاء متخيل، حلمي، تماثل هندسته الفضاءات الحلمية للحكايات القديمة. يتشكل هذا الفضاء من أبواب تفضي إلى حجرات لانهائية، تجتازها الشخصية، بحثا عن مصدر غناء شجي يصل إلى مسامعها على إيقاع أوتار عود. لن يلبث سياق القصة أن يتكشف عن تماثل دلالي بين المسارات التي تقتفيها الشخصية داخل الفضاء الحلمي، والمسارات التي تقتفيها الكتابة في أروقة الزمن القديمة؛ واستتباعا، سيكشف السياق عن تقارب بين شخصية القصة ومحفل الكتابة الذي يتوارى خلف خطاب يتحدث عن تجربته المديدة في السير في أروقة الذاكرة القديمة، يبحث دون كلل عن الصور والعلامات التي ‹ تشعل الروح›: ‹(..) أدور في الحجرات، تنقضي السنوات وتأتي حتى ذلك التاريخ الأخير من العمر الذي يدفعني للسير في الأروقة القديمة مفتح العينين. أنتظر واقفا أمام الأبواب المشرعة على الفصول والصور، وصوت البحر. أسمع ذلك الغناء الشجي، وضرب ذلك العود اللذين لم أعرف أبدا مصدر سطوعهما وظللت طوال جلستي في هذا البيت، أمارس من غير وعي إشعال روحي، داخلا في نفق ذاكرتي، منتهيا إلى تأمل المسافة بين التذكر والحنين›ص126.
في قصص أخرى، تقترن الكتابة ومعها محفلها بتقاليد الحكي القديم، وتلمح إلى تحدرها من سلالته البعيدة الممهورة بالحلم والغرابة والسفر. لذا نلاحظ لجوءها إلى صورة figure السندباد وإلى صور الرواة الشعبيين، فضلا عن لجوئها إلى متخيل ديني (شق الصدر وتطهير القلب) لإعادة صياغته وفق منظور حلمي غريب.
يبرز رمز السندباد في قصة (قصاص الأثر)، باعتباره هو أيضا قصاص أثر، وهو يمثل بهذا الخصوص نظيرا لمحفل الكتابة، يرى فيه سلفا من أسلافه، يستوحي ويقتفي سيرته المطبوعة بالحلم و المقرونة بتعقب الأثر:

«كانت رحلته حينما قصها قد أثارت حفنة الأدعياء فقراء الخيال الذين بدوا لعينيه أضحوكة دائمة، لأنهم لم يستطيعوا أن يفهموه، وأنه من آخر سلالة من أصحاب البصائر الذين يعيشون على الحلم (..) وهو (أي السندباد) قادر على ركوب السفن والخوض في البحار والتحديق في الشمس حتى لو كانت غاربة ليرى على البعد، المدن الفارسية والقباب المملوكية ويسمع أسماء بخارى وسمرقند، حتى بدا لنفسه وللآخرين وكأنه ولطول ما عاش غدا من قصاصي الأثر التليدين القدامى» ص89.
فمحفل الكتابة يكشف، إذن، عن سلالته، وهي سلالة قديمة، وعتيقة، تمنحها امتدادا في الزمن البعيد، تقرنه أيضا بالرواة الشعبيين، جوّابي الطرقات، وراسمي الدهشة في عيون الأطفال، لا زالت حكاياتهم بالنسبة له، متكأ يستند عليه كي يواجه به، حسب قوله، مظاهر الظلم والحقد والخنوع .. الخ.

ثمة مشهد آخر، يشير إلى انتساب محفل الكتابة إلى صورة ‹الغجري›، بما تحمله هذه الصورة من معاني الغرابة والسحر والغموض. ففي قصة ‹تلة الملائكة›، يحكي راو- طفل خروجه من قريته، وجرأته، رغم المحاذير المعلنة، على الذهاب إلى رباض الغجر المقامة خارج القرية. في لحظة تنصهر فيها الرؤيا بالحلم، يقوم الغجر بشق صدر الطفل، ونزع قلبه وغسله ثم وشمه بالحروف والكلمات، قبل أن يعيدوه إلى مكانه. هكذا، يضع محفل الكتابة، باستعارة صورة الغجر، ذاته على حرف السحر والغرابة، بعيدا عن مجالات التوطين والانتماء الأليف، مشرعا على الأفق الجاذب للسفر والترحال. لنخلص إلى أن التصور الذي قلنا إن الكتابة تصدر عنه سوف يشرط تصوراتها الأخرى بخصوص مكونات نصية عديدة، نخص منها على سبيل الحصر فقط، مكونات الزمن، والمتخيل، والقيم الأخلاقية.

2. الإقامة خارج الزمن التعاقبي.
لا تتذكر الشخصية القصصية الماضي باعتباره حلقة زمنية مضت وانتهت، بل باعتباره زمنا يحيا خارج منطق التعاقب والتتابع، ينبثق انبثاقا قياميا (لا بالمعنى الديني)، دافقا وداهما. إنه شرارة لا تلبث أن تندلع وهاجة، بمجرد إشعال فتيل أثر هامد أو علامة خامدة أو نفض التراب عن أيقونة هاجعة. يمكن القول، من ثم، بأن معنى الزمن الذي تصدر عنه المجموعة، ليس ذلك الممتد التعاقبي، الذي يمحل الأشياء ويذيبها في مجراه العنيف، المقوض، بل هو الزمن الآخر المنقلب على التعاقب والتتابع، والمحتفظ للأثر بوهج وضياء يعيد له بهاء حضوره. تقوم المجموعة، من جانب آخر، في عديد قصصها بتمثيل هذه الأبعاد الزمنية من خلال اللجوء إلى تقنية الضعف/ القرين le double، حيث تتم المجاورة بين بعدي الزمن، بحس الانقسام والانشطار والتمرئي. في قصة ‹بيت للعابرين›، تعيد شخصية القصة الرئيس اللقاء بامرأة انقطعت صلته بها منذ سنين بعيدة. تمثل له المرأة وهو يلتقيها في منزلها القديم، بالنظارة ذاتها التي تركها عليها، كما لو أنها ظلت تحيا خارج أعطاب الزمن العادي. فيما تشير القصة إلى امرأة أخرى كانت موجودة متسترة في المنزل، امرأة هرمة، تتخايل أمام ناظريه عبر خصاص النوافذ والأبواب المتوارية. وقد ظل راوي القصة حائرا بين صورتي المرأتين، صورة المرأة التي استقبلته عفية، نظرة كأن الزمن لم يطبعها بميسمه، ثم صورة المرأة الأخرى، التي تشخص له، متلامحة، حاملة آثار الزمن وعلاماته الشائخة. الراوي في القصة، منجذب، إذن، بين استخلاص زمن لا يمضي، لا يبهت؛ إذ ظل هذا الاستخلاص ناصعا كأنه صدفة تلتمع وهاجة بضوء الشمس وماء البحر؛ وبين الوقوف على حركته المتقدمة، التي لا تنكص، يحيل مرورها الكائن، ركاما وبقايا.

إن هذا التضعيف الزمني، هو ذاته الذي نصادف في قصة ‹صورة ملونة›، والتي تحكي بطرافة الرغبة التي اجتاحت امرأة متزوجة منذ سنوات بعيدة، كانت تتوق إلى التقاط صورة زفاف صحبة زوجها، وهو ما فاتها في حينه، غرضها ترهين لحظة مضت، بوهجها، بينما زوجها متردد، يرفض مسايرتها، مستسلم بالأحرى لفعل الزمن الممتد، غير راغب قي قلب أعطافه وكشف طياته. وسينتهي الأمر بالزوجين أخيرا إلى أخذ صورة الزفاف، وإلى تعليقها على جدار المنزل. الصورة، كما تتراءى، تحتوي بشكل طريف على البعدين الزمنيين معا، حيث تبدو الزوجة ‹مهرة برية (..) في عينيها شرارات النار (..) صبية متوجة بالطرحة وصولجان الورد (..)›، بينما يقف إلى جانبها رجل ‹برز كرشه من حزامه وقد امتلأ رأسه بالشيب، وخبا منه نور العين› ص 136. تستعرض القصة، إذن، كسابقتها، بعدا زمنيا أولا، مصرا على ديمومته، ساطعا، وحيا، يكاد يكون ‹جوهرا خالصا›، لا يمحل؛ وبعدا زمنيا آخر، مخالفا، يقبع مفعولا للزمن المعتاد، فاترا وحائلا.

3. عتاقة المتخيل.
تشيد المجموعة متخيلها على علامات نصية، رمزية، أسطورية، شعبية، حلمية .. قديمة وعتيقة، تصل الكتابة القصصية بالنصوص القديمة، باعتبارها مادة نفيسة تحتفظ بمعان ورؤى فريدة لم تفقد شيئا من غضارتها. ولعل قصة ‹زبيدة والوحش›، أكثر قصص المجموعة تمثيلا لهذا اللجوء المتواتر للمتخيل العتيق. فهذه القصة، الموسومة بالحسية والشبق، تتناول حكاية ثور يخصب البقرات، تخور قواه، ويكاد يشرف على الهلاك من كثرة تسخيره لطلبات الإخصاب. أما الفريد في القصة، فهو تناولها الجريء لأطوار ارتباط حسي، وعاطفي، شفيف ثم داهم، بين الثور وامرأة (زبيدة) تقوم برعايته وتحميمه وإطعامه. تتطور العلاقة إلى ما يوحي بمجامعة الثور للمرأة وتخصيبها (إذ أصبحت تتدفق حليبا: ‹سرسوب الحليب»)، قبل أن تخور قواه تماما ويموت.

تتألف القصة من نصين، الأول سردي يحكي الوقائع المذكورة، والثاني غير سردي، أشبه ما يكون في تركيبه بقصيدة النثر، يمزج بين الملفوظات دون ترقيم أو اتساق، ويفتق المعاني خارج إكراهات السياقات اللفظية والتداولية. وهو بتركيبه المتنافر هذا، يعدد الدلالات، الميثولوجية والرمزية، كاشفا البعد العتيق لرمزية الثور، المحفوفة بمعاني الخصوبة المضمنة في الأساطير القديمة، الفرعونية خاصة. بذلك، يتيح هذا المتخيل للنص القصصي، إمكانية وصل حكايته بعتاقة رمزية، ضاربة في القدم؛ عتاقة وثنية حافلة بمعاني الحياة والخصوبة والموت.

ثمة أيضا استثمار للمتخيل الشعبي العتيق، لبلورة رؤية متميزة حول الموت والفقدان. ففي قصة ‹ضربة قمر›، ثمة حكاية حول امرأة مات زوجها الأول منذ سنوات بعيدة، يظهر فجأة في نومها، حلما تقوم باستقراء رموزه الغامضة، ليتبين لها أنه يطلب منها بإلحاح زيارة قبره. القصة تستند في بنائها، إلى متخيل جماعي شعبي، لا يفصل بين عالم الأحياء وعالم الأموات، يجعل الأموات يخاطبون الأحياء والعكس؛ إنه متخيل يعتقد في حاجة الأموات إلى تذكر الأحياء لهم، وزيارتهم كي يؤنسوا عزلتهم ووحدتهم المطلقة. تبدو المرأة في القصة مداهمة بحضور الزوج الأول، لا تستطيع له ردا، يعود إليها كما كان، تذهب لزيارته برغم موقف زوجها الثاني الرافض لذلك، قبل أن يذعن بدوره لرغبتها في الزيارة. تبدو عودة الماضي لا راد لها، وهي في السياق المخصوص لهذه القصة، تحمل معاني الوفاء للأموات، وارتباطا نبيلا بذكراهم.
تبدو عتاقة المتخيل بارزة كذلك، في نص قصصي مثير، حمل عنوان ‹في حضرة السيدة›؛ وهي قصة تستعيد وتكثف أجواء احتفال شعبي، بما يكتنفه من عتاقة وأبعاد وثنية، إضافة إلى أبعاد أخرى تتراوح بين الحس وما يثوي خلفه من إدراكات ماورائية. تعثر الكتابة بتناولها لهذا الاحتفال الشعبي على منفذ لعرض جمالياتها المنغرسة في تربة القدم والموصولة بالزمن في بعده القيامي. فالناس المحتفلون تبدو وجوههم ‹عتيقة›، والمشهد يتجلى ‹في وثنيته وحضوره كأنه يوم الحشر›، والوقت يبدو ‹جوهرا لا ينقضي›. كما تتواتر المشاهد المأهولة بكائنات قادمة من غور الزمن (الوشام، المجذوب، حلقة الذاكرين)، فضلا عن عبق المكان الذي يرشح عمرانه بعتاقة أبدية. وتمعن القصة في تعتيق المتخيل باستدعاء مشهد آخر، يبدو خارجا من بطون الكتب القديمة، لسيدة انبثقت فجأة، وسط الجموع المحتفلة، تمثل أمامها بسطوة جسدها العاري وبعلاماتها المتصلة بالماوراء، إشارة إلى الالتحام الحاصل في سياقات الاحتفالات الشعبية بين الحس وما وراء الحس، بين جذبة الحواس، والابتهالات التي تنشد المطلق.

4. الكتابة وما وراء الأخلاق.
غالبا ما تكون الاعتبارات المتصلة بالقيم الأخلاقية (التمييز بين الخير والشر، المقبول وغير المقبول أخلاقيا ودينيا) حاجزا أمام مغامرة الكتابة، وحدا من قدرتها على إدراك أبعاد في الوجود، تصعب ملامستها إن ظلت الكتابة حبيسة اعتبارات هذه القيم. لقد لاحظنا سابقا كيف استثمرت قصة ‹زبيدة والوحش› متخيلا عتيقا، وثنيا، كي تقارب التخوم الملتبسة للعشق والوله والموت. هذا التصور، هو ذاته الذي صدرت عنه المجموعة في قصص أخرى، نخص منها قصة ‹عشب مبتل›. تحكي أطوار اغتصاب، سيؤول إلى وصال محموم ومرغوب. تم ذلك عبر مزاوجة رهيفة بين أبعاد العنف والقتل من جهة، وأبعاد الرغبة الصامتة و‹الخشونة الحنون› ص 143. قاربت الكتابة حادث الاغتصاب بالشكل الذي لا ينفي عنه طبيعته العنيفة، اللاأخلاقية، لكن مع المضي في استقصاء أبعاد أخرى تجاوز الاعتبار الأخلاقي، وتمضي أبعد منه. لهذه الغاية، استثمرت القصة المكون التلفظي واللغة الموحية. إذ حصل في القصة تنافذ وثيق بين الأصوات (الراوي، المرأة والرجل المغتصب)، بما أتاح أولا استبطان صوت المرأة في اضطرابه وحيرته، ثم في عبوره المتدرج نحو مناط التفاعل الحسي والعاطفي مع مغتصبها. وبما أتاح ثانيا، إبراز صوت الرجل الذي تبدى صوت عشق حار، صرف، ينكشف عن انجذاب صراح نحو جسد امرأة، ظل ثاويا فيه لزمن طويل، قبل أن يجرؤ على ركوب العنف لملاقاته. أما لغة القصة، (لغات الشخوص، أو لغة الراوي)، فهي رهيفة موحية، محملة بالصور والتعابير الشعرية، كما لو أنها تنحو إلى ‹تجميل› العنف، لا من أجل تمجيده، وإنما لسبر غوره، حين يقترن بأبعاد العشق واللذة والحنان المفاجئ.
نلمس ملمح الكتابة القصصية، في بعد تجاوز الخلقي في قصة أخرى، «سيدة على الدرج». تحكي حكاية طريفة لزوجة أرملة، ناضجة لا تزال، ترقب مرور جارها المتزوج كل صباح، كي توقفه، لتستعيد أمامه أجزاء من حياتها مع زوجها الراحل. يشف كلام المرأة المترع حياء للجار عن رغبتها في مقاسمة حياتها مع رجل آخر، أي الجار نفسه، ليملأ عليها فراغ رحيل زوجها السابق. إن وصف دقائق هذه الوضعية أساس في القصة، إذ يجعلنا ندرك أن ثمة أبعادا في الحياة، أوسع من ضيق الأخلاق، وأفسح من سلطة القيم. تستعرض القصة، من هذه الزاوية، وضعية مترعة بالتجاذب الحسي والشعوري، برهافة الإدراك وشعريته الفائقة، لالتقاط لحظة إنسانية ترفضها الأخلاق العامة، لكن تبيحها انجذابات الحس وارتجافات الشعور:
-
وبدا الأمر كأنه يخصه، وانبثق بداخله ضوء من حنان
- علا صخب الماء، ونفذ منه إلى حبة القلب
‹ارتجف وتنهد بغير ارتياح، غير أن الرجفة التي داهمته انزاحت، والشكوك التي أصابت عقله تبددت عندما رآها تبتسم، ورأى ذلك الحنان العميق يشع من عينيها، وأدرك كم هي امرأة وحيدة، وأنها تقاوم نفسها بعزة. رجعت بظهرها داخل الشقة، وكان عليه أن يستعيد نفسه ليخطو خطوته الأولى إلى الداخل (حيث صورة الزوج والقديس وسنبلات القمح الذهبية) تاركا يده تسحبه منها، ناظرا من نافذة الشقة المفتوحة على البحر الذي اشتد الآن موجه› ص 164
لنقل برسم الختام، إن التصور الذي تصدر عنه الكتابة القصصية لسعيد الكفراوي في مجموعته ‹كشك الموسيقى›، يضع الزمن قي قلب انشغالاته الجمالية والإثيقية. الماضي عنده أثر حي، يكفي أن تقوم الكتابة، وهذا دورها بالنسبة إليه، بنفض التراب عن علاماته الهاجعة وآثاره الخامدة، كي ينجلي بكامل سطوعه، وينبعث بمنتهى طراوته الحسية. من ثمة، تستقصي الكتابة لديه، عتاقة العلامات والإشارات، تجوب الأمكنة التي تعبق بالقدم، وتستوحي إمكانات المتخيل المنغرس في تربة الأساطير التليدة والمعتقدات الشعبية القديمة. كل ذلك، بغاية مقاربة أسئلة شائكة مقترنة بالوجود، بالعشق واللذة والعنف، بالوثنية الرابضة في أعماق الكائن، بالوجد المترع بنشوة الحواس المفضية إلى نداءات المطلق، بعيدا عن إكراهات الأخلاق وصرامة القيم. وإن اقتران الكتابة بالتصور القيامي، الانبعاثي للزمن، يقرن تجربة سعيد الكفراوي بتجارب إبداعية مماثلة، علاوة عن أنها عموما تقدم رؤية متفردة للكتابة، أبدع الكفراوي في تشييدها وترسيخها علامة فارقة في الإبداع القصصي العربي.

 

* قدمت هذه القراءة في لقاء ربيع القصة الذي نظمته جمعية مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة مولاي اسماعيل بمكناس تكريما للقاص المغربي عبد الحميد الغرباوي يوم 6 ماي 2011.
ونشرت في (الاتحاد الاشتراكي) المغربية يوم 09 - 09 –
2011