مقاربات

حوارات مع إدمون عمران المليح: الحياة علي نحو آخر!

حسان بورقية

عن دار نشر لابّونصي صوفاج الفرنسية ومؤسسة إدمون عمران المليح المغربية، صدر كتاب حوارات مع إدمون عمران المليح من إنجاز الروائية ماري رودونيه، خلال المعرض الدولي الثاني عشر للنشر والكتاب بالدار البيضاء. وقد جاءت هذه الحوارات ـ التي كانت تتم كل ثلاثاء وخميس بين نيسان (أبريل) 2003 وحزيران {يونيو} 2004، علي الساعة الثامنة والنصف ـ بمثابة ردٍّ علي هبة حسن الضيافة والعطف وسخاء الكلام والترحيب والثقة التي تلقّتْها ماري من المليح منذ أن تعرفتْ عليه لأول مرة سنة 2000 بالمغرب، بهدف إعطائه الكلمة ليقول ما يريد قوله للمغاربة بعد تسعين عاما وربيع طويل، وللتعريف به لدي القرّاء الذين لا يعرفونه ولا يعرفون أعماله السردية والنقدية.

وينقسم الكتاب إلي أقسام ثلاثة: واحد للحوارات، وهو الغالب من حيث الصفحات؛ وآخر لمداخلات بعض أصدقائه في التكريم الذي خصّه به معهد العالم العربي يوم 23 تشرين الثاني {نوفمبر} 2000، مثل دومينيك إيديه، محمد برادة، كريستيان بْييشْ وميغل آبنْسورْ، أما الثالث، فلألبوم صور الطفولة والعائلة وبعض من أصدقائه الكثيرين. وقد كان الاستماع إليه ـ تقول ماري رودونيه في المقدمة ـ وهو يتكلم، طريقةً في العثور علي المغرب، في غناه وتركيبه وانفتاحه، أي تلك الصور التي يريد المرء الاحتفاظ بها بعناية كبيرة لتحدي صور أخري قبيحة ومهدِّدة. كانت تعطيه آلة التسجيل الصغيرة، تجلس علي الأريكة المقابلة له وتتركه، بعد الشاي أو القهوة، للأسس المتفق عليها بينهما: التلقائية، مجازفة الكلام بنفسه وفتحه لمجاريه الخاصة في الموضوع المتفق عليه أيضا آخر الحصة السابقة، كما شاهدتهما مرتين أثناء وجودي في بيته. في الحوارات هذه، لا يكاد القارئ يسمع صوت ماري رودونيه، أو يعرف طريقة طرحها للاسئلة أو ترتيبها للموضوعات، كان ذلك يتم بالشكل الذي ألمحَ إليه في فصل آدم وحواء (ص 169) خلال تأمله للوحةِ مازاشْيو. وبينما تدخل هي في الاصغاء، يقْلِب هو الحكيَ إلي ألف نهارٍ ونهارٍ، يخرج من ليل الحكي الذي لا يحتمل نورَ النهار، ليشوّشَ بشكل سري للغاية نظامَ محكياته المضبوط في أدق تفاصيله بأشباحه وشخوصه المكثفة والمتحولة تبعا لتحولات عملية حفرِ حلمِ سلسلةِ ليالي الألفِ عام، وعلي طريقة رُواته ذوي الأسماء المتنوعة التي يمكن أن تقال بأكثر من لغة، وأكثر من تقليد وثقافة؛ وليتحدث عن الموجات القدرية الكامنة وراء ولادته من أب مغربي وأم مغربية بين يديْ قابلةٍ أسبانية؛ عن حمله للمعتقدات الثلاثة في اسمه؛ عن تعثره في المدرسة بسبب إصابته بالربو؛ عن مصاهرته لأسرة كاثوليكية هو المغربي اليهودي الذي لا يعرف لا العبرية ولا الطقوس اليهودية ممارسةً، يحتفل مع المسلمين في أعيادهم، ويتهلّل وجهه عندما يناديه أحدهم بالحاج. يدافع عن المقاومة الفلسطينية وعن فصائلها كما يحلم بالصلاة في القدس عندما يتحرر من الاحتلال؛ يدين كل أنواع المحارق، الفلسطينية والرواندية والعراقية وغيرها، مثلما يرفض فكرة المحرقة اليهودية عندما توظَّـف فقط لتبرير الصهيونية واستغلالها لملايين اليهود الذين ماتوا فيها والذين لم يموتوا، كما يتأسف لهجرة اليهود إلي يوتوبيا تقوِّض نفسها يوميا بيديْها، بعنصريتها وجدارها العازل واغتيالاتها للقادة السياسيين وعدم احترامها للقرارات الدولية (ص 92)؛ ويعرّفه القاموس الذي ألفه الاسرائيليون علي شكل من يكون، كالتالي: إدمون عمران المليح، يهودي مغربي، مناضل عربي، وطني معاد للسامية متعصب؛ تموت زوجته، الفيلسوفة ماري سيسيل ديفور، ويودِعُها الثري باللباس العزيز عليها، اللباس الفلسطيني، في مقبرة فرنسية؛ يبني يوميا، فيما يكتُبُ، علائقَ بين القبّالية والتصوف الإسلامي؛ يعيش في سديم خيال رواياته كما يعيش بين البسطاء علي مدية الواقع، فلا فصل لديه بين الكتابة والحياة.

يقول في الصفحة 104: سيعثر المرء في سلوكي علي ما أكتبه في الخيال (...) وأن المهم هو ملاحظةُ مدي حضور طريقة عيشي في الكتابة، إنها تجربةٌ شهوانيةٌ، واللذةُ التي تخلقها لدي، لذةٌ جسدية تقريبا (...) لذةُ العثور علي شيء جديد، ليس في الحكاية، لأن هذه الأخيرة وحدها لاتخلق الأدب . كما يطوف في هذه الحوارات أيضا بين آثاره الأدبية وأعمال أخري وصداقات له، منها إدوارد سعيد، خوان غويتيصولو، خوسيه آنخيل بالانطه، أندريه سانشيث روببَيْنا، ليلي شهيد، دومينك إيديه، محمد برادة، محمد الأشعري، الطاهر بنجلون، فرانسوا بوث، ميغل أبنْسور وغيرهم، فاتحا كواتٍ جديدةً فيها، متحدثا عن ارتعاشات الحياة، عن الأشياء اليومية التي تحرس العدم، عن لابراءة الذكري، عن الموت الذي يوقظنا عندما نخرج من حلم الحياة، عن تجربة المعيش في الواقع المغربي، عما يتواري منه يوميا ويُعاش علي أنه قيمة تتأكد باستمرار انطلاقا من الهوة التي يحدثها بين عالم يموت وفي نفس الوقت يحيا علي شكل تجربة وجودية تفتِّق القيمَ الصامتةَ التي تُكتشَف فيما بعد (ص 74)...

هو هذا الذي يسميه بالصدمة الانفعالية، أو الجرح السري الذي يثير فيه الكتابة. في فصل مجري الأثر الأدبي، يقول: لا وجود لمشروع كتابة (...) أنا لا أشتغل أبدا وفق تصميم معين، ولا أهيئ بنية ما لعملي الأدبي. أعرف متي يبدأ الكتاب، ورغم ذلك لا أكون حتي متأكدا من أنها بداية سليمة. بل أعتقد أنها بداية خاطئة، لأنني أكبت انطلاقا من صدمةٍ انفعالية تثير الكتابة: حرب لبنان، أحداث الدار البيضاء (...) والإحساس ببداية نسيان يغلف أحداثا ويبدد أشخاصا (...) لا أشتغل كمسّاحٍ، ولست مهندسا. طبعا كتبي متأثرة من ذلك، ويمكن للناس أن يفكروا في أنها مدٌّ لغوي جارف لا بنية فيه وفي أسوأ الحالات يكون بلا ترقيم (...) لكن ما يمكن أن أشير إليه، هو أن البحث يمدّ جذورَه إلي مناطق الكائن العميقة. وأعتبر أن إضاءة تلك الغياهب، ليست أمرا هيّنا. فلا مجال للخطأ. لا يجب الضغط علي تلك الحقيقة المتحركة والمائعة، المنفلتة من الزمان والمكان، كما لو كانت موضوعا. فعندما نتعامل مع الأدب علي أنه موضوع، يبدو لي ذلك أمرا مثيرا للضحك {126ـ127}.

في فصل رسائل حول كفيفو من كتاب تصوير الكلمات لصفاء فتحي وجاك دريدا، الذي ألّفاه علي شاطئ فيلم عن طفولة دريدا في الجزائر، ص 93، وللعنوان هنا دلالة هامة في حالة إدمون عمران المليح، يري دريدا بأن الذاكرة دائما لاتنتظم بمعني من المعاني، إلا انطلاقا من توتّر مّا، من انقطاعٍ ومن خطإ مّا، انطلاقا من جرح يحصل في اللاّتوازي. فهي تنتظم أحسن في عطْلِ التناسق. تتحرك وتُصْدي في اللاانسجام. فلا حظّ لذاكرةٍ مهدَّأةٍ، إذ لا طريق أمامها سوي الخمود. كما لا أتخيل أن بإمكان ذاكرة منسجمةٍ، متصالحة مع نفسها ومغتبطةٍ، أي ذاكرةٍ سعيدة، أن تفعل شيئا آخر غير إمكانية تلاشيها. . . إن الجرح هو ما يوقع (من الإيقاع) الأثر الأدبي والفني، بالحفاظ علي الألم حيا؛ هو الذي يرسِّخ وفي الآن نفسه ينتزع بالضبط ما يمنح هذا التنافرَ الجائرَ للذاكرة. هذا النوع الأخير هو ما تحدث عنه المليح في هذه الحوارات، وهو ما نجده في سائر أعماله الروائية والنقدية، بحيث يجعل من الذاكرة اسما آخر للمستقبل، ينصت للخراب الذي يوضح اللامفكَّرَ فيه والمبهَمَ والعابرَ كمادةٍ استعارية تماما، يوضح المتخيّلَ والدفين العابر للتاريخ كثوب حريري شفاف يغلف الأفكار. وفي هذا التبعثر الذي يزرعه المليح في كتابته، الذي تحدث عنه محمد برادة ودومينيك إيديه، المتمثل في تهشيم الأجناس الأدبية وجعل الكتابة تدمر نفسَها وهي تنكتب عضويا. . . وفي بعثرة الخارج والمرئي والمسرود والمتخيّل، الذين يراهم المليح في الفجوات المهملة، والقطع الناقصة في المشاهد والشقوق، يوجد كلٌّ مّا. وهنا ربما ميثاقُه السري مع زوجته ماري سيسيل في الكتابة الأليغورية، ومع والتر بنيامين في أطروحاته حول النسيان والفكر المدمِّر، ومع برغسون في فكرة الموناد أو أصغر وحدات الوجود الدالّة، وإيمانويل لوفيناس في اللغة وغيرها. . . ربما نعرف الآن لماذا كتب المليح وحوشا ولم يكتب روايات {ص 210}.

إن عمل المليح الذي يريد أن ينقذ صحراءَه المفتوحة لكل رياح القلق ولانهائيةِ الاحتمالات التي تتربص بها فأس التاريخ من الباطن، ورشةٌ كبيرة للذاكرة، بتعبير كْريستْيان بْييشْ، ما نُسِي وما تعرض لجور النسيان؛ فيه أصوات لا تتكلم بصوت واحد، ولغاتٌ يتعذر اختزالُ هويتها واختلافاتها المنغَّمةِ: فرنسية، عربية دارجة، عربية، أمازيغية، اسبانية، عبرية، إنكليزية وغيرها؛ يعرضها كوشم في جسد النص، متعايشة في الصفحة الواحدة، ولا يترجمها لقارئه الفرنسي، لأن اللغة عنده ليست مجرد وسيلة، أو وسيط لنقل المعني، بل كذلك مادّة حساسة للأذن، للعين... ولمَ لا للذوق؟ وهو الذي يعتبر نفسه في فصل الطبخ (ص 175)، من الطباخين بلا حدود، ويري بأن مسألة الطبخ المغربي مسألةُ شعر حتي وإن كان من الصعب ترجمة هذه الوصفة إلي واقع... ولعل لمسألة الحكي واللغة هاته علاقة ـ من بين أشياء أخري طبعا ـ مع طفولة المليح، فطفلا كان يحب الكذب، الكذب الأبيض بلاريب، الذي يبني فيه عوالمه الطفولية ممزوجة بقراءاته المبكرة للروايات، مثلما كان يعاني من عسر التنفس، كما أشار إلي ذلك في روايتيْ المجري الثابت و عودة أو الحكي، الطفل القصير النّفس، الذي يلون جملَه بكلمات يرعاها بداخله، والذي لكونه لم يتكلم كباقي أقرانه في المدرسة، اختلق لنفسه لغة أخري، أهمّ، وعوالمَ أرحب. هنا في حواراته مع ماري رودونيه، في ص 100، يعبّر عن ذلك بطريقة دالة، عندما يقول: ثم وُلد أخي. وبالمقارنة معي، كان مهملا رغم حبّ والديّ له، بسبب امتياز كوني مريضا. ذهبت إلي المدرسة أياما فقط. الذكري الوحيدة التي أحتفظ بها هي أنه كان علي أن أذهب إلي حفل أطفال. كانت المدرسة فرنسية، يرأسها السيد والسيدة فافار. كان علي أن أتنكر في ثياب فراشة. وكان أمر أن أظهر عاريا تقريبا إلا من جناحين قد أثار قلق الأسرة. كان علي أن أخاطب أنثي اليعسوب وأطلب يدها. هو ذا السيناريو. لكنني تعرّضتُ لأزمة ربو، كانت كارثة. لم أذهب إلي المدرسة. بدأت أتلقي دروسا خصوصية في البيت. لقد تعلمت القراءة قبل أن أتعلم الكتابة. من هذه التجربة ومن غيرها، كما تحدث عن ذلك في الحوارات، والتي تمثل جراحاته السرية، بكل ما عاشه، علي الصعيدين الفردي والجماعي، من أحداث وطنية وقومية وعالمية، يريد المليح أن يقول بأن الخصوصية لا يمكن أن تكون عالما مغلقا بين الأفراد والشعوب والأوطان والإثنيات في ظل ذريعة التسامح التي لا يحب إنما في سياق الاختلاف والاعتراف بالآخر، كي تكون نبضا، إقلاعا من ربوٍ وسكنا في لغات متعددة وأشكال حياة لا يقهر بعضها البعض الآخر، وقد عبر عن ذلك كريستيان بّييش (في ص 213) عندما قال: عندما أقرأ إدمون عمران المليح، يستقبلني في لغتي، التي هي ليست لغتي أكثر منه. يردّ إليّ إذن شيئا يشبه التحية التي لم أوجِّه له أبدا، لكنها أتتْنا معا عبر دروب التاريخ الملتوية، الموحلة والدامية .
في النهاية أريد أن أشير إلي أن ماري رودونيه، بهذا الحوار، قد استخرجت من المليح ما يشبه السيرة الذاتية، محققة بذلك هوامشَ إضاءة هامة لأعماله الروائية، والتي كانت إلي جانب ما ذُكر في البداية، مناسبة ليتكلم عن وضعه ككاتب في الأدب المغربي؛ عن اللغة؛ الجامعة المغربية وما يمكن للأدب أن يغيِّر اليوم؛ عن الكتابة كطريقة أخري في الحياة؛ عن السفر بينها وبين القراءة؛ عن المدن وكيفية إعادة خلقها في الرواية؛ عن الإرهاب وإرهاب الدولة؛ عن حضور المرأة المثير والنبيل والضروري في حياته وعمله الأدبي؛ عن علاقته المؤثرة للغاية بأمه وبماري سيسيل؛ عن نظرته للإبداع، الطبخ والتشكيل والموت...وقضايا أخري، سنعود إليها، يزيد الإطلاع عليها من تعميق معرفتنا بعوالم إدمون عمران المليح، كي نقترب من نصوصه الأدبية أكثر.

 

كاتب وفنان تشكيلي من المغرب