شهادات

إدمون عمران المليح: كبيرٌ بتواضع الفنان، جديد بكتابة الشيوخ

إلياس فركوح

غابَ إدمون عمران المليح!
غابَ المغربي الأصيل أوّلاً، حين التعريف بهويته، ثم اليهودي كإشارة للديانة وحسب. هكذا أراد أن يكون، في قرارته، وفي اعتبار الآخرين. «أنا كاتب مغربي يهودي، لا يهودي مغربي»، نافياً بذلك أن تكون الديانة مؤشراً على الهوية الوطنية، ذاهباً إلى إدانة تهجير يهود المغرب إلى «إسرائيل» وكل من تواطأ على تنفيذ تلك العمليّة، معتبراً إيّاها بمثابة سرقة مواطنين مغاربة!

ولدَ في مدينة آسفي عام 1917، يتحدر من أصول أمازيغيّة تنتمي إلى قبيلة آيت عمران جنوب الأطلس، وممن نزحوا من الأندلس، ويعشق مدينته «الصويرة».غابَ المليح يوم الثلاثاء 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 عن 93 عاماً، على نحوٍ مفاجئ، أو ربما هكذا كان النبأ في وقعه عليّ. كان موجوداً على سطح الحياة الظاهرة، وباتَ ينغلُ في «حياةٍ» أُخرى لن يكون في وسعه، الآن، أن يكتبَ لنا عنها ـ فهي متخفيّة بأستار الغموض والمفازات، ومتشحة بأرمدة الخيال والأسطورة!

لم يكن الرجل «نجماً» متداولاً ومكرراً في المشهد الثقافي العربي، خارج المغرب، {يمتنع عن الحديث عن نفسه معتبراً أنّ «في ذلك الكثير من التمحور حول الذات».} اللهم ضمن بضع دوائر صغيرة ومحدودة ذات عِناية وشَغَف بما يحدث هناك، على ضفاف الأطلسي في القارة الأفريقيّة. البعض من هؤلاء، وأنا أحدهم، لعبت الصدفة المحضة دوراً تمهيدياً في السماع لأوّل مرّة بالاسم والاطلاع، بالتالي، على أحد أعماله. والفضل في حالتي يعود للصديق معن بيّاري، فهو مَن حدّثني عنه، فما كان مني إلاّ أن طلبتُ من صديقة لي تقيم هناك إرسال أيّ كتابٍ له، فبعثت لي روايته «آيلان، أو ليل الحكي». حدث هذا في شباط (فبراير) 1990. قرأتها، وكانت بمثابة المفاجأة من جهة الجِّدّة الكاملة في كيفيّة كتابة روائيّة مغايرة تماماً لِما ألِفنا. كتابة يمكن وصفها، بمعيار القراءات السريعة الجارية فوق سطوح النصوص، بأنها صعبة. وإنها لكذلك حقاً. غير أنَّ جانباً آخر ينبغي التركيز عليه، وها آن أوان الإشارة إليه بينما نعيش حالةً متفشيّة من الاسترخاء والاستسهال على صعيديْ القراءة والكتابة معاً، أنَّ هنالك متعة ولذاذة نادرتين تكمنان في تلك الكتابات «الصعبة»، وأنّها ليست مُتاحة لأيّ «عابر كتاب» أبداً. (وصفته جريدة «الاندبندنت» البريطانيّة بـ «جيمس جويس المغربي»). إضافةً إلى أنها، بحسب وصف خوان غويتسيلو لها، في ندوة جمعتهما معاً في تموز (يوليو) الماضي احتضنها معهد سرفانتس في مراكش:

«إنه كاتبٌ عاش تجربة الكتابة كمغامرة، ولذلك ظل كل كتاب يدفع به إلى دنيا القراءة بمثابة (اقتراح مختلف). لم يكتب لغرض تجاري أو تسويقي». وعليه، علَّ غياب إدمون عمران المليح، في لحظة «الهياج الكتابي الراهن» أن يشكّلَ، لأصحاب التعمُّق بالقراءة ولزارعي القلق المعرفي عبر الأدب، مناسبةً للشهادة، الدارسة والمنقّبة، بأنَّ كِبارنا لم يصبحوا كباراً إلاّ لأنهم تعاملوا مع الكتابة صنواً للحياة ـ وما كانت حياة المليح سوى تحدّ ٍ متصل وبأوجهٍ شتّى، واجهه بالمبدأ الأوّل القابع في ضميره:

لا للظلم في زمن الاستقلال، ترك المغرب رفقة زوجته ماري سيسيل ديفور إلى فرنسا عام 1965 إثر القمع الدموي لانتفاضة الجماهير في أحداث 23 آذار (مارس) في الدار البيضاء، واعتقاله وتعرضه «للإهانة والإذلال والتعذيب أيضاً، من قِبل الدولة التي ناضل ـ إلى جانب مثقفين آخرين ـ من أجل استقلالها» ـ بحسب يحيى بن الوليد في كتابه «الكتابة والهويات القاتلة». ولا للاستعمار الفرنسي في المرحلة السابقة؛ حيث كان من مناضلي وقياديي الحزب الشيوعي (1948 ـ 1952)، وتعرض للاعتقال حينذاك، في وقت كان المغربي اليهودي فيه ينأى عن العمل السياسي. ولا «لإسرائيل» بمجمل وجودها المؤسس على الصهيونيّة؛ إذ هي في نظره «حركة عنصريّة وحشيّة تقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب». ولقد أدّى موقفه هذا إلى اتهامه، خلال وجوده في فرنسا، بمعاداته لليهود (هو اليهودي!) وللساميّة، الأمر الذي ساعد على عزله هناك وإدبار بعض دور النشر عن تبني كتبه بحجّة «تركيبها العالي» ـ وفق دار غاليمار! ولا للجنسيّة الفرنسيّة المُتاحة لأنه مغربيّ أوّلاً، وسيبقى ـ أما إقامته في باريس فلا تعدو أن تكون مجرد مسألة مؤقتة وليست، بأي حال، منفى. يقول إدمون عمران المليح بهذا الصدد: «لقد اخترتُ بمحض إرادتي قرار الرحيل إلى فرنسا. وعليه، لا أحبّ مفهوم المنفى، لأنه مغلوط ويشي بالتبجح في آن واحد. لقد حافظتُ منذ وصولي إلى باريس على علاقاتي مع المغرب، وهي التي لم تفتأ تتطور وتتقوى وتتعمق. لم يفعل مقامي بالخارج سوى تقوية شعوري بالانتماء إلى هذا البلد».

*    *      *

عاد إدمون عمران المليح إلى المغرب في 1999، وكانت بعض كتبه قد تُرجِمَت إلى العربيّة، منها على سبيل المثال: «آيلان، أو ليل الحكي» عام 1987 (بعد نشرها بالفرنسيّة بأربع سنوات)، و"ألف عام بيوم واحد" عام 1991 (بعد نشرها بالفرنسيّة بخمس سنوات)، و»المجرى الثابت» عام 1993 {بعد ثلاثة عشرة سنة من نشرها بالفرنسيّة عام 1980 ـ وهي كتابه الأوّل!}، وربما هنالك غيرها لستُ مطلعاً عليها وعلى تواريخ ترجمتها ونشرها.

إنَّ الكتابة بالفرنسيّة، في نظر إدمون عمران المليح، لا تزيل عنها وعن كاتبها الهوية المغربيّة؛ إذ المرجعيّة عنده تتمثّل في المنبع الذي يستقي منه الكاتب كتابته. فالكاتب المغربي يبقى مغربيّاً حتّى وإنْ لجأ إلى لغةٍ ليست هي العربيّة، وبذلك فإنَّ إحالة كتابته لغير أصولها الثقافيّة الوطنيّة الحاضرة في داخله عند الكتابة إنما هي إحالة مغلوطة. وعلى هذا الأساس، يُصرّ على أنه كاتبٌ مغربيٌّ صِرف.

وإني لأقف متريثاً حيال هذا الفهم، وإنْ كنتُ ميّالاً إليه، لا لأعارضه بقدر ما أطرحُ على نفسي وغيري تساؤلاتي، وصدى اللازمة الشائعة القائلة بأنّ «وطني هو لغتي!» (رغم بعدها المجازي) يترددُ في غير تصريحٍ ومنشورٍ وإشهار. فالمسألة، إنْ تم تناولها من الزاوية المقابلة أيضاً، وجدناها بحاجة لأكثر من فكرة واحدة، ولأكثر من قولٍ واحدٍ حاسم.

عندما ندقق في جميع أعمال إدمون عمران المليح، المكتوبة بالفرنسيّة، وكما هو مُتفقٌ عليه، نجدُ أنها، إضافةً إلى تركيبتها وبنيتها ومشهديتها بالغة الدقة، فإنها كذلك مسرودة وقد استندت إلى عنصرين أساسيين: ثقافة معرفيّة، أدبيّة وفلسفيّة وفنيّة تشكيليّة، واسعة وعميقة. وكَمّ ٌ وفير من مفردات اليومي المغربي، الشعبي، اليهودي والإسلامي، بما تعنيه المفردة من خصوصيّات محليّة مرفوعة على تراث وتقاليد ومفاهيم، وبالتالي على رؤية، وليس الاكتفاء ببعدها اللغوي العاري والاقتصار عليه فقط. وهذا، عند أخذه بالاعتبار داخل النسيج الكُلّي للعمل، فإنه يحملُ الدلالة التي أشارَ إليها، هو نفسه في حديثه المتلفز مع معدّ البرنامج الثقافي «مشارف» ياسين عدنان، والمشير إلى أنها الفرنسيّة ما لجأ إليها عندما كتب؛ لكنها فرنسيته هو المغربي المطبوعة بشخصيته، وبذلك لم تعُد هي هي الفرنسيّة المتعارف عليها بمواضعاتها العامة. وإني، لحظة إنصاتي لهذا التصريح، تبادر إلى ذاكرتي ما فعله البولندي جوزيف كونراد باللغة الانكليزيّة، والهندي سلمان رشدي، وجبران خليل جبران قبلهما. كما ما فعله بالفرنسيّة كلٌّ من الاسباني خوان غويتيسيلو، واللبناني أمين معلوف (علمت مؤخراً أنَّ نجوى بركات نشرت عملاً لها كتبته بالفرنسيّة)، والجزائريون مالك حداد، وكاتب ياسين، ورشيد بو جدرة، وأمين الزاوي ـ الذي كتب في شهادة قدّمها في مؤتمر للرواية في عمّان قبل عامين تقريباً: «أشعر أني حين أكتب باللغة الفرنسيّة أنني أنقل معي الإرث العربي الكبير. أشعر بذلك فأمارس بقصد أو بغريزة معينة عمليّة تكسير في بنية اللغة الفرنسيّة، التي تتعرض لانتهاكات تبدو سلبيّة، لكن هذا هو الذي يعطي هذه اللغة مصلاً جديداً».،

لنصل إلى مواطنه الطاهر بن جلّون. فهل يملكُ جميع هؤلاء وجهة نظر إدمون عمران المليح، والكيفيّة التي يعالجون بها، في شروحاتهم، استخدامهم لغير لغتهم العربيّة في كتاباتهم؟إنه لسؤال برسم التأمل. ولأن الرجل لم يعمل على فصل كتابته عن حياته بكافة أبعادها، رأيناه يبتسمُ بألَق حينما سأله ياسين عدنان عن كيف يشعر لمّا يُنادى بـ «الحاج إدمون» من قِبَل أصدقائه المغاربة، ويقول بأنَّ السعادة والرضا ما تبثـّه هذه المناداة. فهي، إنْ دَلَّت على شيء، فإنما تدّل على التوقير والاحترام والأريحيّة والتبسط لدى «أهل البلد»، مما يؤكد قُربه من القلب، ويثبت مغربيته.

* * *

قيلَ عنه أنه هادئ دائماً، وصَموت صمت المتواضع الحقّ، وأليف.

وحقاً هذا ما وجدته فيه، تماماً، عندما التقيته عام 2003 في الرباط. المناسبة : الرباط عاصمة للثقافة العربيّة. والمكان إحدى قاعات المدينة. والوقت ظهر يوم 15 أيلول (سبتمبر). استراحة بين جلستين جمعت عدداً من الروائيين والنقّاد العرب والمغاربة. في أروقة ذاك المكان رأيتَ رجلاً جالساً خلف طاولة مغطاة بمنشورات اتحاد الكتّاب وغيرها، كنتُ مررتُ عليها صباحاً، واشتريتُ كِتابين: «المجرى الثابت»، و«ألف عام بيوم واحد».  أوليسَ هذا هو إدمون عمران المليح؟

لم أعد أذكر سألتُ مَن صدفَ أن كان برفقتي لحظتئذٍ من الأصدقاء المغاربة {أهو الشاعر والمترجم محمود عبد الغني، أم الناقد صدوق نور الدين؟}، فأجابني بأنه هو فعلاً. فما كان مني إلاّ أن تقدمتُ منه لأعرّف بنفسي ولأقول له: «شَرَفٌ لي أن أتعرّف إليك!»، لكنه، الرجل العجوز الهادئ الصموت، سرعان ما وقفَ بتمهّلٍ وثِقَلٍ ملحوظين، وبادرَ بمَدّ يده. ضاعَت الجملة مني، وحَلَّ محلّها الارتباك حين أُواجهُ كبيراً في جَلال تواضعٍ كتواضعه. في رعشة أصابعه لمّا كتب بالحرف العربي المغربي الواضح إهداءه على الصفحة الأولى لكتابيه اللذين أخرجتهما من حقيبة المؤتمر. في إنصاته لكلمات شُكري وشدّه الناعم على يدي. في مثوله الراضي أمام كاميرا «زليخة» الأمازيغيّة لالتقاط صورة تجمعنا ـ وها أنا أحتفظ بها أيقونةً أغبطُني عليها؛ إذ أقف فيها إلى جانب مَن جعلَ الحياة تشهد له مثل ما كان منه، بالكتابة وبالعيش، أن شهد لها وعليها.

* * *

مَرَّت منذ ذلك التاريخ سنوات، إلى أن أرسلَ لي الصديق الناقد يحيى بن الوليد كتابه «الكتابة والهُويات القاتلة»، المخصص للنظر في تأثير «مدرسة فرانكفورت» وتفاعل المليح وزوجته بنهجها الفلسفي، بغية إعادة طباعته ونشره، بعد أن صدر ضمن أنشطة «مؤسسة إدمون عمران المليح للأدب والفنون»؛ فهل كنتُ لأتقاعس؟

*     *      *

تبقى مسألة تحتاج أن تُبحَث على حِدَة؛ ألاْ وهي البدء بالكتابة والمرء في الستين من عمره! فإدمون عمران المليح كتب ونشر أوّل عَمَلٍ له (المجرى الثابت) عام 1980، بينما كان في باريس لمدة ثلاثين سنة، وقد بلغ 63 من العمر! إنه سِن الشيخوخة وبداية الترهُّل في عُرف المفهوم السائد! وإنه، عندما يحدث وأن نتأمل حالة إدمون المليح، نجد أنها تعاكسه وتثبت بالدليل الملموس والمقروء أنَّ حيوية الفكر وتجدده، وإرادة المثقف الحقّ، ومعايشة الحياة لا بالمعاينة والرصد من بُعد، بل بالانخراط والاشتباك، هي المعايير الدّالة التي تُبنى الأعراف والمفاهيم من خلالها.

فلنتابع تسلسل صدور أعمال الرجل: «المجرى الثابت» 1980، و»آيلان، أو ليل الحكي» 1983، و»ألف عام بيوم واحد» 1986، و»عودة أبو الحكي» 1990، و»أبو النور» 1995، و»حقيبة سيدي معاشو»1998، و»المقهى الأزرق: زريريق» 1998 ـ وقد ضمّنه كتاباً عن جان جينيه أسماه: «جان جينيه، الأسير العاشق»، إلى جوار كتاباته وتأملاته في الكتابة الفنون والحياة، و»كتاب الأم» 2004، و»رسائل إلى نفسي» 2010، إضافةً إلى كتاب عن الفنان التشكيلي المغربي خليل غريب بعنوان «العَين واليد». في الـ 63 بدأ الكتابة الفعليّة، وفي الـ 93 أنهاها، أو ربما تركَ لنا أوراقاً تنتظر النشر؟
فلنتأملْ .. ونأمل!

شكّلَت ما تناقلته الصحف بمناسبة وفاة الكاتب، وخاصةً ما يتعلّق ببعض أعماله وأقواله، مَصدراً لهذه الكتابة. كما هو الأمر بالنسبة للحديث التلفزيوني المُشار إليه داخل المتن؛ فلقد عاينته واستمعتُ إليه من خلال موقع جريدة «الأخبار» اللبنانيّة، بتاريخ 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010.

 

كاتب وروائي من الأردن