شهادات

أخلص للكتابة وانتقد توظيف المحرقة لأهداف سياسية ولم يهادن الصهيونية في حياته !

عبداللّطيف الوراري

المالح..وداعاً:
لن يعود بوسع أصدقائه وقرّائه، من الآن، أن يزوروه في شقته الصغيرة الهادئة في الرباط، حيث يتوكّأ عصاه، ويجلس على أريكة خشبية، حليق الوجه أنيق المظهر كما العادة بابتسامته الحييّة التي تُداري شاربه الكثّ الأشيب، ومُحاطاً بلوحاته وتحفه من تماثيل الخشب وكتبه باللغتين الفرنسية والإسبانية في الأدب والفلسفة والتشكيل؛ ولن يعود بوسعهم أن يرتشفوا الشاي المغربي اللذيذ الذي تحضّره مساعدته أمينة أو مينة كما يُنادي عليها بصوته الخفيض. ويظهر أن عبارته الأليفة "ما دمت أقرأ وأكتب فأنا موجود"، التي كان يقطع بها دابر الشائعات حول حالته الصحية، لن يتفوه بها هذه المرّة، وقد خذلته صحّته. لقد توفي إدمون عمران المليح (1917 ـ 2010م) الإثنين الماضي في المستشفى العسكري في الرباط، الذي نُقِل إليه في الثالثة صباحاً بعدما وجد صعوبة كبيرة في التنفس، ثمّ فارق الحياة في السادسة عن عمر يناهز الثالثة والتسعين. وعملاً بوصيّته، يوارى جثمانه تراب الصويرة، مدينة الرياح التي أحبّها وأفنى فيها أخصب أيّام حياته في الكتابة والخلوة والتأمُّل.

وكان إدمون عمران المالح الكاتب المغربي من أصول يهودية قد ولد في العام 1917م، في مدينة أسفي الساحلية التي عاش فيها طفولة عادية لم يعكّر صفوها شيء، في جوّ من التعايش الهادئ والتلقائي بين مسلمي المغاربة ويهودهم، مما جعله يرفض فكرة الهجرة إلى إسرائيل شأن بني جلدته الذين أغرتهم أحابيل الصهيونية، ولم يستسغ ما كانت تُسمّيه بعض كتب التاريخ بـ 'البروليتاريا اليهودية'، حيث حياة البؤس في الملاحات هي نفسها في أحياء المسلمين. وما إن شبّ عن الطوق حتّى أُغرم المالح بالفلسفة، وانضمّ إلى الحزب الشيوعي المغربي، وكان يكتب في جريدته الأمل (L'Espoir) تحت اسم مستعار هو عيسى العبدي، فأنجز ملفات وتحقيقات اجتماعية عديدة مكّنته من الاحتكاك بمجموعات أو شرائح اجتماعية مسحوقة من عمال وفلاحين وعمال ميناء الدار البيضاء.

في أثناء الأحداث الدامية لما يعرف في تاريخ الاحتجاجات في المغرب بـ 'أحداث 23 آذار / مارس»في عام 1965م، التي كشفت عن فشل الدولة الوطنية التي علق عليها أبناؤها آمالاً عريضة في فترة الاستعمار، وبسبب مواقفه المعارضة لحكم الحسن الثاني، غادر المالح إلى فرنسا مشتغلاً بتدريس الفلسفة، وبالصحافة في ملحق الكتب في جريدة 'لوموند»الشهيرة. في مهجره الاختياري، شعر بنفسه يولد من جديد، ويدشن مساراً في الحياة والكتابة مغايراً، إلا أن الأفق الثقافي لفضاء باريس المتعدّد وجد صعوبة في التكيّف معه واختراقه. ولمّا تحسّنت الأوضاع نسبيّاً، عاد إلى وطنه المغرب الذي ارتبط به وجدانيّاً، قاطعاً غربة دامت ثلاثة عقود ونصف العقد (1965ـ2000)، قائلاً إن الأمر يتعلق بـ "رؤية واقعية حاسمة، لا تنازل عنها ولا شوفينية فيها أو تعصُّباً"، وزاد: "من منّا لم يشعر مرة في حياته بالرغبة في أن يكون مزدوجاً، بل متغرّباً أو غريباً عن ذاته، وهي العلامة التي تدل على تعقد الشرط الإنساني".

الكتابة أو علامة تعقُّد الشرط الإنساني:
لم يتفرّغ المالح للكتابة ويتّخذها معتقده الجمالي والسياسي إلا بعد أن شاب رأسه، فكان إقدامه على الكتابة يُحيي شبيبته الكامنة ويفجّر سحر قوله البديع، وهو في أرذل العمر. كان يقول عن نفسه أنّه جاء إلى الكتابة بالصدفة، لكنّه، ابتداءً من ثمانينيّات القرن العشرين، لمّا أصدر روايته 'المجرى الثابت»التي عبّر فيها عن تجربته الذاتية في النضال والسياسة والحياة، وعن تاريخ المجتمع المغربي وذاكرته، استطاع المالح أن يجد لنفسه موطئ قلم في خارطة الأدب المغربي، حتّى صار أحد أهم وجوهه البازغين، ولا سيّما الأدب المكتوب باللغة الفرنسية. وفي عام 1996م، يكُرّم المالح، إلى جانب الكاتب المناضل قاسم الزهيري والشاعر محمد الحلوي بـ 'جائزة الاستحقاق الكبرى'، وهي أرفع جائزة ثقافية وأدبية رسمية تُمنح في المغرب، ثُمّ بـ 'وسام الكفاءة»عام 2004م، وذلك تقديراً لإنتاجه الأدبي والتخييلي، ولمواقفه الوطنية ومساهمته في إشعاع الثقافة المغربية الحديثة.

من "المجرى الثابت"1980 و"أيلان أو ليل الحكي"1983 و"ألف عام بيوم واحد»1986، ومروراً بـ "أبو النور"1995 و"المقهى الأزرق: زريريق"1998، وانتهاء إلى كتابه الأتوبيوغرافي "رسائل إلى نفسي"2010، قدّم الكاتب إدمون المالح عملاً مهمّاً جديراً بالدرس، وهو يرتفع بالمحلي إلى مستوى العالمية، ويمسك بجوهر الأشياء والتفاصيل والصور التي وظّفها بفنيّة عالية في معظم أعماله السردية. لم يكن يأسر نفسه في نوع أدبيّ مغلق ومحدود، بل يتنقّل بين كل أشكال التعبيرات الأدبي، مُشخّصاً فضاءات وموضوعات ومواقف ظلّ أكثرها غائباً عن التداول، ولا سيّما ما يتعلق بفضاء العشيرة اليهودية، عبر تصويره لطقوسها وعاداتها وماضيها العريق. هكذا، يلمح القارئ إيقاع التشظي في معمار جُلّ أعماله المنقوعة بلغته المفتوحة التي تمتح من التراث المغربي اليهودي الشفوي، وتتخلّلها العربية العامية المغربية التي تُدار حوارات الشخوص بها، مثلما يكتشف القارئ روح السخرية المبطنة من الأشياء والمصائر في تلك الأعمال التي ألّفها في فترة مقامه الفرنسي، وترجم معظمها إلى العربية صديقه الكاتب والتشكيلي ومرافقه في أيامه الأخيرة حسان بورقية.

في "حوارات"2005، التي أجرتها معه الكاتبة الفرنسية ماري رودونيه، يكشف المالح عن خلفية ثقافية واسعة عن عصره المضطرب الذي عاشه صاحب 'ألف عام بيوم واحد»في موضوعات الكتابة والهجرة، والرسم، والصداقة، والمدينة، والطبخ، والنضال السياسي، وفلسطين، وإدوار سعيد... إلخ.  وأصرّ على أن يقول أكبر قدر ممكن من الأفكار والمواقف التي شغلته على مدار عمر يغطّي قرناً من الزمن شهد المغرب الثقافي والسياسي خلاله قطائع سياسية و»هزات ثقافية'. وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق دائرة الكتابة التي تتأطر داخلها هذه المواضيع، الكتابة التي تنأى عن الوثوقية و»الامتلاء»والتي لا مجال فيها لـ 'الكلمة الأخيرة'. وفي آخر كتبه 'رسائل إلى نفسي»2010م، الذي لم يعتبره عملاً أوتوبيوغرافيّاً 'لأن في كتابة السيرة الذاتية من النرجسية الشيء الكثير'، يعثر القارئ، عبر توالي رسائله العشر، على مزيج من التأملات الفلسفية والشعرية والتأريخية، وعلى أسماء معروفة في عالم الأدب والفن والسياسة (زولا، بلزاك، برغسون، فوكو، بروست، ألان، ديكارت، طوماس مور، بورخيس، ديكنز، سارتر، تيوفيل غوتيي، إلياس كانيتي، والتر بنجامين، فيلاسكيز، كازان، ماو، ميتران، ديستان ...)، وعلى أسماء أماكن ذات حمولة تاريخية وحضارية متنوّعة تستدعيها ذاكرته النصية وذاكرة جذوره الروحية التي تنغرس في المغرب وإسبانيا السفاردية، وفي نصوص الثقافة الأوروبية أيضاً.

إنّ قوة كتابة إدمون عمران المالح ترجع إلى هويّتها المركبة، هويته المغربية العابرة لجغرافيّات وأسئلة ثقافية متعددة. الكتابة عنده في تحوُّل مخصب. الكتابة التي تحتفي بالأليغوريا وليست الكتابة المفهومية التي تتلبّس بالفكر المفهومي. تتجاوز الكتابة،هنا، ذاتها باستمرار، في توليف سحري بين الظاهراتية والحياة.

مواقف جريئة:
وكان المالح إلى آخر رمق في حياته، يكتب ويناقش ويعرّف بالفنانين المغاربة، مثلما يدلي بآرائه في الندوات والمهرجانات التي يواظب على حضورها، كان آخرها رأيه بخصوص المشهد الثقافي المغربي، إذ دعا إلى الدفاع عن الثقافة الحقيقية الراقية ضدّاً على ثقافة البهرجة والتسطيح والمجاملات، مؤكّداً أن 'الثقافة غائبة»و»نحن نعاني من نقص فظيع في هذا المضمار'. فلا بُدّ من 'حياة ثقافية حقيقية بكل معنى الكلمة، ويكون لها تأثير على محيطها'. وفي هذا المعنى، أوقف كتبه على المكتبة الوطنية، ليستفيد منها جيل الشباب والباحثين.

وككاتب يهودي له وضعه الاعتباري، بادر المالح إلى كشف الخداع الصهيوني للعالم منذ روايته "ألف عام بيوم واحد"1986م بمناسبة الحرب الإسرائيلية على لبنان، ولم يتوان منذ ذلك الوقت عن فضح الصهيونية باعتبارها "حركة عنصرية وحشية تقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب"، ولا هادن "الجرائم الإسرائيلية البشعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي يكافح بكل ما أوتي من قوة من أجل حريته واستقلاله وحقه في وطنه". في أثناء الحرب الهمجية على غزة، قال: "حينما أشاهد ما يحدث بغزة: جثامين الأطفال والنساء والدمار، أحس بالاختناق من الظلم ومن الهمجية والبربرية ومن القدرة، بل الإرادة الرهيبة لإسرائيل على قتل الناس الأبرياء وتدمير شعب بأكمله". ورأى أنّه من "الواجب الخطير محاربة الذات السياسية الوحشية العنصرية لإسرائيل تجاه الفلسطينيين"، داعياً إلى وقف بناء المستوطنات التي تحمل أفكارا عنصرية تتنافى مع الديانة اليهودية نفسها.

ويذكر الرأي العام المغربي والدولي البيان الذي نشر بالجرائد الوطنية والعالمية في آب (أغسطس) 2006م، الذي وقّعه أهمّ كتاب اليهود المغاربة: المالح وأسيدون وأبراهام السرفاتي الذين جاهروا بمعارضتهم الصريحة للصهيونية، ورأوا أنّ التدمير وتقتيل المدنيّين هما من صميم 'المشروع الصهيوني وفي أساس الدولة الصهيونية التي تحاول دائما ستر وجهها البشع'. وكان المالح قد هاجم في أيامه الأخيرة طريقة تناول محرقة '«الهولوكوست''، وطريقة توظيفها لأهداف سياسية وإيديولوجية، وانتقد هذا الخطاب المغلوط والمغرض الذي يحصر الحديث في الجرائم التي وقعت ضد الإنسانية في '«المحرقة اليهودية''، في الوقت الذي عرف فيه التاريخ الإنساني جرائم أفظع بما في ذلك التي ترتكبها إسرائيل نفسها، متسائلاً لماذا لا تثار مسألة المغاربة ضحايا الاستعمار؟. لكن المالح لم يكن يُخفي حساسيّته الشديدة من مشكلة هجرة أو تهجير اليهود من المغرب إلى إسرائيل، وفي هذا الإطار انتقد الأفلام السينمائية المغربية التي تناولت حديثاً هذه المشكلة، مثل شريطي 'فين ماشي يا موشي»و»وداعاً أمهات'، باعتبار أنّها تجانب الصواب في الكثير من الأمور، ولم تعد كونها 'أشرطة فولكلورية»لا غير. كما أنه رفض أن تُترجم أعماله إلى اللغة العبرية التي ليست في نظره 'لغة مهمة»ولم تُحْيَ الا داخل إسرائيل.
برحيل إدمون عمران المالح، الذي يكنى بـ "جيمس جويس المغربي"، والذي لم يرض عن جنسيّته المغربية بديلاً، تفقد الثقافة المغربية الحديثة واحداً من أعلامها، لكن عزاءها في إرثه الأدبي والفكري والفنّي الذي تركه وأفنى فيه زهرة روحه وعوده الذي عمّر وطال، وفي القيم التي أشاعها في هذا الإرث وحول محيطه الإنساني، المبنية على الانفتاح والالتزام وسخاء الطبيعة.

 

شاعر وناقد من المغرب

El_ouarari@yahoo.fr