منقبة الشيخ أو وشي علي سيرة ادمون عمران المليح

أحمد المديني

(1)

هناك ما يغري دائما في الكتابة ويكون مبعث ريبة، لأنها لا تتحقق فعلا إلا بدافع توريط ولتتحول بعد انفضاض القراء عن نصها الى ورطة. ورطة في عالم سحري ومركب اسمه الكتابة أيضا. لم يكن هذا النص ليوجد ولا أنا لاقترب من فضاء نشاطه لولا أن الناقد والأديب الرباطي عبد الفتاح الحجمري فتح لي الباب الواسع للدارة التي أصبح قيما عليها (اعني الجمعية المغربية للدراسات الأدبية المغاربية والمقارنة) وأجلسني مع ضيوف الصدارة، فكانت الورطة الأولي.

أما الثانية فمنحاها أطول وخيوطها اعقد ما دامت قد تركبت من حضوري منذ وقت طويل في محراب المحبة والألفة، وبعدها الإفادة والمتعة من الأديب اللوذعي، الكاتب النحرير الشيخ ادمون عمران المليح أطال الله في عمره، وأمدنا بمزيد من قبسات نوره وفيض خاطره. وقد أبي ناقد العدوتين والباحثون في المعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط إلا أن يفتتحوا موسمهم الثقافي بحلقة دراسية يتولى فيها مريد والشيخ ذكر مناقبه، والغوص في بحر سريرته وعلمه وأدبه لاستخراج ما فيها من درر، والتيمن بهاتيك الغرر.. فكانت لنا في ذلك المجلس هذه المنقبة. في يوم أمر الله فيه بالسقيا، هطل فيه المطر مدرارا بعد صيف عطش طويل والله يرزق من عباده من يشاء.

 

(2)

لا تعجبوا أن مطلع هذا النهار ماء.

لا تعجبوا.

أن روح هذا الرجل رواء.

والرواء ساقية وسقيا

والسقيا سبيل

بل سلسبيل.

تسلم الى اللسان، الى الشفاه،

الشفاه مشافهة هو يحبها

يحب الكلم الطليق، ليس الأسير السجين

أما الكتابة فهي، نوعا ما سجن للكلمات، ولما تمور به الذات. لكن لا مناص، ولذا سأتخفف من هذا القيد مداورة، محيلا كلامي من بستان الكلام، مديرا الطرف في عيون الأنام ومنهم الى مدار الاستفهام من يدري فلعله يسعف في هذا المقام:

 

(3)

كان ابن خلدون، بحكم معتقداته، مذهبيته ومنحي زمانه، يبحث في الكتابة عن جلب المنفعة، درءا للمفاسد أما أنا في علاقتي بزماني، والحق أقول، بكل الأزمنة، ما سبق ما أنا فيه، وما لن امتد إليه، فاني لا ابغي سوي شيء واحد، وهو تبديد أي وهم بمنفعة الكتابة، وبالحاجة المطلوبة أو المبتغاة زعما من ورائها.

يعود ذلك الى سبب بسيط هو أنني لا اعرف لا ما هي الكتابة ولا من هو الكاتب. واظل استغرب كيف لا يضجر عدد من الصحافيين المضجرين، ومن يواليهم من الكتاب المعقمين من طرح أسئلة حول المفاهيم والمعاني المفترضة للكتابة، ولدور الكاتب، وما الى هذا مما ينشغل به بعض من يتخذون الأدب والثقافة، بصفة عامة. حرفة سواء للتكسب، أو من اجل نيل المني وبلوغ العلي، أي علي؟! يا لضياع العمر كيف قضيت العمر أيها الشيخ المليح، كيف أمضيت عمري، فلا نلنا المني ولا عرفنا أين تقع الذروات التي صنعنا واسلسنا الحبال للمغفلين كي يتسنموها، ونحن ننظر إليها ونضحك بل نقهقه. ذلك أننا كنا ثم صرنا منذ البدء منال المني، ثم منذئذ نراكم الماء ونصنع الموج من اجل أن ينتشر البحر، وان تفيض الكتابة، آه، عساها تشرح خاطر اليابسة ألم نشرح لك صدرك .

 

(4)

وحدتي الآن هائلة.

هائلة وحدتي.

هل تصلح لي وحدتي

مكانا للإقامة.

أم هي لي وبعدي.

نذر ووعد بالقيامة؟

امشي، وامشي، الفراغ لي ظل وسراط.

لم أكن قد ضربت أي موعد معها،

ـ اعني وحدتي ـ

فهي دوما بانتظاري حيث تراني.

أراه، التمس الطريق الى ذراها.

شاسعة خطاه

لله البداية والولاية وشعاع المنتهي

ستكلمه، ستدثره

دائما هي وحدتي

معا أراهما يمضيان الى المتاه.

 

(5)

أريد

أريد أن

لا كما يعبث النزقون بالكلمات لنتطاول عنقود هراء.

لا اعرف بالضبط كيف اصنع قول إرادتي. أشكله.

هيهات لي. كيف أرسله.

ها انذا أمامي قول.

شاخصا يواجهني القول ليصافحني.

قول آخر ينبع مني وهو دائما يتقدمني،

ومثل نبع فوار يتضاعف متكاثرا بي.

يختلط بحركاتي وسكناتي. سيد في يقظتي وهو لا يكف يستدرجني الى وسن حالم، غاو وكذوب فألمعه، القول، يتلألأ ويتراقص، ولا اقبض إلا علي نثار زبد.

هو الذي لم يقبض في الحقيقة علي لسانه، ولا احكم سنن الغواية له. يقولون فضلا انه بلغ مدرك الكتابة متأخرا. وهو طبعا، كلام اعتباطي محكوم بأعمار البشر العادية، اؤلئك الهائمين علي وجوههم بلا نبراس، في السويداء. لكن لا احد راقب ولا ترصد للمسير السري في الليالي الخفية، ولا كمن ألف النجوم اوماس في سمت الأطياف التي أحاطت الشيخ المليح بهالتها.

 

(6)

هو الذي اختار أن يترك جسده يمشي بين الناس في المدن المألوفة، والشوارع المسكونة، والمسالك المطروقة، حتى صدق الناس بالفطرة انه آهل مثلهم واحد منهم طرا، مطلقا، أو ليس ينام، يستيقظ، يحادث الجيران والأصدقاء يهيئ طويجنات لا ألذ. يعلم التلاميذ يحب الوطن، يناضل من أجل مثال يتخلى عن بعضه أو بفضل أن يتوارى، ويهاجر من اجل مثال أيضا.

لكن الجسد الآخر، ذا الشكل الهيولي من خارج، المتورم بنتوءات الخرائط المهمشة، المفخخ بألغام ذاكرة وثابة، المقرح بأشجان الوقت من داخل ـ والحزن أبدا غدير في الروح يسري، آه! كان قد اختار صاحبه كليما الى نفسه، يلتقط منه ذبذبات الوجود المتصاعدة، واندثارات الفناء المتعاقبة، مؤلفا بينها، بكلمات منكفئة، أي الجذور والأعماق سماؤها، مؤلفا موسيقي لا يسمعها إلا من أدمن الصمت الهادر لعالم مضي من حيث هو قادم. لذلك لم أكن من الذين يميلون الى الترويج لقول العامة والعادة اعني أن الرجل جاء الى الكتابة متأخرا. ويقيني أن الرجل كتب دائما بصمت المتأمل لا بثرثرة متحذلقين لم يسعفهم تقدمهم في الكتابة دائما. أما هو فيظهر متخوفا لا عن جبن أو عجز، متقدما بكثير علي من سبقوه ولم يدركوا تخوم الكتابة مثله. ومن عل يطل علي نفسه لا عليهم. تطل الرواية من عرين كمونها الطويل، علي تاريخ جنس أدبي لتجنسه. كأنما تفصح عن أبجديتها الاولي، وعلي وجدان جماعي يتسلسل في عذوبة وشجن ومن سريرة.  فما أن يحاول التماهي أو الإقامة ـ مثلي نوعا ما في وحدتي الهائلة حيث نقيم معا ـ حتى تراه قد تشظي في السيرورة الوجودية والتاريخية لشعب هو منه فما يلبث أن يغربه، للغة تجري في دمه ولا يقولها.. ولمصير يتبدد أو يتأرجح بين مصائر.

علي صعيد الكتابة الخالصة، فلا شيء أكثر حرجا من الحديث عن تجربة ادمون عمران المليح الإبداعية الروائية، السير ذاتية، بتجزئتها من كتاب الى آخر، وتصنيفها بطريقة تحقيبية، وصفية وحتى مذهبية بأنني ازعم أننا أمام سيرة كتابة متصلة ليس الجنس الأدبي المنضوية فيه، ميثاقها المعلن كما جرت التسمية غير طريقة إجرائية في طرح ما هو مكتوب ليس إلا، وتراه يصب في النهاية بين دفتي كتاب. ولقد تبين لي بعد طول تدبر ومكابدة مع شؤون الخليقة والحياة أن أعظم كتاب يمكن للمرء أن يبدعه أو ينسجه متقدم عليه في شكل سيرة الغياب، فتراه يلاحقه ويواجده فلا يطوله إلا في وهم كتابته المنفلتة دوماً تروم كمالها في خوف صاحبها من فنائه وهوسه، الى استمرار اكتماله، ذاتا ووجودا وجمالا الى ما لا نهاية، فأي عذاب هذا، وأي وهم جميل مهما يكن الأمر. ولعمري، فانخراطك في هذا المعني، إحساسك المتداوم برهبة الكلام، وبإعجاز القول حد ندرة المعجزة والرسولية ليجعلني قريبا منك أكاد أراني في بلور روحك. أو أكاد اسمعني في خرير ضحكتك.. أكاد، وهي ليست إلا فعلا ينوب عن توأمة سرية وهبها المجاز نيابة عن الطبيعة.

 

(7)

وبعد يا صديقي وشقيق روحي، فقد علمتنا لغتنا وثقافتنا العربية أن البلاغة هي أن يطابق اللفظ مقتضيات الحال، وان كلام العرب واسع، ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والابانة.. وها أنذا في حضرتك يا شيخي أحس برعشة في قلبي قبل يدي، وبلساني يرتد إلي داخلي، جوفي، و والله ما هو عيّ ولا عياء، ولكن..

لكنها وحدتي الآن هائلة،

ربما، لا يضارعها سوي قامة ادمون الهائلة.

 

كاتب من المغرب