شهادات

حبيبتي ماري كم أنا مشتاق إليك!

بو جمعة أشفري

كثيرون هم الذين حاولوا استيعاب حياتهم في كنهها الروحي، وأولئك الذين توفقوا في هذا المسعى يبدون لنا اليوم عجوزين بشكل غريب. كنت أود لو كشفوا لنا أكثر عن هذيانهم، فالهذيان هو المكسب المشترك لكل البشر، كل يمكنه أن ينهل منه بدون إكراه لجميع ما يعتبره مفيدا". بهذا المقطع الكانيتي (نسبة إلى الكاتب إلياس كانيتي) يفتتح الروائي إدمون عمران المليح عمله الروائي "آيلان أو ليل الحكي"، وكأنه يفتتح طريقه إلى الحياة عبر مسارب الليل في عز يقظة الحكي.

الذين يعرفون إدمون عمران المليح هذا الرجل الهادئ في حديثه والهادئ في مشيته، يدركون كم هو شديد الإنصات لمسار حياته الكامنة في الوراء ومسار حياته الكامنة في الأمام. كان عمره ستين سنة ونيف عندما بدأ كتابة حياته حكيا. ستون سنة هي قمة النضج والإدراك. نضج التجربة وإدراك آليات الحكي والتحكم فيها داخليا. فإدموند عمران المليح، منذ أول عمل روائي له »المجرى الثابت« وهو يكشف عن »هذيانه« المرتبط بالأرض التي أنبتته (الأرض المغربية بالطبع)؛ ذاك »الهذيان« المرتبط بلحظة ميلاده في أحد أيام سنة 1917 داخل عائلة يهودية مغربية نزحت من الصويرة إلى آسفي. أرض عبدة التي هام بها إدموند عمران المليح منذ درجاته الأولى في الوعي بالانتماء، ومن خلالها هام بالأرض المغربية التي تنقل في ربوعها شمالا وجنوبا، غربا وشرقا.

مغربي حتى النخاع
هذا الرجل، الذي يبلغ الآن من العمر 92 عاما، لا يفتأ في كل مرة تحدثه فيها عن ولعه الشديد بالمغرب بالتصريح وباللغة المغربية الدارجة عن أن أمر الانتماء ليس غريبا عنه: »أنا مغربي يهودي حتى النخاع، وأعيش وسط إخوني وأصدقائي المغاربة بدون مركب نقص.. أحبهم ويحبونني..«. وبالفعل فالمغرب يسكن قلب وجوارح إدموند عمران المليح.. يسكن في ذاكرته وفي كتاباته. معظم رواياته هي تشريح لأحداث المغرب المعاصر. أحداث الانتفاضات الشعبية في القرن الماضي (مارس 1965 ويونيو 1981 مثلا)، وملامح مغربية تلاشت في الزمان: »الفقيه جالس على حصير فوق الأرض. حزمات من الكتب العتيقة بجانبه. يتكلم ويخاطبك. يقرأ على جبينك، في نظرتك، العلامة المذنبة التي أنضبت منيك، هدمت قوى رجولتك، مقابل قدر زهيد.. يمكنه إن شئت رسم عبارة الخلاص على جدول: يأخذ القلم القصبي المغمس في محبرة الصمغ، وهو مخلوط مسحوق معدني مع صوف خروف مقطوعة من تحت البطن، هناك حيث تكون الصوف مخلوطة بالشحم، تجفف، ثم تُحرق وتحول إلى مسحوق أيضا. سيمحي القلم نص السحر ليخط مكانه معبرا لحياة جديدة...»

هكذا هو هذا الرجل الهادئ، يفاجئك في كل عمل أدبي له بملمح من ملامح المغرب الدفين الحيي في ذاكرته وجسده اللذين خبر بهما السياسة والحياة الاجتماعية في المغرب عندما كان مناضلا في الحزب الشيوعي المغربي في خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي. وحينما اعتزل السياسة عانق فضاء الأدب والفن والفكر، وجعله إقامة لأفراح الناس الطيبين ومشاكلهم في الحياة الدنيا.

الهجرة والعودة
بعد انتفاضة مارس 1965 غادر إدمون عمران المليح المغرب ليقيم في باريس هو وزوجته الغالية على نفسه ماري سيسيل. غادر المغرب متحسرا على تدني حقوق الإنسان في هذا البلد. ومع مغادرته للمغرب غادر أيضا السياسة بمعناها النضالي ليعود إلى طفولة خياله ويوطد علاقاته مع رجالات الإبداع والفن في باريس مغاربة وعربا وأجانب. كان إدمون عمران المليح أثناء إقامته في باريس منكبا على إعادة قراءة المتون الفلسفية: أفلاطون، كانط، هيغل، نيتشه... وكان يميل أكثر إلى فلسفة نيتشه. كان لديه تصور خاص لهذا الفيلسوف، فهو في روايته الثانية »آيلان أو ليل الحكي« يجعل إحدى شخصياته (جواد) يقترح الاشتغال على »وفاة نيتشه الثانية«، ولكنها ليست وفاة في الغرب، بل إنه يعني »وفاة نيتشه الثانية الحقيقية في شمال إفريقيا على الخصوص«.

المدة التي عاشها إدمون عمران المليح بباريس كانت بالنسبة إليه عودة إلى إقامة الإبداع وإلى التفكير في الكتابة. وكان قارئا نهما لما يكتبه الروائيون المغاربة، كان شديد الالتصاق بكتابات الشاعر والروائي المغربي محمد خير الدين. وقضى إدمون ردحا من الزمن هناك، وعاد بعد غيبة طويلة إلى المغرب ليقيم في بعض مدنه (الدار البيضاء، أصيلا، الرباط)، رفقة شريكة عمره ماري سيسيل..
لم يعرف على إدمون أنه تغيب في التظاهرات الثقافية والفنية التي يستدعى إليها، فهو يحضر في كل الأنشطة الثقافية، خاصة في الشق المتعلق بالفنون التشكيلية. تابع، ولا يزال يتابع، معظم معارض الفنانين التشكيليين: المرحوم محمد القاسمي، خليل غريب، مصطفى بوجمعاوي، المرحوم ميلود لبيض، بوشتى الحياني، فؤاد بلامين... وكلما طُلب منه كتابة نص عن عمل فني يستجيب بدون مواربة، ويكون شرطه الأساسي هو اللقاء بالفنان في محترفه حتى يستطيع أن يناغم بين ما يعرفه عنه من خلال مساره وبين اشتغاله اللحظي في المحترف.

الشعور بالوحدة
إذا سألت إدمون عمران المليح عن أهم شيء ضاع منه في حياته، فلن يجيبك إلا بالنظر مليا في البعد وبابتسامة حزينة ترتسم على شفتيه. لن تظفر منه بإجابة تشفي غليلك، ذلك لأن الألم يكمن عميقا في أحشائه. ألم الفراق الذي يخرج من نفس الناي. وليس غريبا أن نجد في ثاني رواية لإدمون »أيلان أو ليل الحكي« هذا المقطع الحزين: »الناي يفلق الصخرة، يصدع القلب، يفتحه ثمرة موهوبة للفرحة الحازمة، تنوح القصبة على الفراق: اسمعي يا قصبة، نواحه/ يحكي لنا الفراق/ منذ أن قطعوني عن أصلي/ نفَسي يثير أنين البشر،/ أنا قلب تمزه الغربة،/ ليحكي آلام الرغبة..«.

لا يحتاج إدمون عمران المليح أن يحدثك عن الألم الذي يكمن في أحشائه، فما إن تجالسه ويطمئن لك، وتبدآن في الحديث عن أمور الكتابة والفن والحياة، حتى تشعر بالوحدة التي يكتمها تتسرب إلى ثنايا كلامه.. وفجأة يصمت ويسيح ببصره، وكأنه يريد أن يقول لك: »إني أراها هناك.. قادمة نحوي لتؤنس وحدتي.. ماري سيسيل حبيبتي.. لم أشعر في أي لحظة بأنها غادرتني.. ها هي تبتسم لي.. تقترب بشفتيها من أذني اليمنى.. تُسر لي بالمحبة والرباط المقدس الذي يجمعني وإياها.. حبيبتي ماري: كم أنا مشتاق إليك.!«.

 

شاعر وصحفي من المغرب