محكيات من «ملح دادا»

أحمد الفطناسي

(1) الحيلة
(كان ذئب وقنفذ يتعاشران كالأصدقاء، يجوبان الأرض طولا وعرضا بحثا عن المغامرة والاكتشاف استجابة للحكمة "القائلة": أن ركود الماء في مكان واحد يفسده... وفي يوم من الأيام، أخذ منهما التعب والجوع مأخذه. فالتصق الجلد بالعظم. التفتا بحثا عن ما يسدا به رمقهما، فوجدا بستانا على مقربة منهما، كان محاطا بسور عال غير أن رائحة فواكهه داعبت أنفيهما. فانتفضا واقفين، يبحثان عن مسلك للدخول، إلى أن وجدا ثقبا صغيرا على مقربة من مسرب للماء.. أنسلا وأخذا في التهام ما طاب لهما من العنب والبطيخ.. حتى انتبها لوقع خطوات البستاني وراءهما أنسل القنفذ وهرب. بينما علق الذئب ضحية لبطنه الممتلئ.. وعملا بنصيحة القنفذ تظاهر الذئب بالموت أقترب منه البستاني، أخذه من ذيله وأداره في الهواء ثلاث مرات، ثم رماه خارج السور ليسقط الذئب أرضا بدون ذيله، الذي بقي عالقا في يد البستاني.. الذي ما انفك يهدده متوعدا إياه بعقاب وخيم. هرب الذئب متألما، الى أن أحس بالأمان فجلس يداوي جروحه وهو يتذكر وعيد البستاني، بقي على هذه الحال، إلى أن ناداه القنفذ بأن لديه حيلة للخلاص طالبا منه أن يجمع له كل الذئاب.. حينما اجتمعوا، طلب منهم القنفذ أن يساعدوه في درس محصوله الزراعي وحتى يضبط طريقة العمل وسرعة إنجازه.. طلب منهم أن يربط ذيولهم بحبل.. وما إن صعد القنفذ إلى صخرة عالية حتى صرخ:

ـ اهربوا..هناك آدميون قادمون رفقة كلابهم!..

فرت جميع الذئاب.. لكن ذيولهم ظلت مربوطة بإحكام مع الحبل المتين المتصل بالشجرة السامقة.. من يومها ظل البستاني يبحث عن ذئب مقطوع الذيل وسط ذئاب بدون ذيول تماما!) 

(2) أميرة أسيف
كانت أميرة عادلة، عالمة، جميلة، عاشت للمدينة وأهلها! كل صباح كانت تأتي من البحر في موكب ملكي بهيج.. سفن متراصة بيضاء بأشرعتها، لا تفارقها النوارس.. تمضي الأميرة اليوم كله في حل المشاكل أهل المدينة ورعاية مصالحها.. إلى جاء اليوم الذي أخبرت فيه الجميع بأن باب سعادتهم سيفتح:

ـ قرب جزيرتي.. كنوز من الفضة، يمكنكم النهل منها كما تشاءون!

من يومها والرجال يبحرون عباب البحر بحثا عن جزيرة أميرتهم وكنوزها الفضية التي لا تحصى.. أما الشيوخ والنسوة فيحلون الليل إلى نهار لا ينتهي، يوقدون مشاعلا أسموها "أسفو" خوفا من ارتطام مراكب أبناءهم وأزواجهم بصخور الشاطئ.. وهكذا كان إلى ماتت الأميرة العذراء وهي ترعي شؤون مدينتها.. ماتت قرب مكان لا تنضب خضرته طيلة أيام السنة.. أسيف الوادي الذي تحولت جنباته لمرقد دائم وأبدي للأميرة ظلت ترقب منه المدينة التي أحبتها.. هنا كانت تعقد مجلس "الفرج" وفيه تروي عطش المظلوم هنا.. ظل الموج يداعب سكينة المكان الذي غاب عنه ضوءه الباهي للأبد..

قرب مجلس الأعيان والحكماء، أن يحرم على الرجال زيارة المكان ابتداء من صباح اليوم الموالي لدفن الأميرة. لأنها ندرت حياتها للناس ولم تفكر يوما في نفسها.. قيل أنها ماتت عذراء وهي الجميلة الفاتنة.. ماتت لتدفن في المكان الذي شاهدتها النساء تستحم فيه في إحدى ليالي فصل الربيع.. ليلة اكتمال البدر لتمامه.. ليلتها شعرت النسوة بأن البحر فتح معبرا أثيرا حتى تتمكن الأميرة الفاتنة من الاستحمام. لكن النسوة انتبهن إلى أن الماء الذي تدفق على جسدها كان يمتزج بضوء بهاء القمر.. بل إن الأشعة البيضاء كانت تضيئ المكان بكامله..

حين ذهبت النساء لزيارة قبرها في اليوم الموالي.. وجدن الصخرة المجاورة لقبرها تتدفق ماء عذب زلال. قال الحفار بدهشة لزوجته..

«لكني بالأمس، جلبت الماء اللازم معي من المدينة!من أين تدفق النبع!?من..»

كانت أميرة عادلة عالمة وجميلة، لكن غيابها تحول لمحفل ديني تصر النساء على إحياءه، عندما يغتسلن من الماء المتدفق دوما.. وكانت تقاسيم الصلاة الأبدية حيث تمتص الأتربة دنس النسوة إلى الأبد..

يمضي الموكب الجنائزي.. ويستمر الطفل في الموجه لتغسل ساقيه من دمث تراب المدينة والناس.. 

(3) أحجية الشجرة المباركة
خطت متثاقلة اتجاه شجرة التين المباركة والمحاذية لخلوة الولي الصالح المقيم بقبة رأس الجبل، وقبل يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض قامت بتطهير جسدها بالماء، بينما ظل الصبي فوق السطح يخاطب النجوم وهي تهيم سابحة في السماء.. ظل قابعا على السقف لعله يهدأ من علة الروح قبل الجسد بماء باركته النجوم والأرواح وحظوة جوار الولي الصالح..

الشجرة السامقة بفروعها قرب البيت مزينة بـ... "التابعة" حيث الأحجمة والملابس الداخلية لنسوة رقص الحظ بعيدا عنهن، ولم يسعدن بذرية تنسيهن ملاذ الوحدة، وتبقي على فرع سامق كفرع الشجرة المباركة...

مجموع حجابات، وسرة تخلص منها أصحابها رميا بعد وصية العرافة... مررت بيدها الملساء الرطبة على وجهها وصدرها بعد أن لمست اليد نتوء الشجرة المباركة، شجرة التين.. بحثا عن راحة تدركها لوحدها.. إنزوت في مكان حيث أوراقه حولته لبساط ناعم، عانق برفق أخمص قدميها المطليتين بالحناء.. بدت قدميها مطرزتين بورق الشجرة.. أدركت وهي تتخلص من نعليها سر سريان دم ساخن يداعب تلك الشعيرات الصفراء.. التي تطلي رجليها معا.. أعادت تلك التعاويذ التي تحفظها عن ظهر قلب، رفعت رأسها للسماء،.. شدت حزام وسطها.. وانتشت لحظة.. لحظات.. كلما أفاقت أغمضت عينيها الذابلتين.. ومررت راحة يدها على وجنتيها الحمراوات.. وتنهدت..

عادت هي لتلج باب الخلوة المشع بالسكينة لمست بقدميها شعيرات رضيع حمل يوم الأربعين من عمره لإزالة شعر البطن، سعيا وراء بركة الولي وأسلافه،... جثمت داخل الخلوة المشعة على ركبتيها، أصاب التثاقل رموش عينيها الناعستين،.. لما مرت هفهفات الراح الساخنة كانت تصيح بصوت متقطع،..

ـ لقد خرج قط من باب الضريح ومر على جسدي.  

أدركت حينها سر تلك الروح الساكنة دوما أمام باب الخلوة المشع،.. أعادت قراءة التعاويذ ذاتها في حين أمسكت بيدها فرعا من فروع الشجرة المباركة.. كانت تسر لها بمآل الروح المتمردة داخلها في حين تطلي الوريقات الجافة حوضها تعبيرا على اكتمال لا ينتهي،.. لكنها أصرت على إتمام لحظة السكينة للنهاية، خصوصا أن دفء المكان حول جسدها لكوة نار متقدة..

أعادت تلمس خديها مرددة نفس التعاويذ والتي تحفظها عن ظهر قلب.. حينها أحست بسائل ساخن يسيل بين فخديها.. كانت لحظتها تسمع نفس النداء للمرة الأخيرة..

متعة السريرة في توحد الروح بالشجرة المباركة. 

(4) لعنة الحجر
استوى "انمير" في جلسته منبهرا بتفاصيل الجمال الوضاء تجمدت حاجباه حبا،وهو يرى رقصة عينيها التي تبوح بحبها له.. اشترط أن لا يحرر معصمه إلا إذا قبلت الزواج منه..

اشترطت هي بالمقابل أن يبني لها بيتا لاتظهر السماء من سقفه..

تساءلت الأم بعد مرور الأيام، عن سر السعادة التي ترسم موشومة على محيا "أنمير" وزادت دهشة الأم، لما منعت هي وغيرها من دخول البيت ذو الأبواب السبعة.. بعد تردد طويل صعدت الأم للسطح وبدأت في نبش الأرض لتحدث ثقبا.. رفعت الفتاة عينيها لترى السماء!..

لما فتح "أنمير" الأبواب المتتالية السبع، بدا المكان خاليا، ساكنا دون رائحة فتش عنها لم يجدها، حينما رفع رأسه عاليا، رأى أمه دامعة تتأمل السماء، فهم "أنمير" السبب..

امتطى جواده وراح يقتفي خطى ملاكه، إلى حدود آخر الدنيا، كانت نفس الجملة تتكرر عند إجابة سائلية.. «لقد مرت من هنا»!..

طار الحصان بعيدا عن "أنمير" يبحث في الهواء ويفتح عباب السماء لعله يساعد صاحبه في إيجاد ضوء قلبه.. حبيبته التائهة.. دمعت عين " أنمير" وهو يعيد كلامه قائلا:

«قلت: مالي وإن سقمت واشتد دائي..
لا مداري إلا طلعتك الفيحاء البهية..
قالت: احترقت يوم رأيتك وكانت الحناء على كفيك مداويا.
عربونا لما بين اليوم والأمس
هل توفر لي مكانا زرقة السماء سقفه..
قلت: أنا المكان وأنت سماءه لكني فتحت ثقبا طارت منه آسره الفؤاد ولبه..»

أتمم رحلة البحث.. شاقا عباب الريح فوق صهوة جواده النحيف الخواصر.. رمق وهو في الأعالي أطياف أجساد فتيات غيد، جئن لحمل الماء، حين اقترب وجد الماء حليب أبيض، شرب حتى ارتوى.. حين سألهن.. ابتسمن.. فحملوه بين يديها المطليتين بماء الزهر قالت:

«إن كنت ترغب أن ترعى في حبي، فلك مقامي ولي الخدمة والطاعة,.. وإذا كان حبك وعشقك لي منتهى لا تقترب من هذا الحجر! وإن اقتربت فلا تزحزحه ولا تحركه من مكانه».

ظل "أنمير" يرعى في عشقه مسبحا.. أيام وليالي إلى أن وصلت تباشير العيد الكبير.حن "أنمير" واهتزت جوانحه لأمه الوحيدة.. البعيدة.. هام مشغول البال متسائلا..

«هل تنحر أمي أضحيتها، وابنها الوحيد يستوطن مرعى الفؤاد بعيدا عن رضاها..»

اقترب من الحجر.. تذكر تحريم الحبيبة.. زحزح الحجر من مكانه وإذا بثقب كبير يجلب ضوءه النظر.. تطلع من فوق ليرى دمع أمه في الأرض تبكي لوعة فراقه بعدها.. صاح:

ـ أماه!
وارتمى... 

كاتب من المغرب