الأدب الآن

أفق القصيدة.. بين آليات الإيصال التقليدية والحديثة

عبدالغني فوزي

توطئة:
أكيد أن الأدب اليوم، يعرف تحولا في مادته وصياغته، نظرا للتحولات المتسارعة في المرحلة الراهنة:فعلى المستوى السياسي، نلاحظ انهيار جدارات القناعات الكبرى. وعلى الصعيد الاقتصادي تمة الزحف المحموم لاكتساح العالم وتنميطه، في إطار سوق واحدة، بقيم اجتماعية وثقافية تذوب الخصوصيات والهويات الثقافية. في المقابل سينعكس الأمر على العالم الآخر بالسلب أوالايجاب على تعاطينا الثقافي والأدبي بين التمركز وامتداد الخصوصيات، بين الآليات التقليدية في التواصل والإيصال، والأخرى الحديثة الأكثر سرعة وانتشارا.

الأدب اليوم:
يخضع الأدب بدوره لتغييرات نظرا لعلاقاته واشتراطاته بالحياة والوجود، بل باليومي وتشعباته، فتنضاف أسئلة وتعمق أخرى مع ضربات ولمسات إبداعية ذات رهانات وخصوصيات. ويغلب ظني، أن للأدب سيرته ومسيرته الخاصة التي تنهض على قيم نسبية، وأخرى جوهرية. فالأولى تحيل على خصوصيات وطرق أدبية، والثانية على قيم جوهرية تسم الأدب كهوية خطاب تختلف في البناء والتركيب عن الخطابات الأخرى من تاريخ وسياسة.. الأدب يتفاعل ويرفد الأشياء بمزيد من العمق والانفتاح على الأسئلة غير الجارية، وبالأخص المتعلقة بالمصير والوجود. الأدب اليوم، يكتب في تقديري بلمسات خاصة، وعلى قدر كبير من التشكيل الذاتي (طبعا غير المحنط أو الدائري) في الشعر والقصة والرواية.. وعليه وجب الاقتناع بهذه الصورة أولا، دون تصنيفه إلى خانات، وبالتالي جماعات كأن، الأمر يتعلق بقطيع آخر في الأدب. نعم يمكن الحديث عن موجات وحساسيات، لكن التنويع داخل الوحدة أساسي. وهو المتحصل، إذا تأملنا المجاميع الإبداعية مثلا في المغرب والعالم العربي: هناك في الكتابة الشعرية، ما يشبه الحساسية الشعرية ابتداءا من تسعينات القرن السابق، من تجلياتها:

ـ الاشتغال على الذات: الذات كعماد للكتابة، باعتبارها مصدرا لعدة روافد ( شعور، ذاكرة، خيال...)، وهي بذلك أداة بحث في الحياة والوجود. وفي الشعر نفسه، الذات التي تلجأ لفضاء خال من ضربات الجماعة التي تحيا بمعنى القطيع الذي ينفي التجارب والخصوصيات والإبداع.

ـ اللغة: السعي إلى لغة خاصة، مستوعبة للتجربة،باستعمال تقتضيه الذات، ضمن لحظات تخلف تذويتا للغة. فتحولت هذه الأخيرة إلى مجاري خاصة في اللغة العامة والمألوفة.

ـ الصورة: وهي مركبة ومتحررة من الحلي البلاغي القديم، إلى حد تحولت معه القصيدة المعاصرة إلى صورة واحدة ذات تفريعات عدة، تداخلت فاعليات متنوعة في تركيبها( نفسية، لغوية...). كما تغذت الصورة من فضاءات التواصل والإيصال الراهن. هذا فضلا عن الشكل البصري الذي يشتغل على ثنائية السواد والبياض، وتعدد أنفاس القصيدة... أختار هنا الوقوف حول بعض المستويات الإبداعية في قصيدة العربية المعاصرة.

1 ـ بعض سمات التحول في الكتابة الشعرية:

أ ـ القصيدة الآن بين اليومي والكلي:
هذه بعض تجليات التغييرات الحاصلة في القصيدة المعاصرةّ، وبالأخص ضمن قصيدة النثر التي تعكس بوضوح غاية في الغموض الفني تراجيديا المرحلة، ضمن تفكك منتظم بخيط رهيف وشفاف سار في الرؤيا التي تقطع العالم من زاوية ما. لكن ما يثير هنا، هو الانفتاح المتسيب أو الفج لهذه القصيدة بجيدها العربي، ويظهر ذلك جليا في التوصيف البارد للعلاقات والتناقضات اليومية، تكون معه الكتابة كأداة تسجيل خالية من الإبداع ومستوياته. وهو ما يعرض القصيدة للاستلاب والإقحام تحت سيطرة الأوهام وسلطة النظرية. أو بهدف خلق أدب مماثل لذاك المترجم بلغة باردة. وفي نماذج شعرية أخرى، قد يتحقق هذا الانفتاح من موقع الكتابة دون استلاب أو ذوبان. ويظهر ذلك جليا في امتصاص اليومي، ومحاولة فهم روحه وجدله الخفي. وبالتالي، تحويله إلى قيم وصيغ جمالية، تتغذى على دفء التفاصيل وسحر حكيها المنثور وشاعرية أمثالها... فبهذه الكيفية من الإصغاء والتفاعل الخلاق تمنح للقصيدة جماليات متربة، أي تقطر بقيم موغلة تؤسس للخصوصية، المتعلقة بالأدب أو الأثر الأصيل الذي ينهض على طريقة في الاشتغال، وعلى رؤيا ذات أفق، هذا فضلا عن حس دقيق بالمرحلة.

الانفتاح على اليومي يخلق للقصيدة دفء انتسابها، ونسبيتها الشعرية أيضا، وبالتالي تموقعها الإنساني ـ دون نبوة مدعاة أو قفز معاق إلى الأمام ـ في المكان والزمان. آنذاك يمكن تقديم حفريات واقع،عبر الأدب إلى جانب الأبحاث السوسيولوجية والدراسات الميدانية الماسة، لتخطي حالات ووضعيات مختلة بما فيها الوضعية الثقافية.

واضح، أن هذا اليومي يدخل في إطار السهل الممتنع الذي لا يقتضي بلعا واستهانة، بل تفاعلا محموما، وعراكا للا ستيعاب أولا، والكتابة ثانيا...

لا أستغرب، إذن، لحال بعض القصائد التي تغطس في هذا اليومي (المقعر بكامل ظلاله التي تضل عوض أن تظلل) دون بوصلة، فتتحول إلى مزابل تنضاف إلى مزابلنا الراسخة.

ب ـ تمطهرات الذات في الكتابة الشعرية:
يغلب ظني أن الذات تحضر في الكتابة الشعرية كعماد يمد تشكيلات القصيدة بنسغ طاقاته غير المستنفذة في التعبير ( الشعور، التأمل، التخيل...)، بهذه الصفة تتلون الكلمات بحساسية في مطبخ الحالة. وعليه لم تعد وفق هذا الفهم الذات مقابلة بالتضاد للآخر: إنها منخرطة كحالات في الآخر، في إطار من التجاذب والتفاعل. بناء عليه، يتسحيل التحرر من الذات كتشكيل وتجربة، الذات التي تنتفخ حالة، لتغدو عالما في صلب العالم، وهي في الأشياء تفيض معنى وروحا. فقد يتم وفق ذلك، تذويب المعطيات كالانطلاق من التفاصيل الصغرى

(كأس، صمت، حرف..) للنظر للعالم من زاوية ما، أو تقطيع العالم من نقطة تموقعية، قصد التعبير عن حس دقيق بالمرحلة. طبعا، الذات هنا تمتد في الآخر ( ثقافة، مجتمع، تاريخ..)، فلا تعود ملكا لنا، كأننا نحيا بشكل دائري. فالوعي الجمعي والعقل المكون والذاكرة واللاشعور الجمعي... هو كل، يمتد للذات ويقولبها على مقاس أو صورة معينة ضمن سياقات ما. فتكون هذه الذات إبداعيا في صراع دائم مع الذات المصيرة، وبالتالي خلق بناء آخر، على أساس من الإرادة والحرية والحلم. لعل الدافع لهذا الطرح، هو نعث الكثير من الكتابات الشعرية بالذاتية، طبعا دون تبرير، ما عدا القول بطغيان ضمير الأنا. وهو ما يقتضي إحاطة الذات بتشكيلاتها في النص، دون إغفال للمذاهب والخصوصيات التي لونت الذات في الكتابة بلمسات ذات خلفيات وامتدادات.

2 ـ في الإيصال والتواصل:

ج ـ أية علاقة بالكتاب؟
فكثير هو الكلام المكرور بتوصيف بارد حول هذه الظاهرة، ففي غياب بنية تحتية مستوعبة، وتركيز الكتاب في خلف المؤسسات التربوية دون ساحاتها التي تحولت إلى "رحبة " سوقية بامتياز. كما أن أخلاقنا وعلاقتنا بالكتاب نظرا لتمثلات سارية في المخيال الجمعي حول "القراءة والكتابة"، تجعل الكتاب مفارقا وغريبا.

هو نقاش وسجال مرغوب فيه الآن وهنا، لتحميل المسؤوليات. لكن في غياب النيات الحسنة للتفعيل، يبقى الأمر كطحين دائرة نؤزم به مرة ثانية أزمة الكتاب الباحثة عن نوافذ حقيقية، قصد التأسيس لذاكرة وكينونة ضمن التباسات العصر. ما أثارني أكثر في هذا النقاش الدائر اليوم، هو موقع المبدع ضمن ذلك، فالكتاب الإبداعي آخر ما يقرأ، وينشر بالكاد نظرا لصد السوق. بل أكثر من ذلك، يعيش المبدع مفردا بين القبائل والمؤسسة التي تؤسس لنفسها بارتجالية مفضوحة ضمن مشهد لا يريد أن يتمأسس، خوفا على التركة وحراسها الأفاضل.

المبدع الذي اختار نصه وقده، يطبع على نفقته، ويوزع بكامل كتفه المستعصية على الالتهام. وحين يترك خلفا هو وكتابه، يختار النص ثانية، ليعاود حمل الصخرة ضمن الدائرة نفسها.

هناك حقائق، يصنعها الإعلام أحيانا وقفزات القول وعلو المنصات: كيف لا يقرأ الكتاب الإبداعي وهو أصل النقد، وأن المبدع فاعل إلى جانب الكتاب بالتقديم والمساهمة بالفعل والتفاعل... هل فعلنا وفعلنا ما يكفي، لنقول إن الإبداع في أزمة تلقي. ما مكانة الإبداع بالمقررات الدراسية: بالمؤسسة التربوية، بالأسرة... وفي تقديري، لا ينبغي لمؤسسات ثقافية وعموم الكتاب أن ينساقوا وراء أحكام تجعل المبدع دائما في قفص الاتهام، وفي موضع المهزوم أمام الناشر التجاري وأمام جمهور لا يأبه، لأننا لم نقم بترويضه وتدريبه بالتدرج، ابتداء من الأسرة، إلى المدرسة، تليها المؤسسة...

د ـ الأدب وقولبة الوسائط الحديثة:
لا يمكن أن ننكر ونتنكر اليوم، لدور الإنترنيت كحلقة من حلقات التطور التكنولوجي والعلمي، الهادف إلى تكسير الحدود الجمركية ضمن اقتصاد السوق والتبادل الحر. وفي المقابل، أصبح الحديث في هذا الخضم عن رأس المال المعرفي الآتي من مجموع الخبرات والأنماط للهويات الثقافية، وقد يتم الرقي بها لمجتمع المعرفة الذي لا يتوقف عند التداول التقليدي للثقافة والمعرفة.. بل إنتاجها وتسويقها بالمعنى الرمزي.

في هذا السياق، وضمن المجال الأدبي، ظهرت مواقع ثقافية ضمن الشبكة الإلكترونية، تمتص الإبداعات على اختلاف أشكالها من شعر وقصة ورواية.. وهو ما ساهم حقا، في توفير مساحة حرة دون رقيب ولو أدبيا أحيانا. فأصبح الأدب منسابا كبحيرة في جزيرة ما، ضمن واقع يحاصر المساحات الثقافية ويطاردها، نظرا للأعطاب الكثيرة المعروفة.

فالشبكة هذه، لا تكتفي بالعرض فقط، بل خلق نوع من الحوار المباشر حول الإبداعات. وهو ما أدى إلى تفاعل مباشر، دفع الكثير من النوافذ الإيصالية إلى تطوير تأثيثها الداخلي، قصد سهولة الاستخدام وإثارة المشاهد جماليا. وبالتالي، فالصفحة على الإنترنيت تتصف ليس فقط بعرض وطول، بل برحابة وعمق الداخل. فبدأ هذا الواقع الإلكتروني ينتج آلياته التواصلية، وخصوصية تلقيه. ضمن هذه المساحة الإلكترونية، انضافت للأدب المعروض تقنيات الحاسوب والإنترنيت من صوت وصورة ومشاهد وحركة.. فأصبح الأدب يتميز عن الآخر الورقي بمواصفات تفاعلية لمخاطبة مشاعر المشاهد وإثارته، ليس فقط للتلقي، بل للمساهمة في بناء النص دلاليا واحتماليا. إن هذا الفيض والذي لا يستقر على ملمح، يطرح السؤال حول النشر الورقي الذي ينبغي أن يتحرر من أحاديته، وبالتالي دمقرطته.. كما يطرح السؤال حول المؤسسة الثقافية، قصد تجديد آليات تواصلها لتتصف بالنجاعة والانفتاح.. إذا حصل، ستغدو حلقة الإنترنيت امتدادا طبيعيا لأشكال التواصل الأخرى، قصد إخضاع الأدب الافتراضي للسؤال دون انعزاله ضمن صناديق فاقدة للحركة والنقاش الجاد حتى لا تطفو الرداءة ويسقط الأدب. ويمكن طرح السؤال أيضا حول الكثير من المواقع الثقافية الإلكترونية التي تتحرك دون أسئلة موجهة، بقدر ما تراكم المواد دون جدل حقيقي داخل الثقافة والتاريخ.. لأن الأدب لايمكن أن يكتسي معناه وتموقعه إلا داخل سير زمني، وتبصيم إنساني دون انغلاق طبعا. ونعرف أن السرعة تقتل الأدب الأصيل، لذا ينبغي استحضار هذه المحاذير حتى لا يتحول الإبداع إلى رفس لغوي لا ظاهر له ولا باطن، لا وجه له ولاخلفية.

فهذه التقنيات الرقمية، جعلت الإيصال متعدد الوسائط والخصائص، فأصبحنا معها نتحدث عن واقع افتراضي وأدب رقمي.. وهو ما يدفع إلى توالد أسئلة عدة مرافقة، نصوغ منها: هل يحضر الإنترنيت، وضمن المجال الأدبي والثقافي كشاشة فقط للعرض والاستعراض أحيانا؟ أم كأداة من أدوات الإيصال الموسومة بالسرعة والفعالية؟. وكيف تعامل المبدع العربي اليوم مع هذه التقنية؟ وماهي مساحة الأدب ـ بمعنى الأدب ـ ضمن هذه النافذة؟ إن الثورة المعلوماتية على انتشارها الواسع في العالم، نعرف أنها تنمو عربيا في بيئة غريبة لكن أحيانا بشكل مشوه، كأن هناك قطيعة بين ماهو ورقي ورقمي. وامتد ذلك إلى الأدباء أنفسهم، إذ ليس هناك إقبالا كليا على هذه الأدوات التواصلية والتي ليست غاية في حد ذاتها. لكننا نرى البعض يشهرها كبدائل لآليات التواصل التقليدي والورقي.

3 ـ على سبيل الختم:
في تقديري، فالأدب في جوهره أدب، وحتى الأشياء التي تنضاف إليه (إلكترونيا) فهي من صميم تربته: من صورة وحركة ومشاهد. ولعل الهدف هو إيصال العمل الأدبي لتلق حواري وفعال. وبالتالي، تبادل التجارب والخبرات، لخلق ذاك الجدل المفتقد داخل الثقافة العربية، في انفتاح تجاذبي مع الثقافات الإنسانية. ومن جهة أخرى، فالإنترنيت فتح باب التخزين على مصراعيه، للعرض والتوثيق والاستثمار... الآن يمكن تحميل موسوعات وكتب هناك وعلى افتراض. ومن شأن هذا، أن يحفز على ضبط معالم ذاكرتنا الجمعية المعطوبة على أكثر من صعيد. الشيء الذي يدل، أن الإنترنيت في مجال الإبداع والثقافة ينبغي توظيفه تبعا لرغبات وحاجيات جماعية، تجيب عن أسئلة المرحلة المعقدة المسالك دون الذوبان في النمط والنموذج الساري، أو تكريس لقطيعة غير مبررة بين الورقي والرقمي. من هذا المنطلق، قد يساهم الإنترنيت في تداول الأدب على مستوى أوسع وإخراجه من نطاق المحلية، وقد يؤدي ذلك إلى جدل خلاق بين الورقي والرقمي لكي يغدو كلاهما امتدادا للآخر. ولا يمكن أن يسود ذلك إلا ضمن مناخ عقلاني وحداثي ليس في الأذهان والتمثلات فقط، بل على الأرض. 

شاعر وكاتب من المغرب