تأمُّلاتٌ في الفنِّ والتَّجديد

أمارجي

(I)

يقترب الفنُّ من المعجزة كلَّما ابتعدَ عن الإضافة إلى التَّعادُل. وبالطَّبع، لستُ أعني بالتَّعادُل التوسط الهندسي بين البسيط والمعقَّد، لأنَّ البسيط يمكن له أن يوجدَ متعادلاً في ذاته، تماماً كما يمكن للمعقَّد أن يوجد، هوَ كذلك، متعادلاً في ذاته، مثلما يمكن أيضاً للاثنين أن ينوجدا زائدَين، كلٌّ على ذاته، أو ناقصَين، كلٌّ عن ذاته. ثمَّة جدليَّةٌ على وشك أن تنبثق عن هذا، هي ليست ملغزةً حتى وإن لاحت كذلك. إنَّها جدليَّة الوعي/ اللاوعي التي لن تلبث أن تنبعث كإجابةٍ عن سؤالٍ من جنس: أيُّ جانبٍ من جوانب النَّفس هو المسؤول عن تعادُل هذا التموضع الانعكاسي ـ الذاتي للفنِّ في نفسِه؟ ظنِّي أنَّه، في أيِّ فنٍّ، لا أصالة ما لم يكن الأنا النَّفسي في خدمة الأنا المتعالي، لكن، قد يمكن لإجابتنا الملغزة ـ اللاملغزة أن تأتي مُصاغةً على النمط التالي: لا يكون فنٌّ ما عظيماً ما لم يكن فنَّاً يعي ذاته، ولا يعي فنٌّ ما ذاتَه ما لم يكن متحقِّقاً خارج الوعي. هذه إجابةٌ من شأنها أن تنسف، جملةً وتفصيلاً، إمكانية إنشاء فنٍّ بعيدٍ عن الإضافة إلى التعادُل ما دام قد تمَّ، سلفاً، إقصاء الوعي عن فعل الإبداع. ففنٌّ ما بعيدٌ عن الإضافة إلى التعادل هو شيءٌ لا يمكن إنشاؤه أو إقامته لأنَّه، بكلِّ بساطة، شيءٌ يُنشئُ ذاتَه بذاته، هكذا كاشفاً عن نفسه بنفسه "حجاب الوجود" على لغة هيدغر. ولكن، هل حقاً أنَّ الفنَّ والوعي حلقتان لا تتداخلان أبداً؟ إنَّ في هذا تغييبٌ لمسألة الصُّنعة التي تعمل، في أكثرها، في مستوى الوعي. لقد انجرفَ المفكرون الفوضويون، من أمثال برودون وفاغنر وكروبوتكين، كثيراً في تمجيدهم لمسألة الوحدة بين الصناعة والفن، وذلك بسطوة الفكر البرجوازي آنذاك، حين رأوا أنَّه يمكن لكلِّ امرئٍ أن يغدو فناناً من منظور أنَّ الفنَّ هو نتيجة إتقان الصُّنعة في النهاية. ولا يخفى على أحدٍ كيفَ تنتزع هذه الآراء الفنَّ عن فعلِ النفثِ الرُّوحي وتنأى بهِ عن الذاتي والمتعالي إلى العام والسُّفلي، عن منطقة الخلق بإلوهيتها إلى منطقة الحرفة بآدميَّتها. وإذ إنِّي لست في وارد الإنكار التام للصُّنعة، إلَّا أنَّ رؤيتي يمكن أن تتعيَّن بالقول: أنَّ الفنَّ الاستثنائي غالباً ما يجيء بصنعته معه، ونادراً، ربَّما إلى حدِّ الإطفرار، ما تجيء الصُّنعة بفنٍّ استثنائي. المطلوب من الصُّنعة في الفن هو أن تكون عفويَّةً ومتغايمةً مع صميم العمل، لا أن تكون متحصِّلةً من الخارج. أوَلَيسَ أكثر إقناعاً، إذن، الخلوص إلى أنَّ الفنَّ هو نتيجة التسليم الواعي للوعي إلى اللاوعي، ما قد يحدِّد أكثر أفق حركيَّة الصُّنعة بالتناغي مع السحر المنبثِّ من الفجوات المتشابكة للاوعي؟

حريٌّ بنا الآن، وقد أثرنا ما أثرناه بدءاً، أن نطلق حكمنا الأوَّل بأنَّه يمكن لهذا التحديد المبدئي لمفهوم الفن/ المعجزة، أي الفنِّ الحاملِ سمة الخلود من جهة أنه متعادلٌ وكلِّي، وهو ما سوف ينسحب على كلامنا في كلِّ مرَّةٍ نتحدَّث فيها على الفنِّ ما لم نلحقه بصفةٍ مغايرة، أقول يمكن لهذا التحديد أن يصلح معياراً للحكم على جميع الأعمال الفنية في تاريخ البشرية ومفارزتها ما بين عميقٍ وسطحي، وبناءً عليه يمكن تفسير حقيقة أنَّ أعمالاً معيَّنة عمرها مئات أو آلاف السنين لا زالت تُقرأ في زمننا هذا كأعمالٍ معاصرة، مثل قصيدة بارمنيدس، من زمن ما قبل سقراط، التي ترقى، إلى جانب شعريَّتها، إلى مستوى عمل أي فيلسوف عظيم معاصر، ناهيك عن أنها لا تزال تمثِّل مادَّةً مثيرةً لأقلام التأويليين والهرمينوطيقيين حتى أنَّ كتاباً مثل "بداية الفلسفة" لهانز جورج غادامير يتمحور بمجمله حول هذا النَّص. على الجانب الآخر من ذلك، يفسِّر تحديدنا المبدئي السابق كيف أنَّ أعمالاً تدَّعي المعاصرة، ما قد يكون صحيحاً بالنسبة إلى الزمنية، تفضحُ إلى أيِّ درجةٍ نحن مصابون، إبداعياً، بالعنانة، أو بكلمةٍ أكثر تلطيفاً "بالطَّفالة" كما يعبِّر عنها فيتولد غومبروفتشز في مقدِّمة روايته "بورنوغرافيا".

(II)

للفنِّ، إذن، قوانين تكوينه الخاصَّة التي يشكِّل، على أساسها، وجودَه الخاصّ. إنَّه يتجاوزُ مفهومنا للثنائيات من شاكلة: ظلام/ نور، خير/ شر، جمال/ قبح، لأنَّه في الحقيقة جوهر وحدتها جميعاً والمسوِّي بينها، هو صرختها الزَّواجيَّة فوق أرض الجزئيات. قد يحبُّ البعض القول بأنَّه انتقامُ وجودنا الأسمى والمفقود من وجودنا الأرضي واليومي. ولكن أليس هوَ، عند التحقيق، انتصار الأوَّل للثاني؟ والدَّليل أننا ما كنَّا لنواصل وجودَنا الأرضي لولا وجودِ الفنِّ، مرآةِ وجودنا الأسمى. ويا لها من مفارقةٍ مؤرقة، هذا التقويضُ في الإنشاء، والعقوق في الطَّاعة، أنَّه رغمَ كونه حصيلةُ ما يبتدعه فكر الإنسان، بما يعيِّنه من نسبٍ في الزَّمان والمكان، إلَّا أنَّ الفنَّ لا يلبث أن يتفلَّت من النسبة والتناسب البشريَّين لحظةَ ولادته. فالوهج الواحد الذي ينطلق من داخل الفنَّان ليصيبَ ما هو بين يديه قيد الخلق، يتفتَّت فينا ظلالاً لكواكب لا تحصى حالما يعلن هذا المخلوق وجودَه الخاصّ، المستقل، والمكتفي. الفنُّ هو، في ذاته، المحالفةُ والمخالفةُ في آن، التعدُّدُ في المفرد، الاحتمالُ في الجزم، والنقيض في المرادِف، لذلك فهو مطمئنٌ إلى ذاته، وهذا هو مصدر استفزازنا، أنَّه يُشهد الإنسانَ حقيقةَ أنَّهُ زائد.

(III)

سوف تظلُّ قراءة التاريخ للفنِّ خاطئة، إذ لا يمكن للنِّظام أن يقرأ الفوضى، ولا للثبات أن يقبضَ على الحركة. إنَّ ثمَّة زمنٌ آخر خارج دائرة الزَّمن، هو محبول اللايقين المُلقحِ للفن، والفنُّ ليس إلَّا تلك الثمرة التي لا تؤتي أُكلَها إلا في تربة الإنتروبيا (=العشوائية). من هنا لطالما كان الفنُّ، كرونولوجياً، يتبع تمأرُخَه الخاص والمستقل الذي يسخر من التدوين التصاعدي المعهود للتاريخ تحتَ ما يمليه صقيع المتحجِّرات على القلم. فالفنُّ خلقٌ، والخلقُ شغفٌ، والشَّغفُ لا يألف القواعدَ طبعاً. الفنُّ، والحال هذه، لا يسير وفق طيفٍ زمنيٍّ مرتَّب بقدر ما هو يثور على هذا التنظيم متقدِّماً منكفئاً، صاعداً هابطاً، مسويَّاً مشذِّذاً، مستديراً منثلثاً، ذاهباً لينفطمَ عن نفسِه، آيباً ليُحتَضَنَ في نفسه. بكلمةٍ أخرى، الفنُّ هو استهزاء الفوضى بقابليتنا على التنبُّؤ. ربَّما لأجل هذا لايستكين البشر المطمئنِّين، بطبعهم، إلى الأنساق التراتبية، والمنرعبين من الفراغات التي بلا بنىً، إن هم لم يقحموا الفنَّ في مخطَّطاتهم الرَّاسخة، كأقلِّه أن يعتقدوا بأنَّهم فعلوا. لعلَّ هذا هو ما ألمحَ إليه نيتشه عندما قال: "لو كانت لدينا الشجاعة لبنينا مدننا مثل المتاهات".

لقد فشلت البنيوية من حيث نزعتها الاختزالية التي أنهكتْ النَّصَّ "بمعادلاتها الرياضية وحساباتها الجبرية" على هوى التهكُّم التقليدي بالبنيويين حسب نايمي شور. على سبيل المثال، كان أستاذ الفلسفة العامة في السوربون إتيين سوريو (1892ـ 1979) يعمد، في تناوله للموسيقى، إلى حساب الزمان على محور الفواصل وتواتر النغمات على محور الترتيبات ولوغاريتم هذا التواتر. أمَّا النزعة الطبيعية التي طغت إثر التقدم الذي أحرزته العلوم الطبيعية بمنهجها التجريبي، لم تلبث أن تكشَّفت عن تأزُّم العلوم الإنسانية في بدايات القرن العشرين كنتيجةٍ، بطبيعة الحال، لتطبيق هكذا منهج في دراسة الظواهر الإنسانية. لنذهب أبعد من ذلك ولنفكِّر في اللغة عند أوَّل انوجادٍ لها، أليست اللغة، في بعض وجوهها، عملية تجزيء؟ ألم يكن الخوف من مواجهة الكون بكلِّيَّانيَّته ووحدته وفوضاه هو الدَّافع الأوَّل للإنسان لجعل هذا الكون في صُفَيفاتٍ وأخذِه في أجناسٍ ورُتَب عبرَ إعطاءِ كلِّ شيءٍ دلالةً صوتيَّةً مختلفة؟ مع هذا بقي الفنُّ الصَّدى الذي يأتي من غرفِ عقولنا الخلفيَّة الأكثر إيحاشاً وظلمةً ليهزَّ غشاءات الطمأنينة ويهتكَ أسرارنا. كانَ هو الجانب الوحيد في تكويننا الذي ظلَّ حرَّاً، وهَّاجاً، فالتاً من الاعتياد. هل هما مضدودان إذن؟ هل الفنُّ والتَّاريخ يزيح واحدهما الآخر؟ الأوَّل بمداورته الثعلبية حيال القياس البشري، والثاني بانقياده الدَّاجن له؟ الأوَّل بإنكاره البنية، والثاني باعتباره إعادة بناءٍ وترتيبٍ مستمرَّين؟ أم أنَّ الأمر هو كما يراه الفيلسوف الإيطالي بِنِدِتّو كروتشِه (1866 ـ 1952) بأنَّ تاريخ الفنَّ لا يمكن عزله عن تاريخ الحضارة الإنسانية حتى ولو كان يتبع، في هذا التاريخ العام، قانونه الخاص؟!

يقول لنا الفنُّ أنَّ ما ننسى هو الذي يشكِّلُ وجودنا، لا ما نتذكَّر، ويقول لنا التَّاريخ العام العكسَ. يكتبُ ذاكَ الحياةَ التي لم نعشها، في ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ونهربُ إليها، فيما يكتبُ هذا الحياةَ التي عشناها، فقط في ماضينا، ونهربُ منها. ذاكَ إغناءٌ للعالم، وهذا إفقارٌ له. إنَّ ما يجذبنا إلى الموسيقى في آخر المطاف هو ما لا يقوله جانبها الدايونيسي (العاطفي) لنا حين تُسمَع، لا ما يقوله جانبها الأولي (الذهني) حين تُقرأ نوتاتها. والرَّاقصُ العاديُّ لا يكون عاديَّاً لأنَّه يفتقر إلى التقنية، بل على العكس لأنَّه تقنيٌّ أكثر مما ينبغي فهو يبني خطواته في ذهنه قبل أن يخطوها لتأتي بعد ذلك مقلِّدةً مخلَّعةَ الرُّوح، أمَّا بالنسبة إلى الرَّاقص الحقيقي، الذي يوحِّد وجدانه بالحدس المحض، فحتى السقوط هو جزءٌ من العمل. أعود إلى "هل" السابقة، ويطيب لي أن أجيب عنها بالقول: إنَّ الفنَّ أكثر شمولاً من التاريخ، ذاك أنَّه أكثر شمولاً من البنية.

(IV)

لَتبدو سرَّاً حاجة الإنسان إلى الفنِّ. فَكَمِثل الماء والخبز والجنس، يجعل الإصغاءُ إلى موسيقى لبيتهوفن، أو قراءة قصيدةٍ لريلكه، أو النَّظر إلى لوحةٍ لوخ، أو التَّطلُّق الجسدي بالرَّقص ـ حياتَنا ممكنة، مع أنَّه بعكسها، لا يقودنا الامتناع عن ذلك إلى الهلاك. كيف نفسِّر هذه الحاجة، إذن، إلى شيءٍ يجعلنا حضوره في حاجةٍ إليه، بينما يجعلنا غيابه في غفلةٍ عن تلك الحاجة؟ إذا صحَّ لي، للإجابة عن ذلك، أن أستلهم من مقولة كندل والتون في مسألة الحزن الموسيقي، فسوف أقول: عندما نشعر بأننا نحيا بواسطة الفنِّ، فنحن لا نحيا في واقع الحال، بل نتذكَّر بأننا نحيا. وإذا نحن سلَّمنا بأنَّ نسيان الحياة يتساوى مع فقدانها، لن يكون صعباً أن نخلُصَ إلى أنَّ ما يذكِّرنا بالحياة يتساوى مع ما يُبقيها، أي أنَّ الفنَّ مكافئٌ للماء والخبز والجنس، حتَّى وإن كان، في أصله، قائماً على الوهم.

(V)

بين إيروس وثناتوس يتوتَّر قوسُ الفنِّ كلِّّه. وبحيازته قُطبَي وجودنا الشَّامل هذين، غريزةِ الحبِّ وغريزةِ الموت، بما هما حاضنان له من سائر الوجوه الأنطولوجية، يقدِّم الفنُّ نفسَه ككونٍ نظيرٍ، كونٍ كُلِّيٍّ أحدٍ طليقٍ لا مُجَزَّأ، تلقاءَ الكون الماثلِ، هذا المنضبط، المقطَّع، والمتضائل. في الأوَّل، تسري التَّوحيديَّةُ في التَّعدُّد (التعدُّديَّةُ لُحمةُ التَّوحُّد)، وفي الآخر تسري التَّعدُّديَّة في التَّوحُّد (التَّوحيديَّةُ فُلقَةُ التَّعدُّد). على هذا أن يُلمِعَ، حسب نزعاتي، إلى أنَّ لجوءَنا إلى الفنِّ هو في حقيقته لجوءٌ إلى الوحدة وليس إلى الجمال كما يُشاع. وقد يمكن تفسير ذلك من زاويتين: أوَّلاً، أنَّه يمكننا العثور على الجمال في الطبيعة من جهة أنَّها قد خضعت مُسبقاً لعزل الجميل كمقابلٍ للقبيح، لكنَّ مثلَ هذا التمييز لا يُلبثه الفنُّ أن يذوبَ في وحدته وكلِّيَّانيَّته حيث تنعدم فكرة الثنائيَّات، ففي الوحدة لا جميل ولا قبيح كما تعيِّنهما مفاهيمنا، بل إنَّ في بعض الشَّوه المتَّحد في ذاته جمالٌ والتماعٌ أكثر ممَّا في بعض الكمال المنفصل. إنَّ القبحَ الجوهريَّ المتوحدن في روح الفنِّ الحقيقي يتكافأ تماماً مع الجمال الجوهري، كلاهما يخلقان شعوراً بالجمال، بينما يكون الفنُّ مزيَّفاً عندما يكون القبح أو الجمال فيه ظاهريَّين منفصلَين عن روحه، والاثنان يخلقان شعوراً بالقُبح. القُبحُ، في الفنِّ، مُعَدِّلٌ. من الزاوية الثانية، الفنُّ هو اعترافنا المبطون بندمنا على الانفصال وتلهُّفِنا على الاتِّحاد بعدَ أنْ لم تقدنا نزعتنا إلى التقسيم سوى إلى الصِّراع على الحدود، وليس للفنِّ حدود.

إنَّ الفنَّ المتعادل هو كلِّيٌّ بمعنيين: ذاتي وكوني. فالمقصود بالكلِّيَّة الذاتية هو أنَّ الفنَّ يؤلِّفُ اتِّحاداً جوهريَّاً بذاته بين الشكل والمضمون اللذَين يموِّه واحدهما الآخر إلى درجةٍ يستحيل معها فصلُ مادَّة الإبداع عن الروح المبثوثة فيها من روح المبدع، أنا لا يمكنني أن أقف أمامَ تمثال النبي داؤود لمايكل أنجلو ولا أصدِّق أنَّني أمام النَّبي داؤود. هكذا، يكون على المبنى في العمل الفنِّي أن يُعمِّي المعنى الذي يكون عليه، هو الآخر بالمقابل، أن يعمِّي المبنى. أمَّا ما أقصده بالمعنى الكونيِّ للكلِّيَّة فهو أنَّ الفنَّ يعيد إنتاج وحدة الوجود التي أسيء لها كثيراً. ما نفعله في الفنِّ هو أنَّنا نعيد تشكيل الظِّلال المتماحية لوجودنا الحائل. وراء ذلك، إذا نحن مَوضَعنا الفنَّ في دائرته الأشمل: الخلق، لوجدنا سعيَه المحموم إلى تمثلن وحدة الوجود أمراً جد طبيعي. فمثلما أنَّه لا بدَّ للكمال الوجودي أن يتحقَّقَ في صنيع الله ليكون البرهانَ على الكمال الإلهي، وحيث أنَّ الإنسان معدولٌ على مثال الله ويمثِّل أصلَ هذا الوجود ورأسَ هذا الكمال، كان لا بدَّ لما يصدر عن مثال الحقّ أن يكون مثالاً لما يصدر عن الحقّ، أي أنَّ الفنَّ الذي هو أكرم أشكال فعل الخلق الإنساني يسعى حتماً إلى تحقيق الكمال الوجودي كمثالٍ على كماله وكمالِ الخالق من خلفه. وبطبيعة الحال، وحدة الوجود هي عين الكمال الوجودي، بمعنى أنَّ كمالَ أيِّ شيءٍ يكمن في وحدته، وكما ألمحتُ فإنَّ هذه الكلِّيَّة الكونيَّة للفنِّ، هذه الوحدة التي تجاهد لإعادة تشكيل وحدة الوجود بمفصولاته وموصولاته، ينبغي ألَّا تُفهَم على أنَّها نقيض النَّقص، بل على أنَّها الحِواء لجميع الصِّفات بما فيها هذا، ذلك أنَّ "النَّقص من كمال الوجود... لو لم يكن في الوجود نقص لزال عن رتبة الكمال" على قول ابن عربي.

(VI)

الجليُّ والمُبهَم، المُعرَّى والمستتِر، تمامُ الحيِّ وتمامُ الميِّت، العَمَهُ الملبوس بالسُّكتة، والسَّكْتُ المحجوب بالعَمَه، المتحرِّكُ في الثَّبات والثَّابتُ في الحركة، الذي وجوده إيماءٌ إلى ما يعدمه، وعدمُهُ إيماضٌ إلى ما يوجده، المُحَوَّطُ ولا في زمان، والمتفاسِح ولا في حيِّز، المحظور بمشيئته والممنوح بمشيئته، الآخذ الضَّرورة مأخَذَ الجواز، والجاعلُ الجوازَ مَجعَلَ الضَّرورة، الظَّنُّ واليقينُ في أقنومٍ واحد، الجسمُ الذَّكَرُ والجسمُ الأنثى باتِّحاد، الفوضويُّ والمتَّسِق، الذي معقولُه يقلِّد موهومَه، ويتقمَّصُ موهومُهُ معقولَه، الذي اختلاطُه يجوهر صفاءَه، الحاملُ صوتَ الشَّيطان محمولاً في حنجرة الله، رهبوتُ محبَّةٍ ورحموتُ بُغض.

(VII)

أخيراً، وأنا أتَّجه إلى قطعِ ما تقدَّم من أفكارٍ عن الفنِّ مع موضوعة التَّجديد، أستطيع أن أتخيَّل ما قد تكون نُقِدَتْ بهِ هذه الأفكار من أنَّها مُغرِقةٌ في الشِّعريَّة، كإضمارٍ، ربَّما، لوسمها باللاموضوعيَّة، ولكن من يستطيع أن يقول ما هو الموضوعي وما هو الشِّعري في الفنّ؟ أو ما هو اليقيني وما هو الأخيولي؟ ظنِّي لا أحد. لنحاول الآن تلمُّس أيِّ تشاكلٍ من الممكن أن ينشأ بين الرؤى السَّابقة، إذا ما أمكن إجمالها في ثلاثة محاور عريضة، وبين التجديد. تبرِّئ الرؤيا الأولى، كما يمكن أن نستشف، الفنَّ من مفهوم المعاصرة، حيث ليس كلُّ فنٍّ معاصرٍ معاصراً كما ليس كلُّ فنٍّ قديمٍ غيرَ معاصرٍ، وهذا يوافق تماماً ما أسماه أدونيس بوهم الزَّمنيَّة في مقالته "بيان الحداثة"، فإذا اتفقنا، بعد ذلك، على أنَّ التَّجديد يعني، في بُعده الأوَّل، عصرنةَ الشيء، ثمَّ أقمنا علاقة تعدٍّ بسيطة، لخلصنا إلى عدم وجود أيِّ تقاطعٍ بين الفنِّ والتَّجديد على مستوى هذا البُعد. من جهةٍ أخرى، برَّأت الرؤيا الثانية الفنَّ من مفهومَي البُنية والتَّاريخ، وهذان المفهومان يتواشجان بقوَّة مع مفهوم التَّجديد الذي يعني، في بُعدِه الثَّاني، إعادة تنظيم القديم وتركيبه بما يتناسب مع النَّظرة الجديدة إلى الأشياء، وبهذا المعنى يعني التَّجديد التصاقاً دائماً بالتاريخ، واشتغالاً في بنى الموروث الظَّاهرة والممحوَّة دون الإتيان بجديدٍ يُذكَر، ما يجعل مفهوم التَّجديد لا يحيلنا في هذه الحالة سوى إلى مفهوم التَّرميم، ولمَّا كان شرط الفنِّ هو الإبداع، ولمَّا كان الإبداع يعني طبعاً الخلق والإتيان بما ليس موجوداً، يمكن أن نخلص، هنا أيضاً، إلى استحالة قطع الفنِّ مع التَّجديد على مستوى هذا البُعد.

أمَّا الرؤيا الثَّالثة التي تطرح كلَّانيَّة الفنِّ على أنَّها تمام الشمول للصِّفات، بمعنى غياب هذه الصِّفات في وحدة الوجود التي تتمرأى الفنَّ أصلاً، فهي تؤدِّي بنا إلى نفس الطَّريق السَّابقة، أنَّ الفنَّ والتَّجديد لا يفضي أحدهما إلى الآخر، سوى اللهمَّ من باب الأغلوطة باختزال مفهوم الإبداع غير المحدود إلى مفهوم التَّجديد الضَّيِّق، فالتَّجديد هو إثباتٌ للتَّقادُم، أمَّا الفنُّ فنفيٌ للاثنين. الأوَّل اقتطافٌ من السَّابق، الماأمام، والماقَبل، والثاني انخطافٌ نحو اللاحق، الماوراء، والمابَعد. والآن، لنسأل أنفسنا عن موقع النَّقد بإزاء ما قيل. من الواضح أنَّ نقد الفنِّ لطالما سار خلف الفنِّ بخطواتٍ يختلف عددها تبعاً لمدى المقاربة التي يتبنَّاها النَّقد من الإبداع، إلَّا أنَّ المسلَّم بهِ حتماً هو أنَّه لم يكن يوماً بجانب الفنِّ أو أمامه. مشكلة نقد الفنِّ، كما أراها، هو أنَّه لم يرقَ أبداً إلى مستوى الإبداع الذي هو شرط الفنِّ، ففي حين يعكفُ الفنُّ على تأمُّلِ عمقهِ الخاص، يكتفي النَّقد بالتَّحديق هناك، في عمق الفنِّ، دون اكتراثٍ بعمقِه الخاصّ.

لقد كان بوسع التأويلية، لو أنَّها كانت أكثر جرأةً في استخدام حرِّيَّتها، أن تكون مشروعاً فنيَّاً إبداعيَّاً بحقّ بدلَ الاكتفاء بالعمل على توضيح المعنى أو، في أحسن وجه، على تفكيك وإعادة تركيب النَّص/ الفن وفقاً لمعانٍ جاهزة وأحكامٍ مُسبقة. على ضوء ما تقدَّم، ما هو مصير الفنِّ ونقدِه، خصوصاً في قلب هذا الجنون التكنولوجي وانسلاب الإنسان بطوطم الآلة؟ في رأيي أنَّ للفنِّ مصيره المستقل عن كلِّ هذا، فالتقنية تتيح الانتشار السَّريع واللامحدود للكلمة وللموسيقى وسائر صور الفنِّ، لكنَّها لا تخلق فنَّاً ولا تخلق الشعورَ بالفنِّ، بل هي لم تفعل، في أحسن الأحوال، أكثر من أنَّها صنعت ثقافةً ثانويَّةً تعكس، في طبيعة الحال، الرُّوح القبيحة لعصرنا. أمَّا النَّقد، فالمطلوب منه هو أن يكون فنَّ نقدٍ قبل أن يكون نقدَ فنٍّ، وإذا كان لي أن أنادي بحركةٍ نقديَّةٍ جديدة، فسوف أسمِّيها "الإيروتيكية"، بمعنى أن يقلِّدَ النَّقدُ الفنَّ في استباحته لجميع الحدود واغتصابه لجميع الأعماق، وقبل كلِّ شيءٍ عمق نفسِه. 

شاعر سوري مقيم في إيطاليا