يتناول الناقد المغربي هنا ظاهرة الطفرة الروائية السعودية باعتبارها من التجليات المهمة للكتابة الجديدة وأسئلتها، من خلال حفره الجاد في تواريخها، وملابساتها معا، ويقدم من خلال هذا الحفر رؤيته المميزة للظاهرة ومسحه النقدي لمساراتها في آن

من الكتابة إلى المواجهة

في ظاهرة الخطاب الروائي الجديد بالسعودية

يحيى بن الوليد

أجل لقد تجمّعت في عروق عبد الرحمان منيف دماء أكثر من قطر عربي، مما جعله، وكما قيل عنه، عصيا على أي ضرب من التصنيف والتطبيق... لكنه رغم ذلك ظل، وإلى فترة قريبة، وبدءا من منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وداخل الرواية العربية المعاصرة بعامة، الروائي الأبرز والأشهر على مستوى رصد مجمل "التحولات" التي لازمت المجتمع الخليجي، وضمنه السعودي. تلك التحولات التي أفضت إلى ما أسماه عبد الرحمان منيف نفسه، وأخذا بعنوان خماسيته الصحراوية الملحمية، بـ "مدن الملح" التي تشكلت حول آبار النفط واضعة بذلك حدا فاصلا بين ما "قبل عصر النفط" و "عصر النفط". وكل ذلك في المنظور الذي أفضى إلى تحول "المجتمع الصحراوي" من "القبيلة" إلى "الدولة" التي لن تفارق، هنا، كما يتصور البعض، "المشيخة" أو "الإمارة". ومن ثم فإن هذه "النسخة" أو "الصيغة" من "الدولة" لا تمُّت، وفي نظر منيف نفسه، بصلة إلى "مفهوم الدولة" في "العصر الحديث"، إضافة إلى أن هذه النسخة عاجزة عن فتح الطريق نحو المستقبل، وتتناقض تماما مع أية محاولة لـ "التقدم". تلك هي "طفرة النفط" التي ستفضي، وعلاوة على "الارتهان، وبالكامل، للغرب"، أمريكا تعيينا، وبدءا من الحرب العالمية الثانية، إلى "متغيرات" أو بالأحرى "تحولات" مجتمعية عنيفة أبرزها تلك "الجدلية الاجتماعية الخليطة" التي ستفضي بدورها إلى ذلك التنافر الاجتماعي الطبقي الكاسح الذي سيكون قرين ثراء فاحش لدى طبقة مخملية محصورة في مقابل فقر صارخ وكاسح ومفتوح وإلى ذلك الحد الذي أفضى بروايتي منيف، "مدن الملح" و "أرض السواد"، إلى أن لا تتضمنا إشارات إلى "الطبقة الوسطى" كما يسجل صالح إبراهيم في كتابه "أزمة الحضارة العربية" الذي كرسه لـ "أدب عبد الرحمن منيف" (ص 25). "إن مجتمعنا السعودي أشبه بكوكتيل الطبقات الذي لا تختلط فيه أي طبقة بالأخرى إلا للضرورة وعند الخفق الاستثنائي" كما تقول رجاء الصانع في رواية "بنات الرياض" (ص 56).

تلك هي "آفة النفط" في "حضوره الكثيف" وفي "خارطة آباره" التي أفضت إلى "تدمير" الواحات والتلال والعيون... و "تشريد" البسطاء وإراقة الدماء... وبالتالي "تشكيل دول متفهمة" لـ "الغرب" و "مرتهنة" لـ "أسواقه"، مما جعل من "الخليج العربي" "محمية نفطية موثوقة" تتعهد بتأمين طلب المستهلكين، الأمريكيين، المتصاعد للنفط كما يشرح أيان رتليدج في كتابه "العطش إلى النفط". وكل ذلك أيضا في السياق الذي يفضي إلى "أهمية النفط العربي العالمية" وفي إطار من "عصر النفط" سالف الذكر الذي تحدث عنه الدكتور حافظ برجاس في كتابه "الصراع الدولي على النفط العربي". وتلك هي دلالات التلازم بين "النفط" و "السخط" موازاة مع إشاعة "إسلام النفط" وقيم "الاستهلاك" و "التسليع" و "التسطيح"... وكل ذلك في إطار، وقد يكون هذا هو الأخطر، من "الخواء" أو "اليباب الثقافي" الذي يسهم في تكريس "الفضاء المنعزل" و "العقل المعطَّل". ومن هذه الناحية كان منيف، وبحق، وكما قيل عنه، "مؤرخ واحات النخيل والحداثة الفاسدة".

وعلى الرغم من حضور عبد الرحمن منيف الدال، هنا، فقد ظل ينظر إليه من خارج السعودية التي تحدر منها والده. هذا بالإضافة إلى أن خطابه الروائي كانت تلوي به خلفية المفكر الذي سعى أو بالأحرى حرص على الارتباط، ومن خارج دوائر المطابقة أو المناقلة، بالواقع والتاريخ جنبا إلى جنب خلفية "المثقف" التي حرص من خلالها على الارتماء في قلب "الأسئلة اللاهبة" التي عصفت بالخليج. وفي هذا الصدد أمكننا فهم كتاباته الفكرية ومقالاته الصحفية، الموازية، التي تنطوي، بدورها، ومن خلال أبعادها النقدية، على مواقف جديرة بأن تفيد على مستوى إضاءة مشروعه الروائي التخييلي الكبير والمتفرد. ولعل هذه الخلفية ما جعله يركز على "الصحراء" بأكملها التي تحولت إلى "مدن": "مدن الملح" القابلة، وبسبب من "النفط" الذي كان في أساس تشكلها، لـ "الذوبان" وفي أي وقت من الأوقات. "الصحراء" أو "الخليج العربي" بأكمله لا السعودية بمفردها، و "الرياض" تحديدا كما في حال النص الروائي المضاد الذي هو مدار هذه الدراسة. ونظن أن صالح إبراهيم كان محقا حين عنون كتابه السالف بـ "أزمة الحضارة العربية" (2004) في دلالة على نوع من "الرؤية الفكرية" التي تتسرب في عالم منيف الروائي والتي تسعى إلى رصد مستويات هذه الأزمة ومظاهرها. وهو الكتاب، وللأمانة، الذي أفدنا منه، ومن ناحية موازية، في رصد التحول من "المجتمع الصحراوي" نحو ما يمكن نعته بـ "الدولة الهجينة". ولا نقصد، هنا، إلى "الهجنة التوليدية" (Hybridite Generique) (أو "الخصيبة" كما يترجمها البعض) التي تدافع عنها بعض أطروحات "خطاب ما بعد الاستعمار". ويظهر أن ثقل "الرؤية الفكرية" هو الذي جعل الكتاب في حجم يفوق، وبما يقرب من ثلاث مرات (365 صفحة)، الكتاب الذي خصه صالح إبراهيم نفسه لما أسماه "الفضاء ولغة السرد في روايات عبد الرحمن منيف" (175 صفحة) الذي كان قد أصدره قبل عام واحد من ظهور "أزمة الحضارة العربية".

وفي الحق فإننا لسنا بصدد الحديث عن عبد الرحمن منيف، وعلى أهمية هذا الأخير التي لا تنكر والتي تؤكدها العديد من الدراسات المستقلة التي كرّست لعالمه الروائي. ولذلك يمكن القول بأن الرواية السعودية، ودون أي نوع من استسهال الحديث عنها، سرعان ما ستتعزز بجيل لاحق لن تخلو تجاربه من اختلاف وسواء على مستوى ما كان عبد الرحمان منيف نفسه قد نعته بـ "الخروج إلى الموضوع" أو على مستوى الشكل الروائي الذي يستوعب هذا "الخروج" أو "التخارج"، هذا عدا الحديث عن "صور" أو "تمثلات المثقف" التي تتسرب في الأفق الذي يصل ما بين الموضوع وطرائق الصياغة. وإذا كان قدر منيف "المنفى"، وبغير معناه التسويقي المبتذل السائد الآن، أو "التشرد المتعالي" الذي تحدث عنه منظِّر "الواقعية العظيمة" جورج لوكاتش، فإن الجيل اللاحق، أو "الموجة الجديدة" اللاحقة على الجيل اللاحق، سيكتب من خارج هذا النوع من "الإكراه" الذي كان، وحتما، يسم الكتابة بسمات مخصوصة. وعلى هذا المستوى ثمة نوع من الكتابة عن "المكان المحلي" وفي "المكان المحلي" ولـ "المكان المحلي"، وكل ذلك في المدار نفسه الذي سيسعى إلى "الالتباس" بـ "المتحول" الحاصل وسواء على مستوى مشكلات المجتمع أو مستوى الشكل الروائي الذي يستوعب المشكلات نفسها. وليس من شك في أننا لا نقصد، هنا، إلى "المكان" كعنصر جزئي أو بعضي داخل النسيج النصي الروائي، وإنما نقصد إلى المكان في تداخله مع التاريخ والجغرافيا والثقافة الأنثروبولوجيا... إلخ. بكلام دال: نقصد، هنا، إلى "المكان" الذي يتحدد زمانيا ومكانيا وثقافيا بل وأرشيفيا كما يقول إدوارد سعيد في "الاستشراق".

وفيما يتعلق بالجيل اللاحق يمكن أن نشير إلى أسماء كثيرة كتركي الحمد وغازي القصيبي وعلي الدميني وعبده خال... ودون أن نتغافل عن حضور المرأة الكاتبة الروائية كرجاء عالم وليلى الجهني ونورة الغامدي... إلخ. وستعمل هذه الأسماء، وبتفاوت، على تكريس نمط روائي مغاير سيسعى إلى التأكيد على أهمية "الرواية الحديثة" على مستوى إشاعة "قيم التنوير" ودور هذه "القيم" على مستوى "مواجهة رمال الإظلام" إذا جازت عبارة جابر عصفور الجامعة. حتى وإن كان يأخذ على أغلب هؤلاء غلبة "البعد السيري الذاتي" على رواياتهم. وإذا كانت الرواية السعودية قد اتسمت، وعلى مدار فترة طويلة تمتد من أحد نصوصها المبكرة "التوأمان" (1930) لصاحبها عبد القدوس الأنصاري (1904 ـ 1983)، ودون الدخول في "سجال البدايات"، الموجود في جميع الآداب والثقافات، وحتى أوائل التسعينات، وسواء على مستوى التراكم أو النظرة، بكثير من "البطء" وبعدم القدرة على "الاختراق" أو "التأثير" في "التابوهات" التي تستحكم في السياق الأدبي والثقافي، فإنها في المرحلة التالية، وبسبب من حرب الخليج الثانية واقتحامات العولمة الكاسحة وطفرة الوعي الاجتماعي وتداعيات أحداث 11 سبتمبر، ستتقدم على مستوى محاولة التقاط "ذبذبة المرحلة". ودون التغافل، هنا، عن الصعوبة التي تلازم النوع الروائي ذاته، وبسبب من مستنداته التخييلية والنقدية والساخرة.. على مستوى "التشابك" مع مجتمع في حجم المجتمع السعودي "المنغلق" و "البطريركي". فالرواية، هنا، مدعوة، وبطرائقها الإبداعية المخصوصة، إلى "النبش" في طبقات "النقل" و "الضرورة" و "الإجماع" و "التعصب" و "التلقين". ويتضاعف مشكل هذه الطبقات، أكثر، حين تتنزل، وعبر إواليات ملموسة، إلى دائرة "الذهنية" التي تتمظهر كـ "نسق سلوكي يومي" ظاهر تارة ومضمر تارة أخرى... غير أنه يظل، وفي الحالين معا، ومن وجوه عديدة، "مفترسا".

وكِتابة روائية من هذا النوع تستلزم تصورا يسرّب "المواجهة الثقافية" (وبمعناها الأعمق) في "الموقف النصي" ذاته الذي يتسرّب بدوره في "الفضاء الدلالي" للشكل الروائي. وفي هذا السياق، وبسبب من "السند الثقافي" ذاته، يمكننا أن نشدد على تركي الحمد كعلامة مضيئة ـ ضمن علامات الجيل اللاحق ـ على طريق التحول، المؤثر، في مسار الرواية بالسعودية في تسعينيات القرن الماضي. تركي الحمد الذي جاء لـ "أرض الرواية" من خارج دوائرها التقليدية، جاء من "الأكاديميا" تعيينا، شأنه في ذلك شأن مجايليه. وقد كان تركي الحمد، قد نشر، وقبل ظهور ثلاثيته، وفي أثناء ظهورها وبعد ظهورها، كتبا تعرض، وبلغة مفتوحة لكنها لا تخلو من "حس أكاديمي"، جملة من الكتب التي تدرس مشكلات الثقافة العربية الحديثة بشكل مباشر مثل "الثقافة العربية أمام تحديات التغيير" (1993) و "الثقافة العربية في عصر العولمة" (1999)... أو بشكل غير مباشر مثل "دراسات إيديولوجية في الحالة العربية" (1992) و "عن الإنسان أتحدث: تأملات في الفعل الحضاري" (1997) و "يبقى التاريخ مفتوحا" (2002)... وغير هذه الكتب والمقالات العديدة التي ينشرها، من حين لآخر، ومنذ العام 1990، في جريدة "الشرق الأوسط".

ويلخص تركي الحمد، في مقال معنون بعنوان حدي "الثقافة أولا"، مدى أهمية "الثقافة" قائلا (ونستحضر نصه على طوله لأهميته ولعدم قابليته للتلخيص): "في عالمنا العربي والإسلامي، دائماً نطرح هذا السؤال، منذ نابليون وحتى بوش، ولا نمل من تكرار السؤال: لماذا تقدموا، ولماذا تخلفنا؟ والجواب حقيقة لا يكمن في تدخلات الاستعمار، ولا في إجهاض مشروعاتنا النهضوية الكبرى، من محمد علي وحتى جمال عبد الناصر، ولا في مفاهيم التربص والترصد والمؤامرة، بقدر ما يكمن في الموقف الثقافي من العالم من حولنا. مفاهيم التحدي والتقدم والمستقبل مفقودة في ثقافتنا بشكل عام، وإن وجدت، فإنها تكون ذات منطلق إيديولوجي وليس حضاريا، وفق رؤية هذا الطرف أو ذاك، وليست كموقف ثقافي عام من الطبيعة والتاريخ، وهنا تكمن المشكلة" إلى أن يختم جازما: "كل مشاكلنا، وكل عثراتنا نعزوها إلى هذا الطرف أو ذاك، أما الذات فإنها بريئة من الذنب. مشكلتنا ثقافية في المقام الأول، وما لم تنقد الثقافة، وتجلب عقدنا إلى ظاهر العقل، فإننا سنبقى نراوح في المكان، والخيار لنا أولاً وأخيراً: فإما أن نكون من المنافسين فنحيا، وإما أن نكون من القاعدين فنفنى" ("الشرق الأوسط"، الأحد: 17 ديسمبر 2006).

غير أن الدور العربي الذي يلحقه تركي الحمد، هنا، بالثقافة لا يستثني بلده منه، بل إن هذا الأخير يبدو مدعوا أكثر إلى الوعي بأهمية الثقافة على مستوى التصدي لجميع أشكال المصادرة المتحدرة مما ينعتهم بـ "طبقة حراس الثقافة وأوصياء الفكر" التي لا تنطلق من منطلقات ثقافية أو فكرية بحتة في وصايتها الفكرية فقط، وإنما من منطلقات اجتماعية أيضا. فخطورة هؤلاء، إذا، تكمن في تواجدهم على رأس "الهرم الاجتماعي"، ممل يخولهم فرصة "توجيه" الحقل الثقافي بل و "تشكيل العقل الاجتماعي" ذاته. ولذلك فإن مناقشة الثقافة التي تنبثق منها شرعيتهم الاجتماعية، وفي علائقها معقدة الأطراف مع المجتمع، هي، وفي نظر هؤلاء، مناقشة لمواقعهم الاجتماعية وقبل ذلك "مس" بمصالح الأمة وأمور الدين. ومن هنا منشأ "الممانعة" لأي فعل نقدي وإبداعي، بل و "محاربة" أي "نص" يسعى إلى النبش في "القوالب" و "التنميطات" التي تقف وراء "الإجماع السكوتي" المنشود. ويتضاعف المشكل أكثر حين تتماهى "الدولة" ذاتها، وفي أعلى تجلياتها، مع هذا النوع من "الرقابة" الذي يفرغ الثقافة، في مظاهرها المختلفة، من أدوارها التاريخية على مستوى "الإسهام" في "التحويل المجتمعي الملموس". وفي هذا السياق أمكننا فهم عنوان كتاب خلدون النقيب حول "الجذور التسلطية للدولة في المشرق العربي".

إن هذا التصور الثقافي هو الذي أفضى بتركي الحمد إلى أن يكون إحدى "العلامات" الدالة على عنوان "التحول" الذي مس الرواية بالسعودية، بل وجعلها ترقى إلى حال لا علاقة لها بالحال التي سبقتها وعلى مدار تلك الفترة الطويلة التي ظلت عنوانا على تكريس "الثوابت" التي تضمن الحفاظ على الوضع ذاته. ويتأكد "التحول" سالف الذكر، عند تركي الحمد، وأول ما يتأكد، وعلى صعيد الرواية، من خلال "المكان المحلي" الذي كنا قد أومأنا إليه من قبل. ومن هذه الناحية يمكن النظر إليه "بوصفه مبتدأ محليتها (أي الرواية السعودية) بمعنى أو آخر. إنه موقف الروائي الذي يتشارك خصائصه مع الروائيين في المملكة والدول العربية وفي العالم، لكنه يأخذ خصوصيته من انكبابه على زمكانية معينة، كانت إلى لحظته بكراً، فابتدرها بوجهة نظر روائية تكتسح الجدران الساترة، وتفتح مغاليق الحكاية الموصدة على المستتر الذي تزداد حكايته تفصيلاً وتنويعاً كلما ازداد استتاراً. وهي وجهة نظر يسردها راوٍ لم يعد له صلة بعمقه الخاص، لأنه لم يعد يستشعر له دوراً في هذا العالم (الروائي)، إنه عالم بلا كلية معطاة، وهي الصفة التي شرط بها لوكاتش العالم الذي تنتج منه الرواية" (صالح زياد: الرواية... وعي نقدي/ "الحياة"، 22/ 04/ 2008). ويتأكد المكان المحلي بدءا من عنوان عمله الروائي الأول "أطياف الأزقة المهجورة": "العدامة" (1996) و "الشميسي" (1997) و "الكراديب" (1998)، بل إن هذا العمل مثَّل، وكما يتصور البعض، "منعطفاً واضحاً واستهلالياً" في علاقة الرواية السعودية بالمكان المحلي. فـ "العدامة" حي مشهور في الدمام، و "الشميسي" حي مشهور في الرياض، و "الكراديب" تعني السجون. ذلك أن الرواية السعودية ظلت، وعلى مدار زمني طويل، تتحاشى ذكر هذا المكان أو بالأحرى أمكنة من هذا النوع. ونظرة سريعة إلى النتاج الروائي السعودي قبل تركي الحمد، كما يقول صالح زياد في مقال "المكان "المحلي" في الرواية السعودية" ("الحياة"، 25/ 3/ 2008)، تجعلنا نقف عند حجم الهروب من المكان المحلي، وذلك بالاتجاه إلى مكان في الخارج، كالقاهرة أو بيروت أو لندن...، تسافر إليه الشخصيات وتتخلق به الأحداث، كما في رواية حامد دمنهوري الرائدة "ثمن التضحية" (1959)، ومروراً بروايات سميرة خاشقجي ذات الصبغة الرومانسية من "ودّعت آمالي" (1958) إلى "مأتم الورد" (1973)، ورواية هند باغفار "البراءة المفقودة" (1972)، ورواية هدى الرشيد "غداً سيكون الخميس" (1977)، وانتهاءً بروايتي غازي القصيبي "شقة الحرية" (1994) و "العصفورية" (1996). هذا بالإضافة إلى نوع آخر من "المكان" المتمثل بـ "القرية" و "الصحراء" وبـ "المكان الأسطوري" و "المكان المغلق"... وهي "نمذجة" جديرة بالتأكيد على نوع من "الهروب" من المكان الواقعي المحلي.

وهذا الالتباس بالمكان، وفي المنظور الذي لا يفارق محاذاة "الألغام" المتمثلة بـ الدين" و "الجنس" و "السياسة"، أي "الثالوث المحرم" بلغة السبعينيات الساخنة، هو الذي جعل الرواية تغطي على ما كتبه تركي الحمد وبالقدر نفسه جعل صاحبها عرضة لجدل مثير داخل السعودية. ومن ثم ينبغي وضعه "في الميزان" طالما أنه "ليبرالي حقير" أو "مشبوه" ينبغي "الكشف عن "شبهاته"، وأنه "مخالف" أو "علماني" ينبغي "الرد" عليه، وأنه "دخيل" ـ أو "غازي من الداخل" ـ لا بد من "التصدي" له... وغير ذلك من "العناوين الحدية"، أو بالأحرى "التكفيرية"، التي أفضت، وفي "المنظور القرائي العدائي"، إلى "تكفير" الكاتب وإهدار دمه. و "التهمة"، هنا، هي "الرواية" ذاتها التي "تساءَل"، أو "استغرب"، واحد من "المتصدين" لتركي الحمد، قائلا: "ونحنُ نتساءل هنا ـ تبعاً للأستاذ : أنور الجندي رحمه الله ـ لماذا يُطلبُ من الرّواية أن تصوّرَ فساد المجتمعِ، وتعيد مواقفه الخاطئة، بصورة أشد جمالا وتألقا، مع أن المجتمع يرفض ذلك وينكره، ويدعو إلى التخلصِ منه؟ ولماذا تحوّل القصة الحالة الفردية إلى ظاهرة عامة، وتدخل فيها أهواءَ الكتّاب، ورغباتهم في تدمير المجتمعات، أو تحقيقِ شهوات خاصة؟!". ولا داعي للتذكير، هنا، بشخصية أنوار الجندي (1914 ـ 2002) المعروفة بمواقفها التي ستمهد لما سيعرف بـ "نظرية الأدب الإسلامي" التي ستتسع دائرة "استعمالها" بدءا من التسعينيات الصاعدة، وكل ذلك في المدار الكاشف عن "التمركز العقائدي".

وعلى الرغم من هذا "الهامش الجديد المتاح" فإن الرواية السعودية، وباستثناء نصوص معدودة جدا، لم تتمكن من خلخلة التابوهات الاجتماعية. بكلام آخر: لم يحصل ذلك النوع من الارتماء في تلك "البركة الآسنة" التي هي "مرآة" عاكسة للمرحلة، ولم يتم خدش ما يصطلح عليه النقد الثقافي ومع الناقد السعودي الحداثي محمد عبد الله الغذامي بـ "الأنساق الثقافية" التي تلوي بالأبنية الاجتماعية المحافظة. فتاريخ النسق، هنا، الذي هو بدوره نسق، ثقيل ومتكلس وفولاذي. والمؤكد أنه لم تكن "بنات الرياض" (2005) البداية الوحيدة، فالرواية السعودية موجودة بوضوح قبلها، والضجة المحلية مستمرة منذ أعمال "الجيل اللاحق" كتركي الحمد وغازي القصيبي... إلخ. غير أن الرجة سيكون مصدرها روائيون شباب غير مكرسين في الرواية بل ومن أصحاب التجارب الأولى. فلن يتعرض الإجماع سالف الذكر، أو "الخطوط الحمراء" بلغة الإعلام، لتلك الخلخلة أو الزلزلة إلا في نطاق ما سيصطلح عليه، في بعض دوائر النقد، بـ "الرواية السعودية الجديدة" التي سيكون وراءها جيل جديد مغاير ومتمرد سيكشف عن ملامحه منذ مفتتح الألفية الثالثة. جيل لن يتخرج في معطف تركي الحمد وغازي القصيبي ولا عبده خال ورجاء عالم... بل سيتخرج ـ وكما قيل ـ في معطف الروائية الشابة رجاء الصانع صاحبة "بنات الرياض" الرواية الأكثر انتشارا في السعودية وفي العالم العربي. الرواية التي اعتبرت أهم أحداث 2005 في السعودية. وليس من شك في أن مثل هذا التحول العنيف الذي مس "أنساق" الرواية جعل الكثيرين يتساءلون حول عدم حصول هذا التحول من قبل وسواء في السبعينيات أو الثمانينات أو معظم التسعينات الميلادية؟ فالأمر، هنا، يتعلق بـ "لحظة تاريخية مفصلية" كانت تنطوي بداخلها على بذور "تفجرها". وكما تقول "حفريات المعرفة": لكي يحصل "تحول" لا بد من أن تكون هناك "شروط" تمهِّد له.

وستكون وراء هذه "الانطلاقة المغايرة" عوامل عديدة في مقدمها "التحول العنيف" الذي طال الخليج نتيجة ما أسماه الإعلام الغربي بـ "حرب الخليج الثانية" موازاة مع "الانفجار العولمي" الذي سيبلغ مداه في هذه الفترة وبتداعياته أو "آلياته التفكيكية" للمفاهيم العضوية وبدءا من مفهوم "الفرد" وانتهاء بمفهوم "المجتمع" الذي يستوعبه وكل ذلك في سياق أوسع هو سياق "الهوية" التي لم يعد فيها أي مجال لـ "النقاء" أو "الصفاء" أو "الطهر". الهوية التي تتأطر بدورها داخل سياق أوسع هو سياق "مفهوم الثقافة" التي صارت مجالا لما يعتمل في المجتمع من انغلاق مستحكم وانفتاح معطوب. وسيدخل على خط التعبير عن هذا التحول العنيف أنواع تعبيرية عديدة تبدأ من المقال الصحافي وتنتهي بالخاطرة الأدبية مرورا بالديوان والمجموعة الشعرية وقصيدة النثر والمسرحية... ودون التغافل عن الفوتوغراف أيضا وارتماء المرأة في عالمه وبنوع من الجرأة كما في حال كل من الفنانات الفوتوغرافيات نورة الخراشي ووفاء الأحمد ووفاء يريمي وسناء هرساني والفنانة الكاريكاتورية هناء حجار وغيرهن من بنات جنسهن في دلالة على إمكانات المرأة السعودية التعبيرية وتوظيف ملكاتها البصرية والحسية في الارتقاء بفن الفوتوغراف، وغيره من الفنون، إلى مصاف التعبير أو التمثيل الدال على شرط الإبداع والحرية والتأسيس لوعي جديد يتمرد على "النصيحة المهترئة" القائلة بـ "قرار المرأة في بيتها خير لها وللمجتمع".

غير أن الرواية بدت أكثر استجابة لـ "تمثيل" تحولات "الواقع الثقافي" السعودي، لما تنطوي عليه هذه الأخيرة من إمكانات لا من ناحية التقاط ذبذبة المرحلة فقط وإنما من ناحية المواجهة أيضا: مواجهة "الأنساق المفترسة"، والإسهام ـ بالتالي ـ في صياغة المعنى الإجمالي للمرحلة. هذا بالإضافة إلى أن الرواية تظل الأقرب من حيث التأثير في القارئ ومن حيث مقاربة الواقع الاجتماعي وفي المدار ذاته الذي يصل ما بين التخييل والسخرية والنقد... وغيرها من الأشكال التي تندغم في "الخطاب" الذي تسعى هذه الرواية أو تلك، وعبر إواليات "الاستبناء الخطابي" (Mise en Discours)، إلى "التأثير" من خلاله، وذلك من خلال جعل المجتمع "مجالا" لهذا الخطاب. ولعل هذا ما جعل الناقد السعودي سعد البازعي يتحدث عن "الهيمنة غير المسبوقة" أو "الدفق غير المسبوق" للرواية في المشهد الأدبي بالسعودية في مداخلته حول "نثر المدن" المتداولة في شبكة الاتصال الدولي. وفي هذه المداخلة يرد الهيمنة سالفة الذكر إلى "التحول العولمي" أو "النقلة العولمية" ـ كما يسميها ـ جنبا إلى جنب "عصر الانفتاح الفضائي والرقمي"، مما أفضى إلى "اتساع نسبي لهامش التعبير" في مجتمع كالمجتمع السعودي مع بداية التسعينيات من القرن الماضي. ومن هذه الناحية لم يعد ممكناً، وبسبب من الانفجار الإعلامي وتعدد الوسائط، حجب كل ما كان قابلاً للحجب كما ساد في فترات سابقة. ويبقى أن نختم، في هذه النقطة، بما نعته سعد البازعي بـ "زيادة معدل التمدن في المجتمع السعودي" التي أفضت إلى "لحظة النثر" في الأدب السعودي بصفة عامة وفي الرواية بصفة خاصة. ولا داعي لإعادة النقاش حول الرواية، وسواء في المجتمع الخليجي أو العربي، باعتبارها "فن المدينة" بامتياز.

وفي سياق الهيمنة غير المسبوقة للرواية بالسعودية تفيد بعض الأرقام أنه على مدار الفترة الممتدة من العام 1930، أي تاريخ صدور أول راوية "التوأمان" (وقد سلفت الإشارة إليها)، إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، صدر، وعلى وجه التقريب، ما يقرب من ثمانين رواية، في حين أنه بين عامي 2005 و2006 صدر ما يقرب من ستين رواية. واللافت للنظر، هنا، أو ضمن هذا الدفق، الصوت النسائي الذي يستحوذ على حوالي نصف ما صدر في العامين المذكورين بعد أن كان هذا الصوت استثناء في المرحلة الأولى. إنه "زمن النساء" الذي تتحدث عنه كتابات ما يعرف بـ "النقد النسائي"، "الزمن" الذي تجاوزن فيه "الحاجة إلى رئة ثالثة" كما كتبت فوزية العيوني في جريدة "الحياة" (17/ 06/ 2008) بعد أن تعرضن، وكما قيل، لعملية "اختطاف ثقافي وإنساني" استمر لثلاثة عقود سادت خلالها، وعلى مستوى التعاطي لهن، ثقافة بعيدة عن "آفاق العصر" و "تطوراته الحتمية". ثقافة ذكورية متشددة، تغلّب الأبوية والعشائرية والولي والوكيل... في التصرف بشؤون المرأة.

وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن كتابات النساء، وهن من "المقموعات"، نهجت أسلوب "الاستحياء" قبل أن ترقى، ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، إلى مصاف "الظاهرة" الأدبية والاجتماعية في الوقت ذاته. ومن ثم ستأخذ أسماء في الظهور في دنيا الكتابة السردية الفاتنة التي كانت ـ وعلى المستوى الشفاهي ـ قد أسرت جدتهن "شهرزاد" في سياق التأكيد على جدوى السرد على مستوى الرد على أشكال المصادرة بشتى أنواعها التي بلغت حد استخراج المرأة من قفاها بل واستئصالها من الوجود. وفي هذا الصدد رحنا نسمع عن نجاة الخياط، وهدى الرشيد، وأمل شطان، وشريفة الشملان، ورقية الشبيب، وبدرية البشر، وهيام المفلح، وهناء حجازي، وحكيمة الحربي، ووفاء العمير، وخديجة الحربي، وأمل الفاران، وعائشة القصير، وليلى الجهني، وآلاء الهذلول، وزينب حفني، ونبيلة محجوب، ورجاء الصانع... وغيرهن من الكاتبات اللواتي كسرن قاعدة استبداد الرجل بالإنتاج الروائي والثقافي العام. وفي الحق ما كان لهؤلاء الكاتبات أن يتجاوزن السقف المسموح به لولا بعض "المتغيرات" التي شهدها المجتمع السعودي إذ لا يمكن التنكر، هنا، للدور الاستثنائي الذي لعبه "نادي جدة الثقافي" على مستوى الجدل والحوار مع "الفكر السائد" جنبا إلى جنب الانفتاح على دور النشر في الخارج. ودون أن نتغافل، هنا، عن ما سميّ بـ "وثيقة النساء السعوديات" التي أرسلت لملك البلاد العام 2003 والتي مثلت وبمطالبها (22 مطلباً حقوقياً) ـ وحسب البعض ـ "انتفاضة نسوية واعية ومثقفة" ودالة على "هموم المرأة الثقافية والمجتمعية" وقبل ذلك دالة على "وعيها التحرري الصاعد". إنه السعي إلى التحرر من "الاستعمار الذكوري" جنب إلى استعمار من نوع آخر لا يقل عنه خطورة وهو "الاستعمار الثقافي" أو "الاستعمار الفقهي" كما عبّر عنه البعض ولا سيما في المجتمع الخليجي، ذلك الاستعمار الذي يصر على "إبعاد المرأة عن الكتابة" عملا بـ "وصية" "لا تعلموهن الكتابة" ومن حيث "وصية قديمة/ جديدة" وقبل ذلك "قامعة". إنه الوجه الآخر لـ "الاستعمار المضاعف" الذي تحدّثت عنه صاحبة المقال الأشهر "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟"، وليس من شك في أننا نقصد، هنا، إلى رائدة دارسات "نساء العالم الثالث" الهندية غياتري شاكرافورتي سبيفاك التي ستسهم بدورها في تكريس مقولة "زمن النساء".

ويمكن التشديد، ضمن القائمة سالفة الذكر، على كاتبات روائيات ذاع صيتهن، أكثر، خارج السعودية والمجتمع الخليجي، وقد ذاع صيتهن لأسباب سنعمل على ذكرها فيما بعد. وفي مقدمهن رجاء الصانع في روايتها الخلافية سالفة الذكر "بنات الرياض" التي صدرت في العام نفسه (2005) الذي صدرت فيه "ستر" رجاء عالم، لكن دون أن تنال هذه الأخيرة شهرة الأولى. وتقدونا رجاء الصانع إلى بنت جنسها زينب حفني صاحبة "ملامح" (2006) القائلة بأنها "أول من أماط اللثام عن المسكوت عنه في الساحة الثقافية"، ووردة عبد الملك في "الأوبة" (2006)، وصبا الحرز في روايتها "الآخرون" (2006). وجميع هذه الروايات تسعى، وبنوع من التفاوت، وعلى مستوى "التمثيل" (الثقافي)، إلى معالجة موضوع المرأة انطلاقا من تيمات معهودة، ومكرورة، مثل الخيانة الزوجية والتعنت الذكوري والتكثيف الجنسي. جنبا إلى جنب تيمات بالغة الجرأة كالسحاق، وشذوذ النساء، بل وشذوذ الرجال: رجال "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" كما في حال رواية "المطاوعة" التي لم نذكرها... أو المرأة كأداة للمتعة وإلى الحد الذي يجعلها تشعر، وطوال الوقت، بـ "الوأد المسترسل" وكأنها تعيش في "عصر جاهلي" كما في رواية "جاهلية" (2007) ليلى الجهنى التي لم نذكرها أيضا.

لقد تم التعاطي لهذه المواضيع بجرأة غير معهودة في الأدب السعودي، ولعل هذا ما حذا بالروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، الشهيرة بدورها، إلى أن تصف ما يحدث اليوم في الرواية السعودية بـ "تسونامي". وقد انضاف إلى هذه "التسونامي"، ومن موقع ذكوري، هذه المرة، كتاب سعوديون مثل طارق بن بندر العتيبي في أول رواية له "شباب الرياض"(2006) التي حاول فيها اقتفاء أثر "بنات الرياض"، والصحافي المعروف هاني نقشبندي في روايته الأولى "اختلاس" (2006) والمسرحي والناقد إبراهيم بادي في "حب في السعودية" (2007). وكما نلاحظ فأغلب هذه النصوص يركز على "المكان المحلي" الذي كنا قد تحدثنا عنه. وربما توجبت الإشارة، هنا، إلى نصوص أخرى تحيل، وعلى مستوى العنوان ذاته، وسيرا على نهج تركي الحمد، على "المكان المحلي"، مثل "بنات من الرياض" لفايزة إبراهيم (2006) و "حب في السعودية" لإبراهيم بادي (2006) و "شباب من الرياض" لطارق العتيبي (2006) و "سعوديات" لسارة العليوي (2006) و "فتاة الشرقية" لمريم الحسن (2006)، و "سورة الرياض" لأحمد الواصل (2007)، و "سوق الحميدية" لسلطان القحطاني (2007)... إلخ. وكل ذلك في المنظور الذي جعل البعض يتساءل عن سبب إقحام اسم مدينة "الرياض" على أغلفة الروايات، معتبراً أن تجربة رجاء الصانع في روايتها "بنات الرياض" أسست "قطعة الدومينو الأولى" ولتأخذ بعدها القطع الأخرى في الظهور.

إجمالا، ولمناسبة تكرار العام 2006، فقد أطل، وفي العام نفسه، وعلى المشهد الأدبي، ستة وعشرون روائيا. ومن ثم منشأ ما يعرف بـ "الطوفان" و "الطفرة الروائية" و "تظاهرة الرواية السعودية الجديدة" وغير ذلك من الأوصاف أو الأحكام التي دفعت بالبعض إلى أن يتحدث عن "زمن الرواية السعودية" في دلالة على "انتشارها"، غير المعهود، في العالم العربي. هذا إذا ما لم نتحدث عن نوع من "العالمية" بخصوص نماذج من الروائيين السعوديين ممن ترجمت بعض أعمالهم إلى لغات عالمية كما هي حال "فخاخ الرائحة" ليوسف المحيميد التي ترجمت إلى الإنجليزية (دار "بنجوين") و "بنات الرياض" لرجاء الصالح التي ترجمت إلى أكثر من لغة أجنبية و "الحزام" لأحمد أبو دهمان التي كانت بدورها قد لاقت نجاحا كبيرا بعد أن ترجمت إلى عدة لغات بل وصدرت في طبعة "الجيب" وقُررت في برامج مدرسية في العالم الفرنكوفوني... إلخ. هذا بالإضافة إلى مشاركة الروائيين والروائيات السعوديات في احتفاليات ومعارض دولية لها صيتها الكبير.

وهناك من يتصور أن العام 1998 كان العام الحقيقي في بروز "ظاهرة الروائيات الجديدات"، وهو العام الذي صدرت فيه رواية "الفردوس اليباب" ليلى الجهني التي ستكون بمثابة الحجر الذي سيلقى في تلك البركة الراكدة. غير أن الرواية المفصلية، وعلى مستوى ترسيخ الظاهرة نفسها، كانت هي رواية "بنات الرياض" (2005) التي نالت شهرة واسعة نادرا ما نالتها الكاتبة العربية. ومع هذه الرواية انطلقت موجة "الإعلان عن الذات" و "البحث عن الشهرة" و "تسويق الكتاب"... إلخ. وربما كان بلغ تأثير "بنات الرياض" حدا لا يتصور، وذلك حين قارن الناقد سحمي الهاجري صاحبتها، وعلى مستوى التأثير في بنات جنسها، بما فعل، ولنا أن نتصور(؟)، مارتن لوثر كنغ: "محرر العبيد في أميركا". لقد دفعت العديد من الروائيات إلى كشف "المسكوت عنه" في المجتمع السعودي... "المنغلق" و "الكبسولي" على مستوى "الهوية" و "أسئلة الوجود". ثم إن عدم ملاحقتها، ورغم منع تداول روايتها، من قبل "حراس العقل الاجتماعي" حفّز روائيات، كثيرات، أمثال سمر المقرن، وطيف الحلاج، وصبا الحرز، ومرام مكاوي، ووردة عبد الملك، وسارة العليوي، وزينب حفني، ومنيرة السبيعي... إلى محاذاة "الألغام" ودون خوف أو ممارسة رقابة على الذات. روايات تجعل من الرواية "سلاحا" لا "مرآة" فقط، "روايات قتالية" في جرأتها حتى وإن كان مجتمعها "صلبا" و "لا يتأثر" كما قيل عنه. هذا بالإضافة إلى أنها، وإلى جانب ما كتبه الروائيون الجدد بدورهم، وعلى أرض الاختلاف الذي يصل/ يفصل بينهم جميعا، كاشفة عن "مجتمع روائي" قائم بذاته.

ولا يمكن أن يستوعب "النص الروائي المضاد"، في السعودية، في معزل عن محاولة استيعاب أنهاج القراءة التي سعت إلى إنتاج وعي به استنادا إلى الفكر المنهجي الإجرائي والنظري التصوري وبالقدر نفسه محاولة فهم مستويات تداول هذا النص من قبل الشرائح المجتمعية المختلفة. هذا وتجدر الإشارة إلى أن أنه كثيرا ما يتداخل المستويان، المنهجي والاجتماعي، ومن المؤكد أن يستبق، هنا، المستوى الأول، في "الاستجابة" لهذا النص الذي لا يمكن أن تتضح "دلالاته" في معزل عن هذه الاستجابة ومهما كان "الموقف" الذي يتحكم فيها. وفي جميع الأحوال فهذه الاستجابة تترواح بين ثلاثة أنماط كبرى، هي: الرفض الغالب، والتردد المتعثر، والقبول الشاحب. وفيما يتعلق بموقف القبول، المحصور أصلا، فمرده إلى تلك النظرة التي تقر بقيم "التطور" و "الإضافة" و "الحرية" و "صيرورة الحقيقة" و "تقدمية التاريخ". ومن هذه الناحية تمثل الرواية الجديدة، ومن منظور شريحة قرائية، واسعة، "مرحلة مهمة" في مسيرة الرواية السعودية عموماً، بل إنها شكّلت "تحولاً كبيرا"ً في المملكة حتى وإن كانت لم تصل إلى المستوى الفني المطلوب. لقد استوعبت أهمية "السياق الثقافي المتحرك"، بل وانخرطت فيه، مما جعلها علامة على "الاحتجاج" على "الواقع" الذي تتحدر منه. غير أن هذا الاحتجاج قرين نوع من "الانفتاح" الذي بموجبه تبدو هذه الرواية "انفتاحا اجتماعيا" من جهة و "انفتاحا فنيا" من جهة أخرى و "انفتاحا لغويا" من جهة ثالثة. وهذه الركائز الثلاث، لفعل الانفتاح، هي التي تجعل أي رواية "موضع سؤال ونقاش" كما قال محمد عبد الله الغذامي الذي كان قد خص "بنات الرياض" بأكثر من دراسة مشيرا، فيها، إلى "جانبها التجريبي" الذي لا يمكن تجاوزه.

وفي جميع الأحوال فقد استطاعت الرواية الجديدة بالسعودية أن تفتح نقاشا واسعا وسواء في الدوائر الأكاديمية أو خارجها. وعلى المستوى الأول فقد قدمت حولها، وداخل السعودية، ومن قبل طلاب الدراسات العليا، أطروحات عديدة (ما يزيد عن 25 أطروحة) في دلالة على نوع من التحول من الاهتمام بالشعر ـ الذي كان مهيمنا في فترات سابقة ـ نحو الرواية التي أصبحت جزءا من المناخ الثقافي السائد. هذا بالإضافة إلى أن الرواية راحت تفرض ذاتها في المؤتمرات المكرسة للرواية العربية، بل إن كتابها شاركوا في ملتقيات عالمية حول الرواية كما في حال يوسف المحيميد، ورجاء عالم، ورجاء الصانع... إلخ. "ولو كانت العلاقات تفيد في الغرب لاكتسحه السعوديون كما اكتسحوا بيروت من قبل..." كما قال يوسف المحيميد نفسه في نص حوار أجري معه ("الحياة"، 13/ 05/ 2008). غير أن هذا القبول لا يخلو من "تردد" يبدو جليا في أحيان وأحيان كثيرة في القراءات التي اهتمت بها. ويتمظهر، وفي الأغلب الأعم، في شكل "تحفظ" على "الاندفاع، المفرط، وراء الكشف عن "المقموع" و "المسكوت عنه"... وفي شكل تحفظ على مستواها الفني الذي لا يرقى بها إلى مصاف النصوص المكرًّسة والمعتبرة. ولا يبدو غريبا أن يكون موقف الرفض، وداخل السعودية، هو الغالب... بسبب من "العقل الاجتماعي" (سالف الذكر) الذي يقف في الخط الأمامي من التصدي للمحاولات التي تسعى إلى النبش في "المحرم"، خصوصا وأن هذه الرواية عرفت انتشارا واسعا إلى درجة أن بعض نماذجها بلغت حد "المنشور الاجتماعي". وفي هذا الصدد عادة ما ينظر إلى هذه الرواية باعتبارها "استجابة" لـ "هالة إعلامية" هي قرينة "مؤامرة خارجية" تسعى إلى "الإساءة" إلى "الأمة" من خلال الحرص على "نقمة التعرية" و "جلطة المضامين الفضائحية" و "الزيادة في جرعة الممنوع"، مما دفع بالبعض إلى التخفي وراء أسماء مستعارة. ولا يبدو غريبا أن تنطوي القراءة، هنا، على أبعاد نفسية بموجبها يبدو "حدث" القراءة ذاته "عملية تلصص" على "حياة الآخرين" التي ينبغي لها أن تبقى في منأى عن لوثة "الكتابة" جنبا إلى جنب مبدأ "التشفي" الذي ينضاف إلى "التلصص" السابق، وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق دائرة "الاستمتاع" أو "التلذذ" بـ "مصائب الآخرين" و ـ بالتالي ـ "المشاركة" (الواعية وغير الواعية) في إذاعتها بين الناس.

وكما أن التشديد على "المضامين الفضائحية"، وعلاوة على بعده القرائي التنفيسي، لا يخلو من دوافع تجارية مادية الغاية منها تسويق الرواية السعودية على نطاق واسع ولا سيما في السوق السعودية والخليجية المعروفة بقدرتها الشرائية. وفي هذا الإطار، ودون أي إشارة إلى تردد أو بالأحرى إحجام دور النشر المحلية على نشر الروايات المحلية، مما يحمل بأصحابها إلى النشر الخارجي، عادة ما يتم النظر إلى "دار الساقي" البيروتية، التي كانت قد نشرت من قبل "ثلاثية" تركي الحمد سالفة الذكر، باعتبارها "الرأس المدّبر" لـ "العملية الموبوءة" الساعية إلى "تشويه المجتمع". وإذا كان البعض يتحدث عن ما يشهده النشر في بيروت من "ظاهرة" اسمها "الأدب الإيروسي السعودي" وعن "سلعة سعودية تغزو الأسواق على شكل رواية"... فإن آخرين يرون في إقدام دار الساقي، تحديدا، على نشر "الكتاب الخليجي"، و "السعودي" تحديداً، و "النسوي" على الأخص، بل على الكتاب الذي تكتبه امرأة سعودية دليلا على "الرؤية التسويقية" التي تشدِّد، وكما تلخص بعض "القراءات"، على "الجنس، والشذوذ، والسب والتحقير المتعمد والمتعسف لمعتقدات أهل المنطقة، ولابد أن يرافق كل هذا تصوير المرأة كشاهد رئيس على معاناتها وتحويلها إلى نعجة منتهكة ومداسة بالنعال على يد زوجها السعودي، أو أخيها السعودي، أو أي من أقربائها الذكور، بشرط أن يكون سعودياً نجدياً، لكن إذا كان من منطقة أخرى فلا مشكلة، المهم أن يكون رجلاً، ويكون سعوديا".

هذا وأن آخرين يرون في الدور التي تقوم به "دار الساقي"، مع الكاتبات السعوديات، ما يشبه "دور الفيديو كليب" أو ما يشبه ما قامت به قناة "روتانا" مع هيفاء وهبي التي لا تستطيع بيع شريط واحد بـ "صوتها البقري الهابط" (كذا)، مما حذا بالقناة إلى تقديم أفخاذ هيفاء وهبي وصدرها ومؤخرتها للجمهور لتغييب أذنيه وفتح عينيه... وكانت الحصيلة لـ "لأيقونة الجنسية الشبقية" مبيعات هائلة. و "كذلك فعلت بعض دور النشر"، مع الروائيات والروائيين السعوديين الجدد، كما يحسم هؤلاء. هذا وأن آخرين يتصورون أن هذه الدور قامت بإدخال جمل وعبارات في الأعمال، بل وأنها أخذت الموافقة ـ غير المشروطة ـ التي تخول للدار التصرف في النص بالإضافة والحذف، سعيا منها إلى تصعيد الإثارة والفضائحية، وكل ذلك في نطاق "الرؤية التسويقية" في سعيها إلى حصد المزيد من الأرباح. وما لا يتم الالتفات إليه أيضا أن "دار الساقي" لا تخلو من "كبير تأثير ثقافي"، وأن "التبضع" منها لا يقل أهمية عن التبضع من أشهر "البوتيكات" في لندن كما تفعل إحدى بطلات "بنات الرياض". ثمة شريحة واسعة من أدباء السعودية ومثقفيها لا يزالون يواصلون التنكر والتبرؤ من "تظاهرة الرواية السعودية الجديدة"، بل وينعتونها، وبسبب من مناظيرهم القومية، الدينية، الحدية، بأقصى النعوت والأوصاف.

وعلى مستوى آخر فإن مجرد الاقتراب من السعودية، أو "الإحالة عليها" بتوصيف البعض، ومن قبل الروائيين العرب، هذه المرة، ودون الاطلاع على مضامين هذه الإحالة، "اختيار" مشكوك فيه. ومن هذه الناحية فروايات مثل "نجران تحت الصفر" ليحيى يخلف (1976) و "الطريق إلى بلحارث" لجمال ناجي (1982) و "براري الحمى" لإبراهيم نصر الله (1985) و "البلدة الأخرى" لإبراهيم عبد المجيد (1990)... هي، وبسبب من "الإحالة" السالفة، "روايات موبوءة" ("المكان "المحلي" في الرواية السعودية"/ صالح زياد، الحياة: 25/03/2008). وثمة سند آخر للرفض ويسعى إلى الاحتكام للتصور النظري الخالص للأدب بعامة والرواية بخاصة، مما يباعد بين هذا التصور والرواية السعودية الجديدة التي أقدم عليها كتاب أغلبهم من الشباب وفي تجاربهم الأولى التي تجاوز بعضها، وبسبب من جرأتها غير المعهودة، دائرة الاهتمام النقدي إلى دائرة الضجة الإعلامية. ومن هذه الناحية يتصور هؤلاء أن هذه الرواية "ظاهرة إعلامية" أكثر منها "ظاهرة أدبية"، وأنها "روبتاجات صحافية" أكثر منها نصوص روائية متماسكة. إضافة إلى أن الإعلام، أو "النقد الصحافي"، وبمعناه السالب، هو مصدر توسيع تداولها مع أن قيمتها الأدبية "متوسطة". بل إن البعض حرص على أن ينعتها بـ "سنة أولى رواية"، و "محتمل أن ينجح البعض، فيما يلزم البعض إعادة العام!". وهو الموقف الذي شدّد عليه نقاد وكتاب وصحفيون، من خارج السعودية، وفي حال "بنات الرياض" المثيرة (موقف جمال الغيطاني وعبده وازن...)، هذا وإن كان هذا الموقف لا يخلو، وفي جوانب منه، من "معايير مسبقة".

وفي سياق أوسع، وأوضح، لم تفت الكاتب الصحفي اللامع سمير عطا الله فرصة إبداء موقفه بخصوص ما أسماه "أدب النسوة" و "الكاتبات الخليجيات". يقول في الموضوع: "أرجو ألا يفهم (...) أنني ضد أن تكتب المرأة. وضد أن تشكو. وضد أن تعّبر. وضد أن تساهم. وضد أن يكون لها رأي ومشاعر وإنسانيات. أنا ضد أن يخيل للمرأة عندما تعطى الحرية أن الحرية محصورة في الإباحية وحوار المخادع. إنها أبعد وأعمق من ذلك بكثير. أو على الأقل ليست هذا فقط، كما يبدو من موجات الكتب التي تفيض بها المكتبات. إنها تذكرني ببيروت الستينات. وما بقي منها قليل" ("أدب النسوة"/ "الشرق الأوسط"، الاثنين 30 ديسمبر 2007 ). ويذكرنا هذا السياق، سياق ستينيات بيروت، وبأصدائه الوجودية السارترية التي كانت تصل عبر مجلة "الآداب" البيروتية، برواية ليلي بعلبكي "أنا أحيا" (1958) التي سرعان ما ستتعزز برواية إميلي نصر الله "طيور أيلول" جنبا إلى جنب رواية ليلى عسيران "لن نموت غدا" التي ستصدر في العام نفسه (1962). وهو العام الذي ستنشر فيه أيضا رواية "فتاة تافهة" لصاحبتها منى جبور التي ستُقدم، وبعد عامين فقط على نشر روايتها، وفي مقتبل عمرها، على الانتحار. هذا في الوقت الذي اختارت فيه ليلى بعلبكي، وفي أثناء اندلاع الحرب اللبنانية العام 1975، أن تهاجر إلى لندن، وتنعزل بالتالي عن الكتابة، لكن بعد أن أسست، بنصها السابق، لـ "الرواية النسائية الحديثة". وحتى إن كانت إميلي نصر الله ستكتب عن الحرب الأهلية، في "الإقلاع عكس الزمن" (1981) (ترجمت إلى الإنجليزية) و "تلك الذكريات" (1982)، فإنها بدورها ستنقطع عن الكتابة ولمدة طويلة.

وعلى مستوى آخر، وبسبب من التضافر المفترض، وعلى أرض الرواية ذاتها، وبين هذه الأخيرة والفكر، وفي السياق نفسه، سياق الرفض، يتصور البعض أن الرواية الجديدة، بالسعودية، شاحبة ولا يمتلك أصحابها أي تصور على هذا المستوى، مما لا يسمح باستدراج مفاهيم التحليل النفسي والسوسيولوجيا والفلسفة... إلى دائرة قراءتها. فهي تفتقد إلى ذلك النوع من "الوعي المعرفي المؤسس" الذي يفضي إلى تلك "النصوص المعتبرة" و "المستقلة" و "الكبرى" لا إلى تلك "الموضة" التي تفسر "التشابه" الذي يطغى على العديد من النصوص وسواء على مستوى "المضامين" أو مستوى "التجديد الشكلي". وكما يلخص البعض فإن أهم معوق يعترض الرواية الجديدة بالسعودية، وهي آخذة في التطور، يكمن في "نمط الاستجابة السائد". فاستقبال الرواية، من قبل المجتمع، متعثر، ومحبط، بل وغير مشجع.

والظاهر أنه ثمة فرق ما بين "الرواية" و "الفكر"، وليس من الضروري أن تحفل الرواية أبدا بالقضايا ذات الصبغة التنظيرية التي تندرج ضمن مجالات أخرى. وربما توجبت الإشارة إلى أن نجاح رواية "بنات الرياض"، وعلى مستوى الانتشار والتداول، يعود إلى عدم اكتراثها بهذا الهاجس الذي يشوّش، في كثير من الأحيان، على الإبداع في الرواية ما لم يدرك الروائي سر الخيط الذي يشده إلى التخييل في سياق التعاطي للمواضيع ذات الطابع التنظيري. غير أن عدم الاكتراث بـ "الفكري" لا يفيد عدم تمثيل الرواية لما يموج به المجتمع من قضايا لاهبة عادة ما يأخذ التعبير عنها طابعا غير قصدي أو هاجسي. ومن هذه الناحية كانت الرواية الجديدة أكثر تعبيرا عن "ثقافة المجتمع وتناقضاته"، وسواء في ما يخص التعامل مع المرأة في الشأنين العام والخاص، كما هي الحال في الرواية النسائية، أو غير قضايا المرأة وسواء في الرواية النسائية ذاتها أو غير النسائية. وفي هذا الصدد فقد حملت "بنات الرياض" الكثير من الدلالات والظواهر الاجتماعية المسكوت عنها مع أن رجاء الصانع "لم تكن تؤسس لهذه الرؤية بشكل واع، فهي أولاً ليست من الوسط الأدبي، كما أنها لم تعرف برؤاها النقدية الفلسفية التحليلية، ولم تمتلك من الخبرة والعمر ما يجعلها تنتمي إلى فئة المنظرين، أو أصحاب الرؤى الاستراتيجية التي ترسم خطاً ايدولوجياً تحلم بتحققه. وهنا تكمن القوة والجمال في تجربة رجاء الصانع" كما أكدت أميرة كشغري ("الحياة"، 13/ 05/ 2008).

والظاهر أن الرواية الجديدة، بالسعودية، وهو ما قد يفضي بنا إلى اختيار تصوري ومنهجي مغاير، "خطاب ثقافي" أكثر منها "خطاب سردي تجريبي" وبالمعنى البنيوي، الضيق، للسرد هنا، لأنه حتى الخطاب الثقافي لا يخلو من سرد لصيق بـ "الهوية" أو بالأحرى "سياسة الهوية" كما تنعتها نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي. ويبدو الخطاب الثقافي، وفي دائرة "التخييل" الروائي، وكما أسلفنا، "احتجاجا" أكثر منه رغبة في التأسيس لـ "المرحلة"... وكشفا للمخبوء والموبوء أكثر منه احتفاء بالمطرح والزائل والعابر. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى "النقد الثقافي"، أو "الحاجة إلى النقد الثقافي" كما دعا إليها البعض، لما لهذا النوع من النقد، في رحابته وجمعه بين مناهج وتصورات تبلغ حد التناقض في أحيان، من أهمية على مستوى تلك "النظرة" التي لا تقول بالتمييز بين "ثقافة عالمة" وأخرى "شعبية"، وبين "المسلسل الدرامي" و "القصيدة الشعرية"... فالأهم هو "التمثيل" ذاته الذي هو "مفهوم قاعدي" في النقد الثقافي. ولا تخفى أهمية هذا النقد، والذي كان الناقد السعودي محمد الغذامي واحد من الذين مهّدوا له، وبشكل واضح، في خريطة النقد العربي المعاصر، بل وقد كان هذا النقد في أساس إقدام هذا الناقد والمثقف على دراسة "بنات الرياض".

وتتضح أهمية هذا النقد من ناحية إبراز "أمراض المجتمع" أو ما يسميه الغذامي "العيوب الثقافية" التي تتخذ صفة "أشكال نسقية" تتمظهر في مجال السلوك والعادات والأعراف... وفي النصوص التي لم تعد ذات قيمة جمالية شكلية، بل أصبحت وثيقة ثقافية لا تقل أهمية عن النكتة أو الطرفة العابرة... إلخ. وعلى مستوى المجتمع السعودي يبدو هذا النقد ذا أهمية بالغة على مستوى الكشف عن "أبوية المجتمع وذكوريته" التي تتكشف ثقافيا، ومن ثم مصدر الضجة التي أحدثتها الرواية الجديدة، والنسائية بخاصة، في السعودية. فالرواية، هنا، وكـ "جبهة"، ابتداء، شكّلت هامشا مأموناً عبرت فيه المرأة، الكاتبة، عن مواقفها تجاه الممارسات الذكورية، ولا سيما من ناحية الظلم الذي يلحق بها اجتماعياً وجنسياً من قبل الرجل الوصي عليها. كما أعطتها فرصة، غير مسموح بها، للتساؤل والتمرد والاحتجاج على السائد... وفي مقابل ذلك الإيحاء بالمأمول في سديم المرحلة. فالأهم، في الرواية، هو "الخطاب الثقافي" ذاته الذي يسعى إلى أن يرقى بـ "الكتابة"، وعلى أرض الرواية، وبمعناها المهجن، إلى مستوى "السلاح" أو "الأظافر" في سياق الرد على "طبقات الاستبداد" التي تلوي بالمجتمع وتعوقه على مستوى الانخراط في العصر واسترسال التاريخ.

على أن أبرز مأخذ على الرواية الجديدة بالسعودية، في سياقها المتدافع والمحموم، هو "سطوة المؤلفين" على "الشخصيات الروائية"، مما يجعل السؤال حول "تحرر" الشخصيات، بل والرواية ذاتها، من هذه "السطوة"، أو "الوصاية"، سؤالا "إشكاليا" و "ملحا" في الوقت ذاته. ذلك أن "جانبا مهما" مما كان "ينبغي أن يقال"، وبطرائق مخصوصة، وبعفوية وطلاقة، وفي سياق مهرجان اللغات والأصوات، تعرض، في هذه الرواية، وبسبب من التأكيد على "الأطروحة"، لـ "المحو" و "الإقصاء". وعندما يحدث، وبشكل واع، ما يعاكس ذلك... سيكون للرواية المحلية شأن آخر كما تقول منيرة السبيعي في "متى تتحرر الشخصيات الروائية من سطوة المؤلفين السعوديين؟" ("الحياة"، 8/ 7/ 2008م). غير أن وعيا في هذا الحجم يستلزم، في نظرنا، وعلاوة على ما سلف، نوعا من "التموضع" في النوع الروائي الكاشف عن "الكتابة" الكاشفة بدورها عن التباس "التحقيق" بـ "التخييل" حتى لا نفقد الرواية صلاتها، المتشابكة، وقبل ذلك المثمرة، مع نص الواقع. غير أن الرواية الجديدة بالسعودية، وبسبب من سندها الثقافي الضاغط، آثرت أن تستبدل بـ "الكتابة" "المواجهة" التي كانت في أساس انتشارها وفي أساس النقد الذي يمكن توجيهه لها. 

باحث من المغرب