معطيات التقنية الرقمية والقراءة الجديدة

السيد نجم

 

لقد شكلت التقنية الرقمية الجديدة قوام الحياة اليومية للأفراد (وان اختلفت من مكان إلى آخر, ومن دولة إلى أخرى)، أصبحت "المعرفة" تقود إلى الثروة والتحديث من خلال "الإبداع" و "الابتكار" سواء في المشروعات الاقتصادية أو الثقافية. وفى مجال الإبداع الأدبي، شهد العقد الأخير من القرن الماضي أول قصيدة، رواية/ قصة رقمية عالميا، وعربيا في أوائل القرن الجديد. وبرز السؤال حول طبيعة "النص الرقمي" وهويته مع ضرورة البحث عن جوانب النقد والناقد الرقمي الجديد، وقبل الجميع ماذا عن القارئ/ المتلقي/ المستهلك/ المتصفح.. هل من اشتراطات للقارئ الجديد وللقراءة؟ 

ما اللغة؟
لعل الاقتراب من معنى أو تعريف اللغة، هو التعرف على كونها وسيلة ـ بحسب تعريف اللغويون والفلاسفة ـ أي من خلال "الوظيفة"، وظيفة اللغة.. حيث هي وسيلة التواصل والتماثل بين الأفراد والجماعات. فهي شفرة الاتصال وصورة تمثل الأشياء والعالم والكون كله إلى أنفسنا. فباللغة نتعارف معا ونتعامل أكثر عمقا، وبها نعلم تصنيف الأشياء. إلا أنه من المتفق عليه أن هناك قراءة للموسيقى والفنون التشكيلية وغيرها، دون الحاجة إلى الأبجدية (غير الموظفة أصلا في إنتاجها). وقد أصبحت هي نفسها من مفردات اللغة الرقمية في مجال "الإبداع الرقمي".

ما القراءة؟ 
هي عملية إرادية، متفق على قواعدها، لفك طلسم ما، وتحويله من رمز إلى معنى ودلالة متفق عليها سلفا، وهو المعنى البارز في قراءة اللغات، سواء المعتمدة على الشكل "مثل الهيروغرافية" و "المسمارية" و "الصينية"، أو المعتمدة على "حروف الأبجدية" فقط التي عرفتها أغلب اللغات في العالم فيما بعد.

القراءة الجديدة وملامحها
مع معطيات الرقمية أو التكنولوجيا الجديدة في الاتصال والإعلام، بكل وسائطها المرئية والمسموعة والمكتوبة والممغنطة والالكترونية، ماذا عن حال الإبداع فيها؟ وما تأثيرها على المتلقي؟ وبالتالي كيف نقرأ معطيات "الإبداع" الجديد والمتاح أيضا؟  بداية فان عناصر الإبداع الجديد.. هي وسائط التقنية الرقمية، هي: الصورة ـ الصوت ـ اللون والرسم، ثم الحركة، وتجيء الكلمة في النهاية (بعد أن كانت قبلا "الكلمة" في المقدمة). وهو ما يعنى أن "النص الرقمي" متعدد الأدوات، ومتنوع، يخاطب الأحاسيس والمشاعر ولم يتخل عن العقل. سوف نتناول عنصر "الصورة" أكثر تفصيلا، نظرا لسيادتها على التقنية الجديدة في كل المجالات، حتى سمى العصر الجديد ب"عصر الصورة".

لقد أصبحت "الصورة" نصا ثقافيا.. فالصورة حاضرة في الأسواق وفى الوسائل التعليمية, وعبر الإعلام والفنون المرئية, وأخيرا على شاشات الكمبيوتر. نشير إلى تعريف الصورة.. يشتق المصطلح من كلمة لاتينية  تعنى "محاكاة", وفي المجال السيكولوجي مترادفة مع: "التشابه", "النسخ", "إعادة الإنتاج", وفى العربية تعنى "هيئة الفعل", "الأمر وصفته". أما الصورة الرقمية المولدة بالكمبيوتر فقد أدت إلى تحولات جذرية في الثقافة الإنسانية, نظرا لدورها كمعلومة, مع سهولة الحصول عليها والتعامل معها, ثم تخزينها وإنزالها.

أما علاقة الصورة بالاتصال الأدبي.. علاقة جوهرية لأن الصورة لغة في ذاتها, فقد وضع "شارل بالى" الصورة الأدبية في الاتصال الشفاهى جوهر المجاز, واعتبر المجاز معيارا للتميز بين المكتوب والمنطوق. أما وقد كانت "الصورة" من خلال البحوث الأدبية محددة بالوظيفة الاستعارية للصورة اللفظية. أصبحت "الصورة" في مرحلة تالية تعامل بوصفها "نصا ثقافيا".

كما يعد الصوت معضد للصورة في اللغة الرقمية.. فهو وسيط هام بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها، وهو عادة يقسم إلى صوت مرتفع وآخر منخفض.. أو أصوات منفرة وأخرى محببة. وقد بدأ الموسيقى "شيفر" دراساته حول كون الصوت مجال هام في الاتصال، أو "الاتصال الصوتي". وقد تبعه في البحث "تروا"، الذي خلص إلى أهمية الصوت في كونه وسيلة لتبادل المعلومات.. وخلص إلى أنه عادة يرجع الصوت إلى السؤال: ما أو من؟ أي السؤال عن مصدر الصوت، إلا أنه لاحظ أن بيئة المستقبل، يمكن أن تتقبل أصوات ربما حادة أو منفرة، مثل تلك الصفارة (الصوت الحاد) التي تسبق تشغيل الانترنت، ومع ذلك لا يشعر المستمع بالنفور، لأنها تهىء المستمع إلى الدخول في الشبكة العنكبوتية. وقد أنتج الباحث/ الموسيقى ما يعرف ب "الموسيقى البيئية"، وذلك بأن قام بتسجيل بعض الأصوات الموسيقية، ثم قام بتمديد الموجات الصوتية، فبدت وكأنها تذاع بالسرعة البطيئة وهو ما يجعل المستمع لها إحساسا وكأنه داخلها.

إن قارئ صفحات الإنترنت اليوم هو كاتب أيضا ـ حسبما واضح في خواص التقنية على شاشة الكمبيوتر ـ و "القراءة" بالمعنى التقليدي ليست شرطا وحيدا لما يحدث عندما نطالع نصا إلكترونيا، لأن ما يُقرأ لم يعد بنية خطية بالضرورة. سقطت سطوة الكلمات التي ترجع إلى الأبجدية والتتابع المنطقي للجملة- تراجعت أمام سطوة الأيقونات والصور المحملة بالأفكار والانفعالات، بخاصة أوساط غرف الدردشة/ المحادثات الفورية، والمنتديات. ومن الخصائص الجمالية التي شاعت: الوضوح هدفا في ذاته (وضوح الفكرة)، وبالتالي يلاحظ القارئ/ الكاتب أن الجمل الطويلة/ والفقرات متعددة الجمل/ كما أن المحسنات البديعية، كلها تعد غير ذات ضرورة. بالإضافة إلى شيوع المختصرات التي باتت وسيلة متفق عليها للقراءة الدالة للمعاني المختلفة. (للدكتورة عبير سلامة بحث مفصل في هذه الجزئية)  كما قال "د.محمد أسليم" أن "الشاشة"/ الكمبيوتر والتقنية الرقمية، خلقت ذائقة جديدة بالكتابة والقراءة معا، نظرا لتغييرات عديدة جوهرية، ومنها ثلاثة.. أن الكتابة باتت ورشة مفتوحة على الدوام. حيث إمكانية إدراج الصورة والصوت في النص المكتوب.. قابلية الاستنساخ السريعة واللانهائية.. تحميل النص على نصوص أخرى كتابية أو سمعية أو مرئية، وتحميلها إلى نص آخر عبر الروابط الشعبية.. بالإضافة إلى إمكانية تحوير الكتابة والنصوص بالإضافة أو الحذف، مما يجعل النص أشبه بورشة عمل لا تنتهي.

وقد يثار تبعا لما سبق، السؤال حول مصير الكتاب الورقي؟ هناك من يرى باختفاء أو تضاؤل مكانة الكتاب الورقي، إلا أنني ضمن من يرون عدم تحقق تلك الاحتمالية لاعتبارات كثيرة، لعل أهمها أن كل التقنيات التي ابتكرها الإنسان الجديد منها لم يلغ السابق عليها، بل استفاد منها.. كما حدث مع اكتشاف آلة التصوير السينما لم يلغ خشبة المسرح، ولا ابتكار آلة الفيديو التليفزيونية، لم تلغ شاشة عرض الأفلام السينمائية. كما تتمثل ملامح وخصائص القراءة الرقمية الجديدة بالتالي: للوهلة الأولى يجب النظر إلى الشاشة باعتبارها مسطحا ظاهرا، يخفى وراءه مخزون لا نهائي من المعلومات القابلة للقراءة والكتابة معا، مع سهولة استعادتها وضمها إلى موضوع الكتابة. كما أن الملمح الثاني للقراءة هو مشاركة القارئ نفسه، بالحذف والإضافة.

أخيرا، مع الرقمية بات حلم الإنسان بالتوثيق منذ آلاف السنين، وقد أثمر مشروع مثل مشروع توثيق مكتبة الإسكندرية في شتى المعارف البشرية. وهو حلم الشاعر الارجنتينى المعروف "لويس بورخيس" بما أسماه بـ «المكتبة الكونية» التي تضم في رفوفها كل كتب العالم. نشير هنا إلى أن الموسوعة البريطانية الآن في علبة من الأقراص الممغنطة، بينما وضعها ورقيا يملأ حوائط ثلاث غرف كبيرة.. وقد نشر قريبا عن هيئة ثقافية بأبوظبى، قرصا واحدا يضم التراث الشعري العربي كله منذ الجاهلية حتى منتصف القرن الماضي، وبعشرة جنيهات فقط! 

كاتب من مصر
abnegm@gmail.com