عوار التعديلات الدستورية .. انقلاب على الثورة

صبري حافظ

سيذهب الشعب المصري بعد أيام للتصويت على التعديلات الدستورية التي أعدتها لجنة معيبة برئاسة المستشار طارق البشري المعروف باتجاهه الإسلامي الواضح، والتي كان فيها عضو بارز من جماعة الإخوان المسلمين، وآخر متعاطف معها. هي لجنة معيبة لأن ثلاثة من أعضائها الثمانية ينتمون فعليا أو فكريا لتيار التأسلم السياسي، أي بنسبة تقترب من الأربعين في المئة، وهو أمر أقل ما يقال فيه أنه معيب، إن لم يكن مريب. لأنه لم يكن باللجنة تمثيل للأقباط، ولا للمرأة ولا لأي تيار سياسي آخر، عدا التيار الإسلامي الذي استأثر برئاستها وبنصيب الأسد بين أعضائها. سيذهب الشعب المصري للتصويت على تعديلات أعدت، لمرارة المفارقة وفق جدول زمني حدده الرئيس المخلوع، وعلى دستور نظامه الفاسد الذي يركز السلطة كلها في يد الرئيس، والذي اسقطت الثورة شرعيته. لذلك أدعو الشعب المصري الثائر والذي خرج في المظاهرات المليونية التي اسقطت النظام الفاسد إلى رفض هذه التعديلات حماية للثورة، ووأدا لمخطط ضربها في مقتل، وهو لايزال في مهده.

صوتوا بلا كبيرة ومدوية:
لأن التصويت لرفض تلك التعديلات لايقل أهمية عن أي من المظاهرات المليونية التي خرجت للمطالبة بإسقاط النظام، بل هو مواصلة لتلك المظاهرات بشكل جديد يتلاءم مع مسيرة الثورة بعد تحقيق الخطوة الأولى من مشروعها، وهي إسقاط رأس النظام، وبعد أن أصبح عليها العمل بصيغ جديدة، غير صيغة المظاهرات المليونية، تتواصل بها مسيرتها نحو التحقق. لذلك أدعو الشعب المصري للخروج بنفس الزخم والعنفوان الثوري، في مظاهرة مليونية من نوع جديد، أي الخروج بالملايين للتصويت بلا كبيرة ومدوية لعوار تلك التعديلات الدستورية، وما تنطوي عليه من محاولة خبيثة لضرب الثورة في مقتل، أو سرقة انجازاتها لصالح جماعات التأسلم السياسي، وفلول النظام السابق التي تتجمع الآن وبشكل منظم للانقضاض على منجزاتها، وتقويض أو على الأقل تشتيت مسيرتها المظفرة. ومن يتابع الإعلام المصري يرى كيف عادت قيادات الحزب الوطني الرجيم للظهور في البرامج الإعلامية الشهيرة كي تقوم بعملية غسيل لسمعته السيئة وتاريخه المشين، وتبيعه للجماهير في صورته المعدلة، وتستعد به للانتخابات القادمة.

وأسوق هنا الأسباب التي استند عليها لأطلاق هذه الدعوة: وأولها وفي مقدمتها من الناحية المبدأية أن هذه التعديلات باعتراف رئيس لجنتها نفسه حينما بدأ في تسويقها للرأي العام في أحاديثه المطولة في الصحف أو في التليفزيون، لم تنهض على شرعية الثورة، وإنما على شرعية النظام القديم الساقط الذي كان قد أمر بإجرائها وحدد جدول تنفيذها. وإذا كانت الثورة قد أصرت منذ يومها الأولى وحتى الآن على هدفها الرئيسي وهو «إسقاط النظام»، فإن أول ما يعنيه اسقاط النظام هو إسقاط شرعيته القديمة كلها، وكل رموز تلك الشرعية الفاسدة، وأولها دستورها المهلهل المعيب. فأي دعوة لا تنطلق من شرعية الثورة وتؤكدها لابد من رفضها، وأبرز ما يميز هذه التعديلات أنها لاتنطلق من شرعية الثورة، بل تضربها في مقتل، لأنها مبينة على الدستور الذي ركز السلطة في يد الرئيس، وقنن نظام الفساد الذي أسقطته الثورة.

إن الدعوة لرفض هذه التعديلات من الناحية المبدأية لا تقتصر على منطلقها الذي لا يعترف بشرعية الثورة فحسب، وإنما أيضا على خريطة الطريق المضمرة فيها. لأن هذه التعديلات  تنطوي على خريطة طريق محددة تبدأ من التصويت عليها، ثم إجراء انتخابات لمجلسي الشعب والشورى، تعقبها انتخابات الرئاسة في فترة زمنية لا تتجاوز الستة أشهر. فالموافقة عليها تعني ضمنيا الموافقة على خريطة الطريق المضمرة فيها، والتي رسمت بدهاء مراوغ خبيث لتمكين جماعات التأسلم السياسي من الانقضاض على منجزات الثورة، والاستفادة منها لصالح أيديولوجياته المهترئة. فالقوة السياسية الوحيدة المنظمة تنظيما محكما، والمدعومة باستثمارات تبلغ مليارات الدولارات هي قوة منظمات التأسلم السياسي المختلفة، المدعومة بالنفط والوهابية، وعلى رأسها الإخوان المسلمين، والتي افرج مؤخرا عن مديرها المالي الذي كان معتقلا. وهي القوة الوحيدة التي مثلت في اللجنة المعيبة التي صدرت عنها تلك التعديلات وخريطة طريقها الخبيثة.

شرعية الثورة:
ولابد من حيث المبدأ أن ترفض الثورة المصرية الوليدة أي خريطة طريق لا تنطلق أساسا من شرعيتها الجديدة التي لابد من بلورتها في دستور جديد، ولا يمكن أبدا تأسيسها على دستور الشرعية الساقطة مهما أجريت عليه من تعديلات. لأن هذه التعديلات الدستورية تسعى حقيقة لإقامة نظام سياسي على نفس الأسس التي قام عليها النظام الساقط ودستوره الفاسد، ولكنه نظام يتيح هذه المرة لجماعات التأسلم السياسي المنظمة، وعلى رأسها الإخوان، أن يكون لها مكان بارز فيه، هذا فقط هو الفرق! وهو نظام أقل ما يقال فيه أنه نظام غير ديموقراطي،  يركز كل السلطات في يد الرئيس، ولا يتيح، حتى لو تمت كل الانتخابات فيه بنزاهة مطلقة، أي فرصة لإقامة دولة مدنية حرة. لهذا كان من الطبيعي أن يحتفي بها الإخوان، وأن يروجوا لها، فهم أبرز مصمميها، وأول من سيستفيد منها إذا لم يهزمها الشعب ويقضي على مؤامرتها وهي في مهدها. وليس صدفة أن التعديلات لم تلزم لا الرئيس الذي سينتخب، ولا مجلس الشعب بوضع دستور جديد ينهض على شرعية الثورة، وإنما جعلت الأمر اختياريا لهما، يمكن وبسهولة التملص منه.

هذا من حيث المبدأ، أما من حيث التفاصيل فحدث ولا حرج. فالشيطان كما يقولون يكمن في التفاصيل. وأبرز هذه التفاصيل وأكثرها دلالة هو المادة التي تطوعت اللجنة واختارت، لأهدافها المبيتة، تعديلها دون أن يطلب منها ذلك أحد. فالمواد التي طلب من اللجنة تعديلها لم تتضمن المادة (75) والتي تنص «يشترط فيمن ينتخب رئيسا للجمهورية أن يكون مصريا من أبوين مصريين، وأن يكون متمتعا بالحقوق المدنية والسياسية، وإلا تقل سنه عن اربعين سنة ميلادية». لكن اللجنة تطوعت وغيرتها إلى « يشترط فيمن ينتخب رئيسا للجمهورية أن يكون مصريا من ابوين مصريين‏، وان يكون متمتعا بحقوقه المدنية والسياسية‏، وألا يكون قد حمل أو أي من والديه جنسية دولة أخري‏، وألا يكون متزوجا من غير مصرية‏، وألا تقل سنة عن أربعين سنة ميلادية‏.‏»

إستبعادات مقصودة:
فلماذا تطوعت اللجنة، دون أن يطلب منها ذلك أحد أن تغير تلك المادة، وبتلك الصورة. أفند هذا الأمر هنا لأن خيارات اللجنة التطوعية تكشف عن أغراضها المضمرة. حيث يبدو أن اللجنة قد حافظت على منطوق المادة القديمة ولم تضف لها سوى جملتين مرتبكتين «ألا يكون قد حمل أو أي من والديه جنسية دولة أخري‏، وألا يكون متزوجا من غير مصرية‏» لكنهما يستبعدان في الوقت نفسه قطاعات كبيرة من الشعب المصري من مجرد الترشيح. حيث تستبعد الجملة الثانية نساء مصر كلهن، وهن أكثر من نصف تعداد سكانها. لأنها تشترط ألا يكون «متزوجا من غير مصرية» مما يعني أستبعاد أن يكون امرأة، أي أنه لابد أن يكون رجلا، مما يعني أنه نص غير دستوري. ونحن نعرف جميعا موقف الأخوان وجماعات التأسلم السياسي المختلفة من المرأة وحقوقها. وهذا الموقف من المرأة لايعبر بأي حال من الأحوال عن رؤية الثورة وتوجهاتها. فقد كان ميدان التحرير غاصا بالنساء طوال أيام الثورة، ولا حتى عن رؤية الغالبية العظمى من الشعب المصري. وإنما عن أيديولوجية الإخوان ضيقة الأفق التي تنهض على تحجيب المرأة، وتحجيب العقل معا. وهذا النص وحده كاف كي تخرج كل نساء مصر للتصويت لأسقاط تلك التعديلات مهما كانت تأويلات اللجنة المتهافتة لها فيما بعد.

فإذا ما انتقلنا إلى الجملة المرتبكة الأخرى، فسنجد أنها أشد خطرا، وأكثر إفصاحا عن أجندة المتأسلمين المضمرة. خاصة وأن المادة لا تتحدث عن رئيس الجمهورية، وإنما عمن له حق الترشح، لأن الأمر بعد الترشح متروك للشعب كله كي يبت فيه بإرادته، وعبر صناديق الاقتراع الحر. فلم تكتف تلك المادة التي تطوعت اللجنة بتعديلها من تلقاء نفسها دون ان يطلب منها ذلك أحد، بحرمان أكثر من نصف الشعب المصري من الترشيح، لكنها قررت حرمان شرائح أخرى يستشعر الإخوان الخطر من ترشيحهم. حيث أن منطوق هذه الجملة «ألا يكون قد حمل أو أي من والديه جنسية دولة أخري‏». وهل حمل أي مصري عمل في الخارج، وخاصة في البلاد المتقدمة، واكتسب بعمله وما دفعه من ضرائب فيها، حق حمل جنسية أخرى تمنحه حرية الحركة بين مجموعة البلدان التي عمل فيها، ومول خزانتها بضرائبه، ينتقص من أهليته؟ لماذا يسمح القانون المصري بازدواج الجنسية ثم تتطوع لجنة التعديلات بالانتقاص من حقوق من استفادوا من قانون مصري خالص؟ خاصة ونحن في زمن العولمة، وعمل أكثر من ثمانية ملايين مصري في الخارج، كان الأولى بها أن تنص على حق المصريين العاملين في الخارج في التصويت، لا على حرمان شرائح منهم من خدمة بلدهم، والتشكيك في مصريتهم.

أجندة خبيثة مضمرة
إن هذا التعديل ينطوي بوضوح على أجندة إخوانية خفية وخبيثة. هل المقصود هو استبعاد أسماء مثل أحمد زويل والبرادعي يتخوف الإخوان من علمانيتهما؟ هل المقصود أيضا تحديد ألا يكون قبطيا؟ وثمة قناعة شائعة لدى الإخوان، الذين إذا خرجوا للعمل بالخارج فإنهم يعملون عادة في بلاد النفط والوهابية التي لا تتيح لهم مهما طال بهم الأمد الحصول على جنسيتها لو أرادو. ثمة قناعة بأن غيرهم من العلمانيين وأصحاب الكفاءات، ولا تنسى القبط، يخرجون للعمل في الغرب ويحصلون على جنسيات غربية. لذلك يريد الإخوان استبعادهم. بل واستبعاد أبنائهم من بعدهم أيضا. لأنهم ضد كل ما هو غربي، حتى ولو كان مجرد وثيقة إضافية اكتسبها المصري بماله وعرقة وتيسر له حقوق العمل والحركة في بلد آخر. فالإخوان وغيرهم من المتأسلمين إذا ما خرجوا للعمل يعملون في دول النفط والوهابية، ويتناسون عمدا تحالفها غير المقدس مع الصهيونية، فكلاهما، الصهيونية ودول النفط والوهابية يعملان تحت قيادة المخطط الصهيوأميركي الذي لا يريد لمصر أن تنهض ولا أن يكون بها ديموقراطية حقيقية. ولو طبقنا هذا الشرط الغريب على غيرنا من الأمم، سنجد أن رؤساء آخرين لدول متقدمة لن يتاح لهم الترشح وفقا لتلك المادة المعيبة. فساركوزي ليس فرنسي الأبوين، وأوباما ليس أمريكي الأبوين، ومع هذا لم يقلل هذا من فرنسية الأول أو أمريكية الثاني.

وما هذا النص الغريب حول ألا يكون قد تزوج من غير مصرية والذي لم يكلف خاطره استثناء العربية. فكيف يمكن أن يمنع المتزوج من غير مصرية، حتى لو كانت عربية، من مجرد الترشح، بينما قضت المحكمة الدستورية العليا من قبل بعدم دستورية منع القضاة المتزوجين من غير مصرية من القضاء. كيف يكون من حق شخص تولي منصب القضاء بين الناس، وليس من حقه الترشح لرئاسة الجمهورية، وترك الأمر للشعب كي يبت فيه بإرادته. هذا أمر آخر كاشف عن الأجندة الإخوانية المضمرة. إلى حد أن البعض تندر بماذا يكون الحكم لو طلقها، أم أنهم سيصوبونها كي تصبح ألا يكون، ولم يسبق له أن كما في الجملة السابقة. هذه تفاصيل تطوع بها الإخوان، وليس موضعها الدستور وإنما القوانين التي يمكن تغييرها فيما بعد. لكن التطوع في حد ذاته كاشف ومعيب معا.

خريطة طريق فاسدة:
فإذا ما انتقلنا إلى المادة 76 وهي أولى المواد التي طلب من اللجنة تعديلها، والتي دار حولها لغط طويل حينما صممها ترزية القوانين السفلة في النظام السابق، وكان الجميع يتندرون بها بسبب طولها، حيث تجاوزت سبعمئة كلمة، ومتوسط طول المادة العادية في الدستور بين خمس كلمات وثلاثين كلمه، سنجد أنها في صورتها المعدلة تقارب الثلاثمئة كلمة هي الأخرى، وتستحق أن تكون موضوعا جديدا للتندر. فإذا كان العوار قد انصب في الماضي على طول المادة 76 وتفاصيلها الكثيرة، فقد حافظت التعديلات على هذا العوار، إذ ظلت المادة المعدلة طويلة ومرتبكة معا! ويجيء هذا العوار أيضا من أنها تضمر اجندة إخوانية خبيثة. فهي مصاغة بطريقة تحتم أن تتم الانتخابات البرلمانية بسرعة، كي تتم الانتخابات الرئاسية من بعدها. وإلا كيف سيرشح أعضاء البرلمان مرشحي الرئاسة، وشرطان من شروط الترشيح لها مربوطان بوجود مجلس شعب ومجلس شورى بها أحزاب لها حق ترشيح الرئيس؟ أي أنها ليست حسب ما يفترضه منطوقها مادة لتحديد شروط وإجراءات الترشح للرئاسة، ولكنها معمولة أساسا لتحديد خريطة الطريق المضمرة للمرحة الانتقالية، بصورة يكون الإخوان هم المستفيد الأول منها.

فما هي التنظيمات الجاهزة الآن في الساحة للتنافس على انتخابات برلمانية أو حتى رئاسية في غضون شهرين من إقرار تلك التعديلات المعيبة؟ الجواب واضح، ويعرفه الشعب المصري جميعا! وهما الأخوان وفلول الحزب الوطني السابق الذي يشاهد الجميع محاولاته المحمومة لتجميع صفوفه وغسيل سمعته. فلم يلغَ بعد قانون الطوارئ، ولم تطلق بعد حرية تأسيس الأحزاب، ولم يتح لمن نظموا تلك الثورة الجبارة، وقاموا بها تكوين احزاب تعبر عنهم وتبلور رؤاهم. فكيف ستخوض هذه القوى انتخابات حرة، وهي لم تنظم بعد، أمام كتلتين كبيرتين هما الأخوان والحزب الوطني؟ وأين ستكون الديموقراطية، والجميع يعرف موقف الإخوان الحقيقي من الديموقراطية مهما تشدقوا بغير ذلك، في انتخابات تجرى بسرعة وتأتي بمجلسي شعب وشورى يحكمان مصر لخمس سنوات قادمة، كافية لمحو كل ما حققته الثورة أو رغبت في تحقيقه. وليسا ملتزمين بأي حال من الأحوال بوضع دستور جديد.

أؤكد هنا أن المضمر الخبيث في هذه المادة في صورتها المعدلة والمعيبة معا، هو أن تتم انتخابات على عجل وقبل أن تنظم الثورة صفوفها أو تفرز أحزابها. كي تفرز شرعية جديدة غير شرعية الثورة بالقطع. سواء أسفر الجدل الذي تديره اللجنة بمهارة الآن، ذرا للرماد في العيون، عن أي من الانتخابات تتم أولا: انتخابات رئاسية أم انتخابات برلمانية، المهم أن تتم على عجل وبأي ترتيب. فحتى لو أساء البعض تأويل خريطة الطريق التي تفترض أن تتم الانتخابات البرلمانية أولا، وأرادوا قلب أولوياتها وتنظيم انتخابات الرئاسة قبل انتخابات مجلسي الشعب والشورى. فلابد وفقا لهذه المادة أن تجرى انتخابات سواء أكانت برلمانية أو رئاسية بعد شهر أو شهرين من أقرار تلك التعديلات وبسرعة! لذلك وضعت اللجنة شرط الخمسة عشر محافظة، فأي مرشح لا ترضى عنه تلك الاحزاب المنظمة والتي لها ممثلين بالفعل في أكثر من 15 محافظة لن يستطيع الترشح. وهو شرط يستهدف شباب الثورة الذين قد يستطيعون تجميع الثلاثين ألف توقيع أو ترشيح على «الفيسبوك» مثلا، ولكن قد لا تكون التوقيعات من 15 محافظة لأن طبيعة تنظيمهم مغايرة لطبيعة تنظيمات الإخوان أو الحزب الوطني بشعبهما المنتشرة في أكثر من 15 محافظة بالقطع.

أما المادة الوحيدة في التعديلات التي لا خلاف عليها فهي المادة 77 التي قصرت مدة الرئاسة على أربع سنوات ومدتين، ولهذا جاءت صياغتها أيضا دستورية، قصيرة ومركزة كما هي سمة المواد الدستورية. وكذلك وإلى حد ما المادة 88 وإن كانت لاتزال طويلة وبها تفاصيل ليس موضعها الدستور، ويمكن الاعتراض على كثير مما جاء بها، ولكني سأترك هذا الأمر جانبا فقد خاض فيه كثير من القانونيين. أما المادة 139 والتي تنص على أن «يعين رئيس الجمهورية‏، خلال ستين يوما علي الأكثر من مباشرته مهام منصبه‏، نائبا له أو أكثر ويحدد اختصاصاته، فإذا اقتضت الحال إعفاءه من منصبه وجب أن يعين غيره‏.‏ وتسري الشروط الواجب توافرها في رئيس الجمهورية والقواعد المنظمة لمساءلته علي نواب رئيس الجمهورية‏.» فهي أيضا كبقية التعديلات يشوبها العوار. إذ يبدو من منطوقها أنها تريد أن تمنع ما تمتع به الرئيس المخلوع من حرية في أن يعين أو لايعين نائبا، وتأجيل ذلك حتى يتأهل ابنه للمنصب. لكنها في جوهرها تحافظ على سلطات الرئيس المطلقة في اختيار من سيحل محله لو أصابه مكروه، ويحكم البلاد دون أن يكون الشعب قد اختاره. فلماذا نترك أمر شخص يمكن أن يحكم مصر لأهواء شخص انتخب لمدة أربع سنوات!؟ بدلا من أن تجري تغييرا جذريا يحتم على المرشح الرئاسي اختيار نائب ووضعه على ورقة التصويت، كما هو الحال في النظام الأمريكي الذي أخذت المادة 77 به في تحديد المدة وهي أربع سنوات ودورتين. فهذا النظام يشرك الشعب في اختيار نائب الرئيس، ويجعله جزءا من العملية الديموقراطية، وليس وقفا على سلطة الرئيس المطلقة. وكل سلطة مطلقة تفتح إطلاقيتها أبواب الفساد على مصراعيه.

أنصاف الثورات مقابر للشعوب:
أما التعديلات التي اجرتها اللجنة على المادة ‏189 ‏ فحدث عنها ولا حرج. لأنها لم تلزم لا رئيس الجمهورية المنتخب، ولا أعضاء مجلسي الشعب والشورى، الذي أحتفظت فيه بصلاحية الرئيس في تعيين ثلث أعضائه (سيكون ثلثه من الإخوان قطعا لو كان الرئيس إخوانيا) بوضع دستور جديد ينطلق من شرعية الثورة ويقننها. فإذا ما اختار أي منهما وضع دستور جديد، فإن المادة لا تطلب أن تنتخب الجمعية التأسيسية التي ستضعه، وإنما يتم انتخابها من قبل أعضاء مجلسي الشعب والشورى: حيث تنص على أن «يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسي شعب وشوري تاليين لإعلان نتيجة الاستفتاء علي تعديل الدستور لاختيار الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد مشروع الدستور الجديد خلال ستة أشهر من إنتخابهم‏». والواقع أن عوار هذه المادة قدمت لنا شيئا غريبا، لم تعرفه مصر إلا في أسوأ عهودها، وهو مفهوم انتخابات الدرجة الثانية، وهو أمر لم تعرفه الدساتير المصرية إلا في دستور 1930 المرفوض شعبيا والساقط سياسيا، الدستور الذي عرف باسم دستور اسماعيل صدقي، والذي يعرف طارق البشري أمره وحقيقة موقف المصريين منه أكثر مني! فلماذا اختار تلك الاستراتيجية الغريبة، والتي سبق للشعب المصري أن رفضها بالأجماع قبل ثمانين عاما. هذا فضلا عن أن عوار هذه المادة لم يتوقف عند هذا الأمر الغريب، ولكن أيضا لأنها لم تحسم أمر وضع دستور جديدة وجعلته مرهونا بطلب من الرئيس أو من نصف أعضاء مجلس الشعب! أي أنه لو لم يحدث أي منهما لحكمت مصر بهذا الدستور المهلهل والساقط لأمد غير معلوم.

والواقع أنني كنت أحسب أن طارق البشري سيقدم مصلحة الوطن على قناعاته الإخوانية، ولكنه قدم قناعاته تلك على مصلحة الوطن! بل استخدمها ببراعة في ضرب ثورته والانقلاب عليها. إن دوافع هذه التعديلات مريية وهذا أقل ما يمكن قوله فيها! ولما كان من المستحيل التصويت على مادة مادة من تلك التعديلات، فلابد من رفضها جملة وتفصيلا، وبلا واضحة وصريحة وقوية. فحتى الدستور الجديد الذي يؤسس لشرعية الثورة، لم تطالب به هذه التعديلات بوضوح، بل ذكرته فقط للتوهيم، ولم تفرضه بسلطة تصويت الشعب على تلك التعديلات، بل تركته رهنا بإرادة من ستأتي بهم خريطة الطريق الفاسدة تلك، من رئيس أو مجلس شعب. إن رفض هذه التعديلا هو أيضا رفض لخريطة الطريق المضمرة فيها. ومطالبة بوضع خريطة طريق جديدة تنطلق من شرعية الثورة وترسخها. خريطة تبدأ بانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستورا يبلور شرعية الثورة الجديدة، ويقضي على تركيز السلطة في يد الرئيس، ويفصل بين السلطات بشكل واضح، ويضع خريطة طريق بديلها تبني مؤسساتها وتفرض تداول السلطة وتقننه، وتحمي إنجازات الثورة التي عمدها الثوار بالدم. فبدون ذلك ستقع ثمار الثورة في أيدي أعدائها. وستصبح نصف ثورة: والمثل الصيني يقول «إن أنصاف الثورات مقابر للشعوب». لذلك لابد أن يخرج الشعب المصري بزخمه المليوني ليحافظ على ثورته، وليهزم كل من يحاولون تحويلها إلى مقبرة للشعب ولطموحاته الكبيرة والمشروعة في مستقبل أفضل .. حر وديموقراطي.