«أم القيح»

قاسم مسعد عليوة

وجه من الثورة: حين يبتسمُ القتيلُ لقاتلهِ
محمود خيرالله

تخفي هذه الابتسامة سخرية قديمةً جداً، ولدت غالباً في قرون التخلف والاستبداد العربيين، وتناسلت بما يكفي بين رعايا الدولة المصرية، إلى أن وصلتنا هكذا، مُدهشةً إلى هذا الحد، ومُخيفةً. ليس غريباً أن يكون صاحبُ هذه الابتسامة شاباً مات تحت سنابك الخيول، التي يقتلُ بها العسكرُ دائماً جموعَ المصريين، هناك في الزمن القديم، حيث التاريخ لم يستطع أبداً أن يُقنع الطغاة، كأنَّهم يكرهون رأيه في انحطاطهم.

تُخفي ابتسامة هذا الشهيد المصري لوعةً من نوع غريب، أن تكون ميتاً لكنك تدرك أنك تصنعُ التاريخ، أن تبتسم للمصور الذي سيخلد ثورتك، أن تمضي إلى العالم الآخر رافعاً راية الثورة على وجهك، كأنها ابتسامة عابرة، أن تكون شهيداً وتترك ابتسامتك لكي تحرِّر العالم من دون إرادة منك، أن تقتلك الشرطةُ بالرصاص الحي خير عند المصريين ألف مرة من الانتحار حرقاً، مثلما فعل الشهيد التونسي محمد البوعزيزي، نهرُ النيل أطعمهم عذوبة الحياة غالباً.
تخفي هذه الابتسامة بالأحرى نمطاً نادراً من التعالي على ما يحدث كله، أغلب الذين استُشهدوا في الثورات العربية الوليدة من هؤلاء الذين لم يمروا يوماً على السياسة، قراءة أو عملاً أو تنظيماً، لقد كانت الثورة بالنسبة إليهم حلاً من الحلول، نوعاً عفوياً من الوجود، طريقة في التعبير عن الذات، شاءت الأقدارُ وحدها أن تأتيهم في شرخ الشباب.

شهداء الثورة المصرية على الأقل خليطٌ هائلٌ من البشر، عازف جيتار كان لا يريد من الدنيا إلا أن تسمعَ صوته، فأسمعته صوت رصاصها الحي في مفارق الطرق، عاملٌ باليومية في شركات قناة السويس، حرمته الشركات العابرة للقارات من أجر عادل، محامون وعاطلون عن العمل، وتلك ابتسامة واحدٍ منهم، ضعيفةٌ وغير مُهذبة، أغلب شهداء الثورة من هؤلاء الذين تتلخص أحلام الواحد منهم دائماً، في أن يقرأ ويدخن وربما يحب، أشعر أن صاحب هذا الوجه المتأنق كان واحداً من هؤلاء.

وجهُهُ ـ لا ابتسامتُه فقط ـ يحمل كل تناقضات هذه الثورة ومزاياها، قتيل لكنه يستطيع أن يضحك في وجه قاتله، وجهٌ حليق، حتى كأنه سوَّى لحيته بآخر شفرةٍ في بيته، خصيصاً لالتقاط هذه الصورة، كان من المفروض ألا تحتوي صورة هذا الوجه على بقايا دم مُتخثِّر تحت الأنف والأذنين، وألا تنام وديعة في مستشفى 'الهلال الأحمر' منذ عدة أيام دون أن يعثرَ عليها أحد، وجه كهذا كان من المفروض أن تزيِّنه نظرةٌ خلابةٌ لو كان صاحبه حياً يُرزق، على الرغم من أنه حين مات لم يكن على الأقل يملك سوى الرضا، الذي أطلق ابتسامة ساخرة كهذه ضد غباء كل الطُغاة في العالم.

شاب لا يعثر على ذويه، كأنَّه كان يعرف حين مات أن أحداً لن يسأل عنه، ويعرف أنه حين يموت لن يتبرع أحد للاعتراف به، لأنه لم يكن ابناً سوى لهذه الثورة، التي أخرجته من البيت فقرر ألا يعود، لقد صار حراً لآخر مرة، وإلى الأبد. ابتسامته لا تشعرك أبداً أن رصاصة صغيرة دخلت صدره يوم 28 كانون الثاني (يناير) الماضي، وانتزعها الأطباء بعد وصوله إلى المستشفى، لا تشعرك أنها تعليق رزين على ما يتواتر من أنباء الآن حول خروج الملايين من الدولارات عشية الثورة من أرض مصر، قيل إن الحقائب تمشي في هذه اللحظة بالتحديد، كظل اللصوص، ابتسامة لا تصدق معها هل مات في ثورة أم أخذته نشوة إلى النوم وهو يحلم بعالم جميل؟ لا تشعرك ابتسامته أنه لم يذق طعمَ الحياة مرة، وأنه حتى لم يأكل 'من صبيحة ربنا'.
لا اسم له حتى هذه اللحظة، أطباء المستشفى استغاثوا بوسائل الإعلام لكي تصوَّره، ربما عثر عليه ذووه، وتخلصت طرقات المشرحة من قسوة هذه الابتسامة، هناك قرب ميدان رمسيس، حيث ترقد أجمل ابتسامة قتيلٍ في العالم.