بكاره العالم وبكاره المعرفة في عالم البساطي الروائي

يختلط المكان بالتشكيل الشعري في «صخب البحيرة«

محمد سمير عبدالسلام

يظل نتاج المبدع المصري الراحل محمد البساطي مؤثرا، وموحيا، ومولدا لتيمات فلسفية، وفنية متجددة في الأجيال الجديدة من الكتاب، وقريبا من قلوب جمهور الأدب بما يحويه من دلالات إنسانية، وتعاطف حميم مع الشخصيات الهامشية التي تكتسب حضوراً كونياً، وجمالياً مدهشاً في أعماله.
تميز المشروع الروائي للبساطي بوهج الرغبة في الكشف عن الانفعالات العميقة داخل الذات التي تواجه المعاناة في سياقات اجتماعية قهرية متنوعة، وتناول عوالم الريف، والسجن، والمواقف اليومية الصغيرة بصورة استعارية كثيفة، من دون أن يتخلى عن البساطة، وتتواتر لديه الأسئلة الفكرية؛ لنصل دوماً إلى إجابات جمالية محتملة في حوارات شخصياته القصيرة الموحية، وهو حريص على مزج المعاناة بالأخيلة البهيجة الصاخبة للحياة في ذاكرة الشخوص، وعوالمهم الداخلية، كما ارتكز مشروعه الفني على كثافة اللغة، وبساطتها العميقة بحيث صارت الإيماءة التي يختلط فيها الواقع بالمجاز تيمة فنية رئيسية في مجمل أعماله، أما الشخصية فدائماً ما تقبل التحول انطلاقاً من تناقضاتها الداخلية، وثراء هويتها، أو الذوبان الشعري في الأشياء، والوقائع، والذكريات الفريدة، و كثيراً ما يستعيد راوي البساطي البكارة الأولى التصويرية لزمن الحدث، ويجددها في صيرورة للسرد تكثف الوحدات الصغيرة، وتبعث الحياة مرة أخرى في المتواليات القصصية للنص؛ ومن ثم تتشكل الفجوات الزمنية؛ فتنشأ العلاقات التأويلية بين الشخوص، والأشياء، والعوالم المختلفة.
ويختلط المكان عند البساطي بالتشكيل الشعري الكثيف للعلامات النصية؛ مما يمنحه حضوراً إنسانياً متعالياً في وعي، ولاوعي الشخوص؛ إذ يختلط فيه الحلم بالواقع، والمنظور النسبي الذاتي للراوي، وشخوصه.
ويشكل البساطي رؤيته الاجتماعية للعالم من خلال إعلاء نصوصه من العنصر الإنساني المجرد على الأبنية الثقافية المهيمنة على شخوصه؛ فنراهم ينزعون إلى التحول باتجاه المستويات الكونية، ومشاعر حب الحياة المولدة من تفاعل الذاكرة بالوقائع اليومية البسيطة.
إن إيماءات البساطي العميقة مازالت تجدد الأصل الجمالي المتعالي، والمختلف الكامن في الشخصيات الفنية التي تتطلع إلى الخلاص من خلال لقاء العوالم الإبداعية بالواقع.
ويمكننا تلمس بعض التيمات الجمالية في عمله الإشكالي المغاير صخب البحيرة؛ وهي:

أولاً: ديناميكية الحضور، والغياب:
تولد الحياة، وتتجدّد بين الحضور، والغياب في (صخب البحيرة)؛ إذ تشكل لحظة الحضور رغبة لاواعية في الامتداد الدائري للجمال، بينما ينفتح الغياب على ما يتجاوزه من علاقات روحية، وطيفية مقاومة لبنية الموت؛ وكأننا أمام تضاعف لامركزي للشخوص، والأشياء خارج أي بنية اختزالية لمفهومي الموت، والحياة معاً.
وأرى أن هذه التيمة المتواترة في تاريخ الفن ـ بأشكال مختلفة ـ تجسّد حدساً دينياً غير مباشر، أو رغبة أصيلة في الخلود انطلاقاً من الاندماج الفريد بين الإنسان، والعوالم الكونية، والمعرفية، والاجتماعية المختلفة.
مزج البساطي بين الحضور، والغياب، والشخصيات، والأشياء، والأماكن انطلاقاً من بكارة اكتشاف تلك السيمفونية الخفية التي تتصل فيها العلامات، من دون مركزية، أو حدود بنائية مغلقة؛ فالعجوز الوحيد يمتدّ في تواتر الظواهر الكونية، والنصية، ودلالاتها الثقافية، بينما يمتزج الجانب الجمالي بالأبنية الاجتماعية في جدلية مفتوحة توحي بتجدد كنوز البحيرة، وأطياف الرجل العجوز في الواقع اليومي، وتوحي للمتلقي بأصالة الجمال، وتكويناته التي تتجاوز النهايات الحاسمة.
لقد برز الصندوق الموسيقي العجيب الذي قذفت به النوة في زمن تال لوجود العجوز، ولكنه امتد بحضور غير مرئي في العجوز نفسه، بل قد يستبدل العجوز وجود الصندوق، فتصبح همهماته غير المفهومة هي الصوت الآخر، أو الحياة الأخرى للصندوق؛ فالحالات الإنسانية في الرواية، لا يمكن فصلها عن الموضوع الخارجي؛ إذ يحتل كل منها الآخر، أو يعيد تشكيله في النص.
إن الكتابة في (صخب البحيرة) تحور (السرد)، وتنزوي خلف منطقيته الزمكانية، وتدفعه إلى أن يشكل عدداً لا نهائياً من الصناديق، أو البحيرات، والنوات، ورجال البحيرة الغرباء؛ إنها ليست قوة خارج السرد، تدفعه، ولكنها طاقة تكمن في السرد نفسه حين يلتحم بالكتابة.
ومثلما يؤجل المدلول المتعالي ـ دائماً ـ للصندوق، فإن السرد أيضاً يرى كآثار لإبداع الكتابة وحياتها الخاصة.
إن مصائر الهدم التي صاحبت شخصيات (صخب البحيرة)، قد لازمتها حياة أخرى من داخلها؛ لتمتد بالصورة الأولى في تجسّد الثانية أو العكس.
لقد امتد الصندوق في جمعة، على هيئة (توهم فلسفي وشعري) قد أعيد تشكيله في زمان ومكان آخرين، وهكذا عند تحول (كراوية وعفيفي) غير المبرر إلى أهالي البحيرة، فكانا تمثيلا آخر للصندوق أو لجمعة.
أما (البحيرة) فكانت تكويناتها الفريدة، مصدراً لتفرد العجوز؛ ومن ثم ارتباطه الدائم بها، ولكنه في سياق آخر سيكون هو بديلا للبحيرة، وصاحب السلالة التي تروح وتختفي، ولكنها باقية وتحفظ للبحيرة خصوصيتها، وكأن طيف العجوز يسكن البحيرة نفسها، وينتج أشباهه من القبائل التي تسكنها، فضلا عن أشيائها الفريدة الملائمة لوعيه التاريخي.
إن العجوز ينتج البحيرة بأشكال مختلفة، ويضع بصماتها في آثارها المتكررة؛ مثل جمعة، الصندوق، عفيفي، جماعاتها، فهو يقصي الأصل إلى الهامش، ويحتله في دوال مختلفة أثناء الكتابة.
لقد شكلت (البحيرة) الحياة الأخرى للصندوق، من خلال منظومتها الموسيقية المتمثلة في الأمواج والأمطار والبرق معاً، بينما ظل احتمال الموت قائماً في سكون (البحيرة) وصوتها الضعيف؛ إذ أنتجت بديلاً آخر لجمعة يتحدث بصوته، ويشبهه ويقترن موته به، هذا الآخر كان (وعي) جمعة الذي لا يعلم شيئاً عن وجوده، أو روحه المبدعة التي تشبه النيشان، والسيف والصندوق؛ فكل هذه العلامـات لا تكسب (جمعة) هويـة اجتماعيـة، كما هو في الروايـة التقليـدية. إنها تضعه في سياقات متناقضة مثل؛ المحارب أو الملاك أو المنتحر والمقتول أو الملك. كلها احتمالات لمعنى مؤجل هو الإبداع المستمر.
لقد أنطق (السارد) العجوز من حيث أراد أن يسكته بـ(الموت). وكما كان (المحو) بديلاً عن آثار العجوز، فقد حل العجوز، كطيف محل عوامل الهدم، فقاوم الرياح بحضوره في بقايا (العشة) و(الصندوق).
يقول: "في الشتاء عصفت الريح بالعشة، وقذفت بألواح الصاج، بعيدة ظلت أعمدته ـ فلقات جذوع النخل الأربع ـ تقاوم في عناد، كان قد حفر لها عميقا".
الأثر هنا، وهو (العمود)، قد ازدوج فيه المحو والاستقرار، وكأن الموت يخلف حياته في الأثر، والآثار الأخرى المحتملة، وهذه هي النقطة التي تتداخل عندها مفاهيم الكتابة.
إن الأمر لم يقف عند حدود احتمالات الحياة في آثار العجوز، ولكن السارد سيتورط كثيراً في لعبة الحضور المتجدد (للنوة) و(أهالي) البحيرة، وكأنه يصل بسيمفونية الحياة إلى ذروتها. إن العجوز لينتشر كالأميبا، من دونما أي تحديد مركزي للزمكانية.
لقد وضعت التداخلات الزمكانية العجوز، والسارد في مسرح النوة نفسه؛ فمثلما كان جمعة يرقب التشكيلات على الحجر، ولا يفهمها، كان السارد أيضاً يصف، ولا يعلق ولا يدّعي الفهم؛ فالعجوز قد يكون هو مصدر هذه الأشياء الفريدة، وقد يكون ممثلاً لشيخوخة جمعة وأهالي البحيرة في آن واحد.
لقد أضمر السارد ازدواجية الموت والحياة، الحضور والغياب معاً؛ لأنه يوثق وقائع، ولكن امتداد العجوز، قد أعاد الحياة لعلاماته الأولى؛ فالرفات يمثل أثر العجوز أو توقيعه الأخير على البحيرة، كما يصوّر السارد؛ كما يتجلى في اختلاط الموت بالحياة المتجددة في المستقبل القريب مع حضور أهالي البحيرة واختفائهم.

ثانياً: التشكيل المتجدد للظواهر الفريدة:
يضع محمد البساطي المتلقي أمام البروز الإبداعي الفريد لتكوينات العالم؛ وكأنه يشير إلى أن البزوغ الجمالي المدهش للظواهر هو الأصل المحفز للرؤى الفلسفية، أو الوجودية؛ ومن ثم تتضاعف الدلالات غير المرئية للأشياء، والشخصيات مع ارتباطها بالتراث الديني، والاجتماعي.
إنه يبحث عن بدايات التكوين في استشرافه لسيادة السياق الجمالي، ومدى تجاوزه للأبنية المادية، والاجتماعية.
هل ينتصر السياق الإبداعي على الموت في وعي الراوي؟
أم أنه يضعنا أمام بداية متجددة، تبحث دوماً عن جمال أبدي، أو توافقية تكوينية لهوية تقبل التفرد، والاختلاف؟
لقد أعاد البساطي تمثيل البدايات بواسطة (صياد) بلا تاريخ؛ فحضوره كحضور البحيرة نفسه. هو الأولية نفسها الممنوحة للبحيرة؛ ومثلما غاب أصل (المكان) أو (البحيرة) عن أولية الصياغة السردية، فقد أصبحت النقطة الزمنية الأولى للسرد غائبة عن معرفة المؤلف والسارد معاً؛ كي يمنح التكوينات الفريدة حضوراً يحدث دهشة مستمرة في الوعي:
(1)
 تبدأ حياة جمعة مع أهالي الضاحية، وتقتصر علاقته بالنوة على جمع بقاياها ومخلفاتها من البحيرة، مثل معظم الأهالي، ثم تتحول حياته فجأة مع تأمله للحجر، والسيف والصندوق إلى موضوع جمالي يزدوج بهذه الأشياء الفريدة.
إن جمعة هنا أكثر التصاقاً بصمت الفن، ومادته الحضارية المجسدة؛ ولذلك يمكن اعتباره أصلاً ترددياً لحياة العجوز التأملية، فهو نقطة لبدء الحكاية من وجهة نظر القارئ.
(2) قد تكون آخر سطور (صخب البحيرة) هي نقطة البدء، لأنها نقطة تصادم حضاري بين صلابة المباني الجديدة، وطبيعة البحيرة الإبداعية. هذا التصادم قد أفرز ثورة إبداعية للبحيرة تتجاوز المجتمع الحديث المجاور لها؛ فهي تحمل دلالة التكرار الأول، غير المسبوق لعلاماتها، كما تحمل إشارات سحرية لأهالي المدن والضاحية.

لقد تفوق النزوع نحو الإبداع على نظيره فبدأت الرواية بصياد غريب الأطوار، ودائم الحياة في علاماته الأخرى.  للنوة ـ فضلاً عن تجدّدها في الزمن ـ حضور مكاني، فهي تسهم في عملية استبدال كل من (عفيفي، وكراوية) بأشباح الماضي، والمستقبل؛ فهما التوقيع الأخير والصاخب للصندوق، وهما الصور المحتملة من سلالات أهالي البحيرة المتجددة؛ فقد نقرأ من خلال تأملاتهما صوت الصندوق، كما نستدلّ على وجود أهالي البحيرة بهما.
ويصف الرواة "بإعجاب عدوهم (بصحبة أهالي البحيرة) السريع واختفائهم الخاطف، ومهاراتهم في تحريك الشوم، وكانوا ينتظرونهم من نوة لأخرى"، إنهما يتحولان بفعل احتمالات الصندوق اللاوعية بداخل كل منهما، كما أنهما يحملان أشباح المستقبل، والسلالات الجديدة المنتجة بفعل الحضور المختلف، للنوة.
لقد ألغي الوجود الإبداعي للعلامات في الرواية، الفواصل بين الإدراك وموضوعه، ومن ثم أصبح السارد موضوعاً للإدراك في بدائله الأخرى؛ وهي شخصياته حال ممارسة المعرفة ببكارة متجدّدة دون سيطرة أو تأويل.
وأعني ببكارة المعرفة، إعادة الاكتشاف للتاريخ نفسه، الحياة السابقة نفسها كدوال إبداعية، مدلولها مؤجل؛ فسمكة (البياض) معروفة لمن يمارس الصيد، أو التجارة مثل عفيفي وكراوية وأهالي البحيرة، ولكن المتغير هنا هو الإدراك الذي يمتزج بالموضوع الإبداعي، فيعجز عن تأويله وفق المرجعيات التقليدية:
"
ـ يضحك عليك من يقول إنه يفهم كل شيء.
ـ طيب والحل؟
ـ أي حل؟ الدنيا كلها أسرار".
السؤال هنا ليس رغبة في المعرفة الفلسفية؛ لأنه يجسد الدوال أو الأشياء في بروزها نفسه، يجسد الوعي نفسه، المعرفة بوصفها جمالاً مادياً متغيراً حينئذ يبدو (السارد) وكأنه ينقل دهشته بشكل دائم في الآخر.
ومن الظواهر الفريدة المتجددة في النص:
أولاً: البحيرة: مفردة تبرز في النص كتشكيل مكاني يحدد هويتها وهي أيضاً العلامة المتغيرة في التكوينات الجغرافية المتوترة، كما أنها موقع فارغ للعجوز، إنها ذاكرته. البحيرة إذن تقاوم ذاتها المفردة، لقد حملت الصوت الإبداعي للصندوق زمناً ثم امتدت به في الواقع، وكأن مكانها الفعلي هو وعي شخصيات البحيرة هي تاريخ البشر، وأصوات الحياة والموت في آن واحد.
ثانياً: الصياد العجوز: دال يمتد في غيره، يقاوم هوية الصياد بالصمت والتأمل، واقتناص المعرفة، وعند موته نجد توقيعه في العشة، ومقاول الأنفار، والصندوق الذي اكتسب روحاً، وحضوراً جديداً، وفي أهالي البحيرة.
ثالثا: النوة: إنها بكارة العالم المتولد من موتها المتجدد، هي هذا التكاثر من البشر والأشياء الضرورية والجمالية، هي ظهور واختفاء الصندوق، ومن ثم حضور جمعة وغيابه.
رابعاً: الصندوق: هو طيف النص والكتابة، الذي يمتد في سائر العلامات دون هوية. الصندوق بديل النص الجمالي، وبديل دواله المادية المتغيرة، إنه جمع في حد ذاته، هو القداسة، ومادية الحضارة، وتجاوز هذه المادية. إنه شبح الإنسان الأقوى، والمستلب لوجود الإنسان نفسه، ولكنه أيضاً يمثل حياته الأخرى.

ثالثا: بين التخييل النصي، والأبنية الاجتماعية:
ما بين تكوين (المجتمع) والعلاقات الجمالية بين عناصر الكتابة، مسافة غير مرئية في (صخب البحيرة)؛ فكلما أراد السارد أن يتحدث عن المجموع، انفلت هذا المجموع إلى آثار جمالية، وإبداعية متناثرة وغير موحدة.
لقد أكد (البساطي) في حديثه عن الرواية إمكانات التحقق الواقعية لجماعات تترك اليابسة، وتستقر عند البحيرة، كما يرى أن شخصية جمعة واقعية تماماً، لأنها في داخل كل منا.
ولا يدل خطاب (المؤلف) على إنكار أن يكون الواقع سحرياً؛ فهو يولج السحر في بنية (الواقع) من داخل تأسيسه للواقع نفسه؛ فواقعية (جمعة)، تماثل (الصوت الأسطوري) للصندوق، في وعي أهالي الضاحية؛ فكل منهما له حضور مغاير، وأثر في المجتمع.
إن (جماعات البحيرة) لها حضور فعلي في السرد، وتحريك الأحداث، ولذلك فهي تقع ضمن صيرورة السرد، من دون مبرر لوجودها على هذه الشاكلة؛ ولذلك يمكن قراءتها أيضاً كجماعات متخيلة، انطلاقاً من عمق الأسطورة في وعينا الواقعي، وهي تقترب من التجانس، أو تكوين المركز من حيث العادات وبنية الجسد واللغة.
وتحدد الرواية سماتهم في نحافة الجسد والحركة السريعة، وإجادة القنص، وعري بعضهم، وعدم ختان البعض، ثم ظهورهم المتكرر أيام النوة، ودفنهم للموتى عقب انحسارها. هذه الملامح تسعى لتكوين بنية لجماعات بدائية من المرتزقة، أجسامهم قوية، وقد اختاروا هذه الحياة كبديل عن المجتمع المدني، ولكن الحضور الإبداعي المتناقض للعلامة يحول مسار هذه البنية، وفق تكرار الاستبدال والتغير في محتواها، فضلا عن تداخلها مع القطب المقابل/ المجتمع الأكثر تحضراً في شخصيات جمعة وكراوية، وعفيفي.
لسنا ـ إذاً ـ إزاء مجتمع في مقابل آخر، فقد أعيد خلق المراحل المختلفة من التراث الجمعي في صور أهالي البحيرة؛ لتصير أشباحاً للماضي، واستبدالاً للحاضر نفسه، أو إعادة تكوينه بالسكون السحري في شخصياته.
الجماعات هنا مستغرقة في الوجود والعدم معاً؛ إذ لا يمكن إرجاعها لتراث ثقافي محدد؛ إذ تتناثر فيه المراحل الحضارية لمصلحة التشكيل الجمالي؛ فالوجود الإبداعي لهذه المراحل يستبدل الماضي نفسه، تاريخه السابق، لمصلحة مستقبل هذه الصور والأطياف؛ هذا التاريخ الذي اختزل المجتمعات في طوطم مركزي، أو أيديولوجيا صلبة، أو بنية طبقية تحول الأنا إلى موقع التابع. إننا أمام انفلات للعنصر المركزي المشكل العلاقات المنتظمة للبناء الاجتماعي حين يختلط بجماليات الكتابة؛ فالقداسة تكمن في وجود الصورة، ثم تحوُّلها المستمر؛ ومن ثم تحويلها لكينونة أفراد المجتمع، وهويتهم الإبداعية، فتحدث انفصالاً بين المركز والتابع الذي يحتل موقع الأصل؛ فجمعة مثلا هو امتداد لأهالي البحيرة في صورة تجسد موقع قداستهم الخاصة، والمتمثل في الصندوق.
وتسهم العلامات الأخرى في الإضافة المستمرة لدلالات اختلاط الكتابة بأبنية المجتمع؛ مثل:
(1)
الترانيم الدينية في المعابد، يُعاد تكوينها في نغمات (الصندوق)؛ وهي تختزل الواقع، والتاريخ الإنساني أيضاً، ولكن في اتجاه المستقبل، واستشراف الإبداع المتحرر من الأنماط المسبقة.
الصوت هنا ليس مقدساً ولا داخلياً، فهو أثر للوجود التكويني في علاماته الأخرى. هو صمت جمعة، والآخر الغريب، هو الموت المتكرر لأهالي البحيرة وحضور النوة المغاير. إنه ما يحول وعي المجموع، من دون أن يعلن عن نفسه كمركز أو أصل لتكوين هذا المجموع.
(2)
السيف يستدعي حروب الماضي كأشباح حاضرة في الوعي التاريخي، ولكنه يقاومها بتشكيله الجمالي. هذا التشكيل الذي يسعى إلى مقاومة الأصل/ الحرب الحاضرة على الدوام. إنه يخون التراث من داخله. أما الوعي فيسجل حداثة الكتابة في خروجها عن المعني، لمصلحة تداعيات الصورة، وكأنه يفكك الإغلاق المقدس والمصاحب لكتابة الكهنة.
(3)
يستخدم (الصيد) كمركز لتجمع أهالي البحيرة، لخيانة الصيد نفسه، فالبروز الإبداعي لسمكة البياض، أذهل كلا من كراوية وعفيفي؛ السمكة هنا هي التشكيل الحي، والمتحرك من الأزرق والأسود والرمادي، والذي يستدعي مثيله في الغراب أو الهدهد من ذكريات الطفولة؛ إنه تحويل الأنا المدرك إلى موضوع جمالي غير مدرك بصورة مباشرة، ألا يفسر هذا الأمر تحول عفيفي وكراوية إلى أهالي البحيرة، ومن ثم موتهما الغامض؟
إن الفن ـ في (صخب البحيرة) ـ يحتل مواقع العلاقات الاجتماعية لأهالي البحيرة، لأن المغامرة الروحية فيه تتجاوز الأبنية المغلقة.
(كاتب مصري)
_________________
فاديا الخشن